الملكية يرسمون لوحة للتاريخ ولحظة لغمار الناس والشعب

الخرطوم – الزين عثمان

لم نكن مسيئين بظننا أن الخرطوم مدينة يمكنها أن تهبك بعض الأفراح، وما يمكنك أن تتيقن منه أن المدينة ذاتها تملك قدرة مدهشة على خلط حزنها ببعض الفرح المسروق من اللحظة الرابعة والنصف بتوقيت أمدرمان، إستاد الخرطوم خليط من الدهشة الأولى أو الوطن القديم – سمها ما شئت – (الملكية جوبا) ممثل السودان السادس في بطولات الاتحاد الأفريقي وموعدا من تاريخ البدايات في التمثيل.. البدايات تعود بك إلى النهايات؛ النهاية تم التوقيع عليها ذات صباح جعل الوطن الواحد بلدين دون أن يستطيع أن يعبر برسمه إلى (جوّاة الناس).

تسعون دقيقة وبعض من الزمن المستقطع نتيجتها النهائية كانت خسارة فريق الملكية لمباراته الافتتاحية بهدف من (كارا الكنغولي) الذي وضع خطوة في العبور إلى المرحلة التالية من المنافسة. ربما لم تكن تلك هي القضية، فالأمر لم يكن مجرد مباراة لكرة القدم بل لحظة استغلها الحضور لإرسال رسائلهم الأخرى في لحظة اختلاط النخل بالأبنوس، لم يكن بعيداً أن تختلط الرياضة بالسياسة أو بعدم الرضاء عن الذي حدث.

مشهد أوّل

الاستاد ينتظر الداخلين اليه، خمسة جنيهات هي ثمن الدخول أو ثمن تذكرة في المساطب الشعبية، أول ما تصل إلى هناك يرافقك السؤال: ترى لماذا يضعون المساطب والناس يقفون؟ يمكنك إعادة رسم السؤال بصورة أخرى: ترى لماذا يقف الناس؟ أول ما يجيبك هي ممارسة الرقص الجماعي المختلط بهتافات (الفوفوزيلا).. المكتشف الجنوب أفريقي يظهر في الملاعب الخرطومية في دعم فريق الدولة الجديدة وكأن تلك الفتاة الأبنوسية حين نفخها وإخراج الهواء الساخن تتساءل: “أما كان أجدي لنا مصالحة كتلك التي قام بها نيلسون ونجعل النيل يواصل سريانه الطبيعي دون أن يقطعه خط وهمي في جودة الحدودية؟”

تتجاوز هي نفسها السؤال الذي يدور في خلدها حين تذوب الحدود بينها ومن يشاركها الهتاف والحلم الواحد وإن كانت مساحته فقط ساعة ونصفا، يضحكون من الواقع أو عليه سواء قبل أن تسمع هتافا جنوبيا بنغمة سودانية (يا زول جيب العلم دا) تتداخل عليك الألوان والحدود يا ربي هو جنوبي دائر علم الخرطوم؟ ولا خرطومي دائر علم الجنوب؟ “ياخ انسى الفكرة”.. صوت آخر يعيدك للملعب الذي قد تجهل وانت في ملاحظاتك ما يدور داخله وما يفعله من يتقاذفون الكرة.

مشهد تاني

الحضور اختار المدرجات (الشمالية) في الاستاد مسرحاً للغناء والتشجيع، أهل الجنوب كانوا السابقين في الحضور وكأنهم يستبطنون فكرة أن (البكاء بحرروه أسيادو) قبل أن يلحق بهم الآخرون في ذات المدرج ويبكون معاً وبصوت واحد يهتف للملكية وللسودان: (الملكية مية مية) بعربية طليقة وبعربية أخرى (ملكية رجالك نار) دون أن تتوقف الأيادي من التصفيق وفجأة تتغير النغمة نحو أخرى مدخلها سوداني الطابع ويهتف به من يضع علم المريخ فوق رأسه (فوق فوق ملكية فوق)..

هابطاً من المدرج تقف عيونك أمام صف آخر يتمدد بامتداد النظر: إحدى الفرق الغنائية والرقص الشعبي تغني لأهل جوبا ولجوبا ولملكيتها بينما اكتفى آخرون بالتعلق في السياج المحيط بالملعب ينتظرون أن تتهادى الكرة في الشباك لينضموا إلى ركب الراقصين.

مشهد بالصوت

“ياي بلدينا وكلنا أخوان.. سوداني بلدنا”.. الهتاف يأتي من ذلك المشجع الجنوبي الممسك بمكبر الصوت يردده الآخرون.. البعض ترك دمعته تتسرب غير آبه بها وكأنه يقول على ناس البلد لتنذرف الدموع، أحد حاملي الوية الهتاف وكأنه يقرأ ما يدور في خلد الجميع حول مجرى الغناء (جوبا مالك عليا) تنتهي أصوات الغناء بصوت آخر يهتف “ياخ شووووت” وأنفاس تنحبس في انتظار الفرج بهدف سوداني لم يأت حتى النهاية.

مشهد بالإعلام

ربما هي الصدفة التي جعلت الإعلان (خليك سوداني) هو الخلفية التي وقف أمامها المشجعون في وقت لم تكن السودانية تحتاج في تلك اللحظة لمن يعيد تقسيمها على هدي اتجاهات الشمال والجنوب.. علم جوبا مثل اللاوي كان يحيط أمس بالكثيرين بغض النظر عن لون جوازات عبورهم، وذات الفعل كان يقوم علم الخرطوم بألوانه الأربعة، يضاف لها لون المستقبل في ابتسامة تلك الطفلة المحمولة على كتف أمها يحيط بها الهاتفون لحلمهم الآتي أو المنادون على ذاك الذي ضاع ذات صباح. عموماً كانت الأعلام هي الحكاية التي حملها الجمهور رسائله أثناء المباراة وعقب إعلان صافرة نهايتها.

مشهد من المقصورة

في الطرف الآخر من الملعب جلس آخرون يشجعون الملكية جوبا دون أن تتاح لك لحظة التعرف عليهم وعلى خلفياتهم فقد كانت اللحظة لغمار الناس وللشعب أكثر منها لأي مجموعة أخرى ولكن البعيد سرعان ما يأتيك صوته.. كان الصوت هو صوت المذيع الداخلي في استاد الخرطوم وهو يعلن أن الزعيم الأزهري رافع راية استقلال السودان الواحد وصاحب مقولة إنه بلا شق أو طق كان رئيساً لفريق الملكية جوبا وظل ملتزماً بعضويته حتى مماته.. وربما هذا الأمر هو الذي يفسر حالة التماهي الكبير مع الهتاف (أووه ملكية) من قبل جمهور المقصورة الرئيسة في استاد الخرطوم عصر أمس.

اتفاق هلاريخي

شكلت روابط التشجيع للهلال والمريخ حضوراً كبيراً في مباراة الأمس واتفقت على ضرورة دعم الفريق الجنوبي في مباراته الأولى في تأكيد على عمق أواصر الحب بين السودانيين رغماً عن أنف قرار الانفصال في صباح سابق من صباحات السودان الكبير.. بينما برز المشجعون بثوبهم الأحمر الكامل عند المريخاب وتوشح البعض بعلم السودان في وقت اكتفى فيه مشجع المريخ الجنيد بصفارة لم يتوقف عن النفخ فيها طوال زمن المباراة.

شحن العواطف

ربما يظل هو المشهد الأكثر توصيفاً لما حدث في مباراة الامس وأحد الحاضرين يعلق: “الظاهر إنو الناس ديل كانوا بفتشوا للحظة يعيدوا فيها شحن عواطفهم وتجديد التواصل بالمحبة” ووجدوا في مسرح استاد الخرطوم وفي فريق الملكية ما افتقدوه في أماكن أخرى لدرجة أن كثيرين لم يكونوا يهتمون بالمباراة في حد ذاتها بقدر اهتمامهم بالتفاصيل المحيطة بها وبالذين يشاهدونها، فالكل كان يغني وطنا يرسمه في مخيلته ويستعيد تفاصيله من داخل الاستاد.. البعض استعاد مشهد تأبين قرنق الثاني حين أوقد السودانيون الشموع متعهدين بالمضي في طريق المشروع الذي يوحدهم ربما هو المشهد الذي دفع بأحدهم للقول إنه جاء للاستاد للالتقاء بدكتور جون الذي لم يكن حاضراً في وقت لم يكن فيه غائباً عن كل المشهد.

صافرة النهاية وبدايات جديدة

عند السابعة وثلاث دقائق أعلن طاقم التحكيم نهاية المباراة بخسارة ممثل السودان لنتيجتها بهدف ولم تكن صافرة النهاية سوى بداية لمداخل جديدة.. تقابلك عبارة إحدى اللافتات المحمولة من صغار الخرطوم تلاتة وهم يرحبون بفريق الملكية في وطنه (الثاني).. العبارة نفسها تسقط في امتحان اللحظة حيث لم يكن السودان وطنناً ثانيا ولم يكن رفاق ريتشارد أجانب في استادهم ولم يكن حارس الملكية وهو يذود عن المرمي والحلم أجنبيا فقد كان الكل يغني بنص واحد وبمصير مشترك ويمارس ذات الحزن بنفس الدرجة ويخرج بذات الذي دخل به هتاف: “ياي بلدنا وكلنا أخوان سوداني بلدنا

اليوم التالي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..