وثيقة “نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع والمبدعين” (1976): 40 عاماً من العزلة

أنشر حسب وعدي وثيقة “نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع والمبدعين” (أبريل 1976) وهي تخطو نحو ميلادها الأربعين. وكنت كتبتها خلال توليتي قيادة العمل الثقافي متفرغاً بالحزب الشيوعي ما بين 1970 و1978. وهي وثيقة في التربية سعت لينمي الشيوعيون ذوقاً أرقى للإبداع ومحبة حقة للمبدعين لم تتوافر لوقتها. فقد كانت منطقة المبدعين في الدولة الاشتراكية عند السوفيات وغيرهم مجلبة عار لنا لتجهمها بوجه الإبداع حتى تلجمه أو تلعنه. وكان نظام نميري من الجهة الأخرى اقترب من بعض مبدعينا إما كموظفين بالدولة أو بغيرها وعقد معهم معاملات استفزت الشيوعيين. فلم يجدوا سماحة في أنفسهم لفهم واقع الردة البهيم الذي وثق عرى الدولة بمنابر الإبداع كما لم تفعل النظم التي سبقته. فعقد المهرجانات وعيّن أنواط التكريم، وأمم الصحف وغيرها. ولم يكن مستغرباً أن نرى في هذه الحقول الجديدة للإبداع والدولة ما لا نرضاه من خيار مبدعينا ولكنه مما يجب أن نصبر عليه ثقة في المستقبل.
التربية نادرة في الحركات السودانية الحديثة مثل الشيوعيين والأخوان المسلمين. ففي كليهما انتصر التيار السياسي (عبد الخالق والترابي) على التيار التربوي (جعفر شيخ إدريس وعوض عبد الرازق). والتيار الأول يقول لنخرج للسياسة بما لدينا من معرفة ونستدرك التربية والاطلاع لاحقاً. بينما يقول التربويون بوجوب العكوف عند التربية زمناً قبل أن ندخل ساحة السياسة. ومن أسف أن التيار السياسي لم ينجح في استدراك التربية أبداً وعاش على العموميات السياسية وضل ضلالاً كبيراً عن غاياته وأنتهى إلى صفوية تنازع دست الحكم بغير بصيرة. وحاول عبد الخالق ذلك الاستدراك مراراً بعرضه لمفهوم “المثقف العضوي” ولكن كان الحزب في أودية اخرى انقلابية وغير انقلابية مؤرقاً بثأر أكتوبر. ولا أعرف من نعى “عدم التربية” في حركته بعد المفاصلة في 1999 مثل الدكتور الترابي في تسجيل رائج على اليوتيوب.
ولكن كانت حركة الجمهوريين خلاف ذلك. بدأت بالسياسة المباشرة ثم ركنت للتربية بصورة كلية بما في ذلك الأناشيد العرفانية الروحية. وبالطبع كان لإهمال السياسة دخل في محنتها بشكل أو آخر.
و”نحو حساسية” تحذو حذو “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير” (1963) الوثيقة التربوية النادرة بقلم أستاذنا عبد الخالق. فهي زعمت أن تخلع النعال الضيق للشيوعيين من أصول البرجوازية الصغيرة ليتأدبوا بأدب الطبقة العاملة “التقيلة”. وهي طبقة تدأب نحو غايتها بسرعة خاصة وبعزائم غير منظورة تضيق بها البرجوازية الصغيرة فتجن، وتذهل، وتغامر، فتخيب.
والخير أردنا. فإلى الحلقة الأولى من الوثيقة

يلمس، حتى متلقي الأدب والفن العابر، أنهما يدخلان، في استشرافهما للبعث الروحي لشعبنا، جولة متقدمة في مواجهة كساد الردة (نظام نميري بعد يوليو 1971).
? فجبهة الإبداع تتحسس بعسر وذكاء باهر جوهر وقوانين تطورها (أي علم الجمال). ويتفاوت المسعى في أقسامها المختلفة من حيث النفاذ والسداد. وأميز هذه المساعي ذلك النقاش الذي ثار في حقل الفنون التشكيلية والموسيقى وفن الأطفال في حين تتأهل الأقسام الأخرى محكومة بتقاليدها وعوامل أخرى.
? * وهي تستعيد باقتناع بطيء ومبرر منابرها المختلفة (التجمع، الندوة، العرض، المعرض، المحاضرة، الاتحاد النقابي إلخ) لتحسين بيئة وشروط الإبداع. من الجانب الآخر يتضح أكثر فأكثر دور أجهزة الدولة (مصلحة الثقافة، المجلس الأعلى للفنون والآداب) كإمكانات توظف لخدمة العملية الإبداعية لا كمنتج لها كما أرادت الردة. ولما كانت قد أنيطت بتلك الأجهزة مهمة أرفع من صلاحياتها فنحن نجدها قد تردت أحياناً لتكون أداة قهر للإبداع أو المبدعين، أو استسلمت للخمول، او تفتقت عن أعمال صالحة نادرة.
? وهكذا نستطيع القول باطمئنان أن جبهة الأدب والفن اجمالاً تتخطى حالياً الانعكاس الخصوصي للردة وسطها. فهي تبطل سياسياً مشروع الردة الديماغوغي الذي افترض، وما يزال، تطور هذه الجبهة في غير شرط الحرية. وأتبع لتلك الغاية التكتيكات التالية:
– الاستعاضة بمؤسسات الدولة (مجلس أعلى للفنون والآداب إلخ) عن المبادرة الذاتية للمبدعين للتحلق حسب مزاجهم الإبداعي، أو تصنيفهم العمري والنقابي في منظمات أهلية. ولم تكن هذه قناعة الطاقم السياسي للردة فحسب. فلهذه القناعة (أن تنشأ منظمات دولة منتجة للثقافة) ظلال ومريدون بين المبدعين أنفسهم ممن لامسوا ازدهار المؤسسة الثقافية الرسمية في مصر في آخر الستينات، أو من بين الطاعنين في السن الذين تتسرب أعمارهم وتبدو الدولة في نظرهم أحنى وأدنى ثماراً من التاريخ. ولا تبدي السلطة حالياً إصراراً على كبح تلك المبادرة الخاصة في منبعها ولكنها تسعى لتصب في اتحادها الاشتراكي الفرد بمثل تخصيص عدد من المقاعد لمنظمات المبدعين في مؤتمراته وغيرها. واستطراداً نقول إن عتاة معارضي الالتزام (التزام المبدع بتصنيف سياسي أو حزبي) سيجدون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه. فهذا التزام (بالأحرى إلزام) مطروح لأول مرة من غير موقع الشيوعيين: مطروح بالأمر المخول له. وقد سمحت السلطة لمبدعي الأقاليم بتكوين اتحاداتهم كجزء من نشاط أمانات الفكر والدعوة (للاتحاد الاشتراكي) كما في مدني وبورتسودان. وربما قبلت طائفة من مبدعي الأقاليم بهذه الصيغة لتتخطى قيد الإقليمية وتتصل بأجهزة الدولة الثقافية والاعلامية.
– الإغراق في مهرجانات (ثقافية سنوية) مهرجانات مهرجانات حللنا طبيعتها العامة في ما مضى كرؤوس جسور تمدها الردة إلى ساحة الإبداع. فكل يريد أن يشغل نفسه أو يوطدها بشيء فاقع ذي ضجيج. كما هو واضح من وجهة المهرجانات المطروحة حالياً أن الردة بسبيل اجتذاب طاقم آخر من المبدعين عزف في السابق عن ملامسة منابرها أو ممن كانوا على هامش نشاطاتها.
– إظهار حرص لزق وزائف ووقتي بالمبدعين في ما يسمى التكريم. وكان في أحد وجوهه رشوة “شخصية” غير مجزية للمبدع حيث لا يحيط بإبداعه أو بكامل شروط حياته وإنتاجه ولا يضيف جديداً لعملية الإبداع بعامة.
كما نستطيع القول بنفس الاطمئنان، ويإيجاز يقتضيه المقام، إن الرؤيا الإبداعية تتخلص الآن من أدواء الشكلية والزخرفية العمرحاجموسية (العميد عمر الحاج موسى اشتهر بكتابات من ذلك القبيل). وهي أدواء أفرزتها الردة حين سيّجت بالقمع والاحباط محتوى الحياة ونبضها كثير الاحتمالات، ولم يبق أمام نفر من المبدعين غير التلهي بالوحدات الزخرفية واللغوية والنغمية والتراثية.
أفضل وجه ومنهج نلامس بهما هذه الجبهة هو التقيد بما تقتنع به هي نفسها من أوجه تدخلنا ومساعدتنا. ويتضمن ذلك إقرارنا بقيامها على قوانين حركة خاصة بها في نسيج قوانين التطور العامة.
ندخل على هذه الجبهة من ثلاثة أبواب:
1- الحفاظ على أفضل تقاليد حزبنا تجاهها وهي التقاليد التي أرساها عبد الخالق محجوب (سكرتير الحزب حتى مقتله في 1971) بذوق شفاف وكدح سياسي مستنير والاقتداء بأميز النظريات الماركسية نحوها:
? ليس في حزبنا موضع لناقد رسمي أو أكثر. لا “رأي” للحزب في إبداع ما. يستعين نفر منا، مهموم ومشهود له بالكفاءة والانصاف وسلامة الحس، بالماركسية لتذوق وتقويم النتاج المطروح، فيعطي المتلقي والمبدع معاً قراءة ثانية له من زواياه العديدة واحتمالاته المختلفة. وهكذا تخرج “الملايين من الجماهير التي تتلقى بطريقة خالقة كل عمل فني” (عبد الخالق، وثيقة حول البرنامج وهي آخر ما كتب في معسكر الشجرة خلال اعتقاله التحفظي).
? لسنا ملزمين بالدورة الأوربية في مدارس الابداع واتجاهاته بما في ذلك تلك التي انتسبت تقليدياً للماركسية من غير تحلل أو ترخيص بالجهل. لسنا نطلب أكثر من الصدق الفني. وهو مطلب مشروع يتفق فيه معنا المبدعون بإجماع: يا شعراء السودان أصدقوا، وكفى (عبارة للناقد والشاعر حمزة الملك طنبل). ونترك للمبادلة بين النقد والتذوق إكمال الدورة.
? قال ماركس” “الشعراء بحاجة إلى إعزاز.” ما أحرانا اعتبار ذلك في بيئة في تخلف بيئتنا، وتسكنها حالياً شياطين الردة الشرسة، حيث يبدو كل إبداع حقيقي مشروعاً لإنسان مستوحد. لقد عاشت الردة بيننا زمناً لم يسلم فيه غير القليل من المبدعين من التعثر في مزلق أو آخر من مزالقها. وقد جرتهم إلى ذلك مقتضيات التقية لشاغلي الوظائف الأميرية، أو سيطرة الدولة على أجهزة الاتصال بالجماهير والنوال، أو ضعف البصيرة السياسية (الغشامة)، وهو داء شائع بين أميز المبدعين. ونحتاج تجاه هؤلاء، كتنظيم، إلى سماحة قائمة في المسئولية الشهمة. والمسئولية الشهمة، بالنسبة لحزب يعمل يعمل في السياسة باستنارة، هي بالضبط المؤاخذة المحيطة المفعمة بالعناية، التي تفتح الباب لكل احتمالات المستقبل. وهي سبيلنا حتى لا يسقط مبدع قادر واحد في حظيرة الردة نهائياً من جراء الاحساس بالانفصام والمحاصرة، علماً بلؤم الردة المشاهد، واستهانتها حتى بمن تصادف له الثقة فيها أو الاقتراب من فكرها وأجهزتها. وهذا مسلك واجب تجاه جماعة هي أقلية متناهية، بأي مقياس، وتمتلك مع ذلك الوجدان الذي يختزن شفرة “الوجود المغاير” الذي رنا إليه التجاني يوسف بشير.

قال الشيوعي الألماني الممتاز ليبكنخت لماركس: “لقد رفضت أن أقابل الشاعر هايني في باريس لأنني علمت أنه يأخذ إعانة من المستبد لويس فيليب ووزيره جيزو.” غضب ماركس ووبخ ليبكخت قائلاً: “لا يفكر بهذه الصورة إلا برجوازي صغير دعيّ. فبمثل هذه الموعظة لا تعاقب إلا نفسك حين تحرمها من الكلام مع أحكم معاصريك.”
+++++
ونتابع.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. زيماوعدتك يادوك فى المرةالفاتت حاْسمعك باقة من الاغنيات الجميلةالبسمعاوانافى عربيتى التاونس الحمراء فى طريقى لجامعة الخرطوم لما يكون عندى مقابلة فى قسم الانثروبولجى ..عندك من وردى :وااْسفاى وبينى وبينك والاْيام وبعداْيه ومن العميداْحمدالمصطفى :فارق لاتلم وحاولت اْنساك واْشكى واْبكى لى مين .. ومن عثمان حسين:عشرةالاْيام واْوراق الخريف ومالى والهوى . وزى ماشايف يادوك الاْلبومات دى كلها بتناسب الحالتين:التاونس الحمراءوالانثربولجى .وعشت.

  2. 1.【فقد كانت منطقة المبدعين في الدولة الاشتراكية عند السوفيات وغيرهم مجلبة عار لنا لتجهمها بوجه الإبداع حتى تلجمه أو تلعنه】
    اكاد اجزم بانك تعلم ان شائكية طبيعة العلاقة بين السلطه والابداع ليست خاصية اشتراكية صرفة: تجدها في ميكارثيه اميركا ذات النظام الليبرالي، وفي غرفة ثقافة المانيا النازية ذات النظام الفاشي، بل وتجدها في اثينا ارسطو الذي جرعته هذه العلاقة السم. فهذه العلاقة ال كلب-قطية صراع ازلي بين السلطة والابداع (قال فيها ميشيل فوكو، مثلا، الكثير السديد).
    2.【وهكذا نستطيع القول باطمئنان أن جبهة الأدب والفن اجمالاً تتخطى حالياً الانعكاس الخصوصي للردة وسطها. فهي تبطل سياسياً مشروع الردة الديماغوغي الذي افترض، وما يزال، تطور هذه الجبهة في غير شرط الحرية】
    هذه الجمله يمكن ان تقف مثالا لطريقة كتابة ع ع ا: صاعقة البلاغه، صعبة الفهم، erudite,تنز معرفه، ضبابيه المرمي الفكري، زئبقيه المدلولات والمترتبات السياسية.
    3. 【 لسنا نطلب أكثر من الصدق الفني. وهو مطلب مشروع يتفق فيه معنا المبدعون بإجماع】
    جوهر الوثيقه جرئ وليس لدي عليه اعتراض مبدئي، ولكنه يجلب معه الاشكالية التالية: من يحدد متي (وكيف) ان هذا وهذه وذلك وتلك قد سما/سمت الي مقام المبدع الذي ينادي له ع ع ا بهذه الحريه الاستثنائية؟ هل سيشمل الاختيار كل ضارب ماهر للطنبور وكل ناظم وشاد فذ للدوبيت وكل بنت نابغه في اغاني البنات؟ وكل لاعبي الدوري الممتاز؟ ووووو؟ اظنك تري الصعوبه العملية هنا.
    4. ع ع ا ربما يمكن اعتباره اكثر السودانيين المعاصرين تملكا لفن الكتابة المقالية، وقد لا تعد عشرة كتاب لها في العالم العربي وتتخطاه بحق. ولكنه كاتب مزعج. خذ مثلا هذا المقال: ما الداعي لكتابته ولم تمض ايام لقوله لنا ان الحزب الشيوعي متخلف النمو بحكم تركيبته، ولا ينبغي ان يبقي به عاقل تخطي الجامعة. وانهم، اي الشيوعيون، قبيحون _ رفاقيا وسياسيا. فلم هذا المقال؟ ينتفي قصد الاصلاح في رائي، اذ ان الحزب كما حكم ع ع ا قبل ايام مجددا retarded by default. وحتي اذا كان دافعه المثاليه والحب اللاعقلاني للحزب الشيوعي الذي يجعله يحاول المستحيل في سبيل اصلاحه، فانه لن ينجح هنا لانه بطريقه نقده (وعضه) له يخدش تابوا في “شفره الوجدان العربي في الانسان السوداني” كما يقول، و هو التابو الذي يقول:
    {لاتسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كاس الحنظل}

  3. يا استاذ كنت اري ايضا من تاملاتي ان الحزب الجمهوري اكثر الاحزاب وانتقد عدم ميله للسياسة في رسالة للسيدة اسماء علها تطور الامر بمانات وسياسة وقد كان مقتلهم كما ذكرت كما كان مقتل الاخرين في ركوب السياسة واهمال التربية وحقيقة المبدع ايا كان لابد له من الحرية الكاملة تقييده بالسياسة او النجر فيه ليس سليما لكن داء السلطه كما تري داء قديم وطن باكمله لعب به الترابي لطوعي شخصي الدولة ليست محله قارن الفرق بين الترابي ومهاتير محمد فقط اطلب شئ لو كانت لك مذكرات او اوراق او اراء تبديها لنا في قريبنا عوض عبد الرازق (ود المامور )كما نطلق علي اسرته بالجابرية وهو له مصاهرة مع ال حمور الكرام وفي ال حمور اخواني من اليسار اولا د/ بابكر عوض رخحمه الله ثم شقيقه د/عمر قبل ان يتحول للاتحادي رحمه الله وهل لديك من اسرار هروب د/محمد عبد العال حمور بمجرد وقوع انقلاب نميري وهو شيوعي اتراه قرا المسالة بابكرا والي الان لا يعود الا في الاجازات وقد صادفته في الدوحة علي عجل بمناسبات لا تسمح بالسؤال بمنزل شقيقه برف ميرغني عبد العال رئيس التجمع بالدوحة وشكرا ولو علي بريدي الخاص

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..