مقالات سياسية

خاطرة وتأمل: هل نحتاج لإعادة النظر في السياسات التعليمية في السودان؟

د. حسن المهدي البشرى الغبشاوي

قدّم لي صديقي الأخ الكريم، البروفيسور إبراهيم باني، دعوة كريمة لحضور مأدبة عشاء جمعتني مع مجموعة من زملائي الأطباء خريجي جامعة الخرطوم. شاركنا اللقاء أيضًا عدد من خريجي مدرسة خورطقت الثانوية، وكان لقاءً مميزًا حضره كبار المسؤولين من وزراء اتحاديين وإقليميين، بالإضافة إلى رجال أعمال وأطباء ومهندسين، وبعض من عمل في منظمات الأمم المتحدة.

استعرض الحاضرون ذكرياتهم الجميلة، متحدثين عن أساتذتهم الأجلاء وليالي السمر التي أحيتها فرقة الفنون الشعبية المتنوعة في المدرسة. كانت هذه الفرقة تجوب السودان وخارجه، معبّرة عن ثقافة السودان الغنية والمتعددة. لم تكن تفرّق بين الناس، بل قدمت السودان لوحة واحدة نابضة بالحياة. أدركت من خلال حديثهم كيف ساهم هذا التلاقي القديم في ترسيخ الشعور بالوطنية وتعزيز النشاط الوطني الذي دعم حركة الاستقلال السوداني. كان مشهدًا جميلاً يستحق التأمل والاحتفاء، بل والاستفادة منه لبناء مستقبل أفضل عبر إعادة إحياء المبادرات الثقافية التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم.

أثار اللقاء انتباهي بروح المحبة العميقة والألفة الصادقة التي سادت بين الحاضرين، رغم أن الكثيرين منهم لم يلتقوا منذ أكثر من ثلاثين أو أربعين عامًا. سألت نفسي عن سر هذا الود، فجاءني الجواب من سعادة السفير الفاتح عبد الله يوسف الذي قال: لقد نشأوا جميعًا في مدارس داخلية جمعتهم من مختلف أنحاء السودان، حيث سادت بينهم بيئة يسودها التعاون والتآخي بعيدًا عن العصبية الجهوية أو القبلية.
زادني هذا اللقاء قناعة بأننا بحاجة ماسّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى استعادة هذه الروح لبناء سودان موحد يقوم على قيم المحبة والانتماء الوطني. ومن هنا تبرز ضرورة إعادة النظر في سياساتنا التعليمية، بحيث تقوم على التنوع والشمول والانفتاح، وليس على الانغلاق المحلي الضيق. ينبغي أن نجعل التعليم منصة لترسيخ الوحدة الوطنية وصناعة مستقبل أكثر إشراقًا.
التنوع الثقافي يمكن أن يكون مصدر قوة للدولة حين تتم إدارته بطريقة عادلة تضمن الاحترام المتبادل والمساواة بين مختلف المجموعات، وعندما يُستخدم لتعزيز الإبداع والتجديد، حيث يؤدي تنوع الخلفيات إلى تعدد الأفكار والحلول. ويكون جسرًا للتواصل مع العالم مما يساعد على بناء علاقات خارجية قوية مع دول وثقافات متعددة، وعندما يشعر جميع المواطنين بأنهم متساوون دون تمييز ثقافي أو عرقي، مما يعزز الانتماء الوطني والاستقرار الداخلي.
أما حين يُستغل التنوع لإثارة الفتن والصراعات الطائفية أو العرقية، أو حين تفشل الدولة في تحقيق العدالة والمساواة بين مكوناتها المختلفة، أو تغيب السياسات التي تنظم التنوع وتحوله إلى مصدر إثراء لا صراع، فإن التنوع يتحول إلى نقطة ضعف خطيرة. كذلك عندما تكون الهوية الوطنية ضعيفة أو مشوشة، تقدم بعض الفئات انتماءاتها الضيقة على الولاء للوطن.

للتنوع الثقافي مظاهر إيجابية كثيرة. فهو يعزز الإبداع والتجديد حيث يؤدي تنوع الثقافات إلى تنوع الأفكار والأساليب ويغني الفنون والآداب والعلوم. كما يعزز التسامح والانفتاح لأن العيش مع ثقافات مختلفة يربي على قبول الآخر واحترامه. ويساهم في تقوية الهوية الوطنية الجامعة عندما يشعر الجميع أنهم جزء من نسيج واحد. ومن مظاهره الغنية أيضًا الثراء الاجتماعي عبر تبادل العادات والتقاليد والمأكولات والفنون. التنوع الثقافي يشكل كذلك قوة اقتصادية وسياحية، لأنه يجذب السياح والمستثمرين ويقوي العلاقات مع الدول الأخرى، ويسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا عندما يُدار بشكل عادل ومنفتح.

هناك دول كثيرة استفادت من تنوعها الثقافي بشكل رائع. فالولايات المتحدة، المعروفة بأمة المهاجرين، جعلت من التنوع مصدر قوة في الابتكار والاقتصاد والفن. وكندا تبنت التعددية الثقافية كسياسة رسمية، مما جعل التنوع جزءًا أساسيًا من هويتها الوطنية. وسويسرا استطاعت عبر اللامركزية السياسية أن تحترم تنوع لغاتها الأربع وتصبح واحدة من أكثر الدول استقرارًا وازدهارًا. وسنغافورة، رغم صغر مساحتها، نجحت في إدارة تنوعها الثقافي بين الصينيين والملاويين والهنود بطريقة جعلتها من أهم المراكز الاقتصادية في العالم.

على الجانب الآخر، هناك دول كان يمكن أن يكون تنوعها مصدر قوة، لكنها فشلت في ذلك بسبب سوء الإدارة. فمثلاً يوغوسلافيا السابقة تفككت بعد حروب أهلية دامية بسبب النزاعات العرقية. ورواندا شهدت واحدة من أبشع الإبادات الجماعية نتيجة لصراع الهوتو والتوتسي. والعراق، رغم تنوعه الغني، عانى من الطائفية والاقتتال. ولبنان، رغم ثرائه الطائفي والثقافي، عانى طويلاً من النزاعات بسبب النظام الطائفي العميق.

من أهم أدوات إدارة التنوع الثقافي بنجاح هي السياسات التعليمية الممتازة. التعليم يغرس قيم الاحترام والتسامح منذ الصغر، ويوازن بين الخصوصيات الثقافية المختلفة وبناء ولاء مشترك للوطن. من خلال تعليم تاريخ وإنجازات جميع المكونات، وتطوير مناهج تشجع التفكير النقدي والحوار، يخلق التعليم جيلاً قادرًا على التفاهم الحضاري. كما أن توفير فرص تعليم متساوية لجميع الفئات بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو العرقية يسهم في تقليل الفجوات الاجتماعية. دعم التعدد اللغوي في المدارس يعزز التنوع بدلاً من أن يجعله مصدرًا للتهميش.

التعليم الممتاز لا يقتصر على تلقين المعرفة، بل يصنع عقولاً واسعة الأفق، ويحول التنوع إلى طاقة دافعة نحو الوحدة الوطنية والازدهار.
من المدارس القومية الرائدة التي صنعت هذا الاندماج الوطني، مدرسة خور طقت الثانوية التي تأسست عام 1931م في مدينة الأبيض. سميت المدرسة نسبة إلى خور مائي موسمي يُسمى خور طقت. وقد كانت واحدة من أعرق المدارس الثانوية في السودان، وأسهمت في تخريج نخبة من القادة والمفكرين، وعُرفت بانضباطها ومستواها الأكاديمي الرفيع، وكانت تعتمد نظام السكن الداخلي الذي عزز الألفة بين الطلاب من مختلف أنحاء السودان.

المدارس القومية مثل خورطقت ووادي سيدنا وحنتوب، وكذلك جامعة الخرطوم، كانت معاقل لصناعة الوحدة الوطنية في السودان. استقطبت هذه المؤسسات الطلاب من مختلف الأقاليم، مما أتاح لهم فرصة التفاعل والاندماج، وأسهمت في بناء جيل قادة يؤمنون بوحدة السودان ويتجاوزون الانتماءات الضيقة.

من الأفكار التي طرحت في لقائنا المبارك بإذن الله ضرورة إنشاء مدارس قومية في كل ولاية، تستقطب طلابًا من جميع أنحاء البلاد وتوفر لهم تعليمًا داخليًا. ستسهم هذه المدارس في تعزيز الوحدة الوطنية وبناء مجتمع أكثر تلاحمًا، رغم التحديات التي قد تواجهها، مثل العزلة الثقافية أو تفاوت جودة التعليم، وهي تحديات يمكن معالجتها بالتخطيط الحكيم. وتسعى دفعة خريجي خورطقت التاسعة عشرة بحماس وإصرار إلى إعادة الروح لمدرستهم العريقة وبناء مدرسة جديدة تحمل ذات الاسم المحفور في ذاكرة المواطن السوداني ونهج ذات المنوال الذي نأمل أن يساهم في تقوية الوحدة الوطنية.

ختاماً، التنوع الثقافي ثروة عظيمة، تظهر في الفنون الشعبية والعادات والتقاليد واللغات والحكايات الشعبية. هذا التنوع يعزز الفهم المتبادل، ويحفز الإبداع والابتكار، ويقوي الهوية الوطنية الجامعة. يجب أن يكون التنوع مصدر فخر وقوة، وأن يحتفى به كرمز لثراء الأمة السودانية.

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. من طقت الكبرى تخرحت افواج الطلاب الى ذرى العلم والمعرفة فساهموا فى البناء والتنمية ليس فى السودان فحسب بل العالم قاطبة فقد درس معنا فى خورطقت الثانوية طلاب من اليمن والصومال وكينيا ويوغندا وكان من بين المعلمين مصريون وخواجات ونيجيريون ولبنانيون…. تصحيح بسيط خورطقت الثانوية تاسست بعد حنتوب الثانوية عام 1948م وكان من اشهر نظارها عصام حسون .. عبدالباقى محمد…. احمد محمد على نمر…. الخور مدرسة نموذجية رائدة يمكن ان تؤسس مدارس مثيلة على كل ارجاء السودان فقد كان التنافس حادا فيما بينها حنتوب .. خورطقت…. وادلا سيدنا والتى تحولت للاسف الى كلية حربية لم تقدم للسودان سوى صناع الانقلابات ومدرسة الفاشر التى انضمت لاحقا ولا ننسى بورتسودان الثانوية والمؤتمر رفم ان الاخيرة لا توجد داخليات مثل مثيلاتها الاخريات ولكنها كانت تنافس بجدارة.. الفكرة جيدة جدا واتمنى ان ترى النور وتصير واقعا بيننا

  2. مما اذكر مرة كنت استمع الي لقاء خاص عبر هنا ام درمان مع د.جلال يوسف الدقير الوزير السابق وعن ذكرياته في خورطقت ومن ثم جامغة الخرطوم حيث ذكر انه بعد تخرجه وسفره ال بريطانيا لمواصلة الدراسة لم يزدد من الانجلزية في بريطانيا الا مقدار 10% فقط وان لغته الانجلزية كسائر خريجي المدارس تللك كانت بنسبة 90% اما في زمنا فتلاقي طبيب يتخرج من جامعة الخرطوم وكل ذخيرته من الانجليزية المصطلحات العلمية اما الانجليزية كلغة فيرثي لها .اتمني تطور التعليم في البلد فتلك اول خطوة للرقي والتقدم ..ويتم ذلك عبر قبول الكفاءات في مجال تخصصات كلية التربية فلا يعقل ان يقبل في هذه الكلية المهمة الذين بالكاد يحرزون 50% فالاستاذ الفاشل لا يمكن ان يخرج جيل ناجح .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..