صورة السودان في البرلمان الأوروبي : متلازمة الفشل السياسي والدبلوماسي والأمني

د.حمد عمر حاوي- أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري

(1) صورة السودان في إفريقيا: راعي الإرهاب ومضطهد الأفارقة
في العام 2003 كانت منظمة بحوث العلوم الإجتماعية في إفريقيا (CODESRIA) تقيم مؤتمرها العام حول مستقبل بناء الدولة في إفريقيا في أديس أبابا/ إثيوبيا، وكنت أحد المشاركين بدافع البحث العلمي والمعرفة. لقد كانت أولى الصدمات القاسية عندما تبيّنتُ أن خطر الإرهاب والحروب قد برزا كأكبر تحديات بناء الدولة في إفريقيا بعد أحداث التفجيرات في نيروبي ودار السلام والصومال، وأن السودان كان سيد الساحة كأكبر خطر ومهدد من خلال دعم الإرهاب ونشره جنوباً إلى القارة ومحاولاته إبادة مواطنيه الأفارقة في جنوب السودان (بحسب رأى غالب المتحدثين).

ورغم أني قد كنت غير موافق على سياسات النظام الحاكم، والذي لم يدعم أو يؤهل أو يرسل من يدافع عنه في مثل هذه المحافل لإنشغاله بسياسات التمكين، إلا أنني قد وجدت نفسي مضطراً للدفاع عن وطن إسمه السودان. وجدت نفسي مضطراً لأترك جانباً كل ما سهرت من أجل إعداده من تصورات علمية نظرية عن أسس جديدة لبناء الدولة في إفريقيا، لأنبرى لتصحيح الصورة المغلوطة عن السودان والسودانيين، من على المنبر ومن خلال المناقشات الخارجية، خصوصاً مع بعض المسلمين الأفارقة الذين كانت تجمعني بهم مائدة إفطار رمضان مساءً، ومنهم كولمبا محمد اليوغندي وحسين الكيني- الصومالي، حيث طلبت منهم كاكاديميين وباحثين أخذ معلوماتهم من الواقع مباشرةً وليس من أجهزة الإعلام، مع علمي بأن الدبلوماسية السياسية والأكاديمية السودانية ما كانت لتكترث كتيراً لمثل هذه المجالات، ومع علمي بتخوف الأفارقة أوانها من زيارة السودان.

وعندما أتاحت جامعة إفريقيا العالمية فرصةً لذلك من خلال مؤتمرها عن اللغات والهوية في إفريقيا، سررت جداً عندما قابلت كولمبا محمد اليوغندي من بين المشاركين. سألني كولمبا محمد وهو يدخل القاعة سؤالاً بسيطاً يكشف عمق المأساه: أين العرب وأين الأفارقة؟ وأفصح لي بأنه عندما دخل القاعة كان يعتقد أنه سيجدها مقسومة إلى شقين: شق يجلس به الأفارقة، حيث كان سيختار الجلوس معهم، وشق آخر مخصص للعرب لإستحالة الجمع بينهما بحسب الصورة الذهنية السائدة عن السودان في إفريقيا أوانها. أجبته إجابةً بسيطة وعميقة: أن أي شخص تراه هنا هو العربي وهو الإفريقي في نفس الوقت. وأسفت على دور الحكومة الغائب في تحسين صورة الوطن والمواطن أمام العالم. تلك الصورة الذهنية التي كانت من نتائجها وساطة الإيقاد المنحازة لإنفصال الجنوب بزعم إنقاذ مواطنيه الأفارقة من إضطهاد العرب والمسلمين.

(2) الصورة الذهنية للسودان في أوروبا: ما أشبه الليلة بالبارحة!!
وفي يونيو 2015 دُعيت للمشاركة في جلسة إستماع بالبرلمان الأوروبي عن: الحوار الوطني والسلام في السودان، برغم أن للجلسة وللأوروبيين مآرب أخرى (غير خبيثة) ما كان يمكن الإفصاح عنها قبل أو خارج نطاق الجلسة كما سيتضح.
لقد كانت صدمتي كبيرة عندما بدأت مدام ميري كريستيان فيرجيا Marie-Christine Vergiat البرلمانية الفرنسية في البرلمان الأوروبي ورئيسة الجلسة بتقديم عميق أسفها واعتذارها وإدانتها لما أسمته بالأسلوب القاسي الذي تعامل به البوليس الفرنسي مع آلاف المهاجرين (غير الشرعيين) في منطقة لي شابيل بوسط باريس والذين ينحدر غالبهم من السودان. ما كنت حتى حينها قد علمت شيئاً عن الموضوع، لكن الصدمة كانت علامةً فارقة وجهت مجهوداتي البحثية والمعرفية لاحقاً لإكتشاف حقائق كثيرة صادمة حول الموضوع سأحاول كتابتها لاحقاً.

لقد كان طوفان الهجرة البشري الكاسح لأوروبا مثار حيرة وقلق لكل الدول الأوروبية، وهو أحد البنود غير المعلنة لجلسة الإستماع، فقد تكدس آلاف المهاجرين وسط باريس وتحت الجسور في ظل أوضاع إنسانية مهينة، ويتكدس آلاف آخرون عند منطقة كالي (نقطة عبور القنال إلى بريطانيا) ويتسللون إلى داخل شاحنات البضائع أو يتخفون تحت هياكلها للعبور إلى بريطانيا وسط مطاردات بوليسية مهينة، هذا خلاف الآلاف الذين تقذف بهم قوارب الموت إلى إيطاليا أو اليونان، دعك من الآلاف الآخرين الذين يبتلعهم البحر في جوفه.

وفي كل الأحوال، فإن غالبية هؤلاء من السودانيين، أو من الذين يستغلون الجواز السوداني من الأرتريين والإثيوبيين والتشاديين وحتى من ساحل العاج، قد يكون ذلك نسبة لوضوح مبررات اللجوء من السودان أو لسهولة الحصول على الوثائق السودانية أو لإعتبارات أخرى.

لقد شد بصري في القنوات التلفزيونية الفرنسية خارطة إفريقيا وبداخلها خارطة أخرى حمراء أصغر هي خارطة السودان تنساب عبرها، من كل إفريقيا، من شرقها وغربها ووسطها، موجات كتيارات الطقس تنزلق شمالاً عبر سيناء في مصر وعبر تركيا وقبرص والبحرالمتوسط عموماً عبر ليبيا وشمال إفريقيا لتنتهي شمالاً إلى الشواطئ الأوروبية. إنها مسارات المهاجرين (غير الشرعيين). لقد كان المشهد صادماً بصورة استدعت إلى ذاكرتي ذات مشهد صورة السودان في مؤتمر بناء الدولة في إفريقيا بأديس أبابا وتصوير السودان كمصدر للإرهاب والعنف، بالطبع مع إختلاف الزمان والمكان والموضوع، ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة!!

(3) جلسة إستماع البرلمان الأوروبي: وحكمة الطبيبة أم حمد

لقد كان البرلمان الأوروبي أميناً وحكيماً في تعامله مع الظاهرة السودانية عندما تقاسمها بين فرنسا، حاضنة المهاجرين، وألمانيا، راعية الحوار الوطني والسلام في السودان، وطلب من الحاضرين (صراحةً) إبداء الرأي والنصح حول أفضل السبل للتعامل مع الملفين في جلسة مشتركة تضم الجميع بالبرلمان الأوروبي، ثم جلستين مع وزارة الخارجية في البلدين كلا على حدة.
أكاد أُقدِّر وأتفهم المأزق الذي وجد البرلمان الأوروبي نفسه فيه وهو يبحث عن سبل معالجة الهجرة غير الشرعية التي مصدرها أو معبرها السودان، ومسببات ذلك من حروب وعنف، وسبل العلاج من حوار وطني ومطلوبات نجاحه: فالمشهد تتنازعه حكومة تدعي شرعيتها وتمثيلها للشعب السوداني ومسؤليتها عنه، وهي في ذات الوقت المتهم الرئيس من منظمات حقوقية ودول بالتسبب في ذلك كله بسبب إصرارها على منهج الحروب والعنف أو عدم جديتها في محاورة معارضيها والوصول معهم لإتفاق لتحقيق السلام على أقل تقدير، وحركات مسلحة تصر هي الأخرى على أنها تقاتل من أجل توفير حياة كريمة وسبل إستقرار لمواطنيها بما يضمن حفظ كرامتهم واستقرارهم في مناطقهم، ولكنها متهمة، في ذات الوقت، بالتسبب في معاناتهم المفضية للنزوح والهجرة، وبين معارضة أخرى مدنية سلمية (بالداخل والخارج) تصارع هي الأخرى لإسماع صوتها للطرفين بضرورة الإحتكام لصوت العقل والجلوس لحوار مثمر يفضي للسلام والإستقرار، ولكنها متهمة في قدراتها وتأثيرها.

وأكاد أرى أن البرلمان الأوروبي (للتعامل مع مأزق: من يُمثّل السودان؟) قد قرر منهج جلسة الإستماع، بحيث يتيح للجميع إسماع صوتهم، ليستنبط هو الحكمة والفائدة التي عُميت عليهم، لهذا جاءت دعوته لجميع الأطراف. وبغض النظر عن صدق أو عدم صدق الدعوى التي قادت لحجب تأشيرة الدخول عمن أُعتبر ممثلاً للصوت الحكومي بحجة اعتراض إحدى دول الإتحاد الأوروبي على منحه تأشيرة الدخول لأراضيها لسبب تعلمه هي، فإن حكومة السودان وحدها المسؤولة عن تغييب صوت معارضة الداخل المدنية السلمية بمنعها لسفر فاروق أبو عيسى وأمين مكي مدني ومريم المهدي وفرح عقار وآخرين، وأنها المسؤولة عن تهيئة المسرح للأصوات المعارضة من الخارج والمسلحة إلا من حضور للصادق المهدي وبعض ممثلى القوى الوطنية للتغيير (قوت) الذين لم تمنع سفرهم لسبب تعلمة أو لا تعلمه هي.

ورغم أن حضور هؤلاء قد خفف من حدة عدم التوازن الناتج عن غياب الصوت الحكومي الرسمي، وأنه قد زكى النهج الوسطي الآمن، المتمثل في دعم الحوار والحل السلمي سبيلاً لوقف العنف والإقتتال، والمفضي إلى وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين الفارين من جحيم الأوضاع، بالإضافة إلى الإصلاح الديمقراطي والمؤسسي المفضي للضبط والتعاون مع المجتمع الدولي و خاصةً الأوروبي في سبيل حل هذه القضايا بما يحقق مصلحة الطرفين، و أنه قد خفف من غلواء دعاة منهج الإسقاط والكنس، إلا أن الحكومة ( وعلى ذات نهج الطبيبة أم حمد) طفقت تُخوَّن ” أولئك المجتمعين مع المتمردين الإرهابيين، ومع الإمبرياليين المستعمرين الأوروبيين” (بحسب ما يرى إعلامها)، وتجردهم من الوطنية وحقهم في الغيرة على وطنهم وأهلهم، وتصفهم بأقسى بكثير مما وصفهم به أولئك الذين تعتبرهم هي من المتمردين والمارقين. يحدث هذا رغم أنه من نتاج هذه المهمة هو أن حزمت الممثلة الألمانية حقائبها إلى الخرطوم في مسعاً لإحياء عملية السلام التي أماتتها الحكومة في أديس أبابا، وتوجهت منفردة لإنتخابات لم يشارك فيها الآخرين ولم تقدم حلاً.

وبدل أن تلتفت الحكومة لصورتها التي يجري تشويهها في الخارج وباستمرار، ولواقع مواطنيها الأليم في الداخل والمهاجر، واستخدام عقلها السياسي والدبلوماسي والأمني للتعامل مع موضوعات مصيرية كهذه، كانت تسخر كل ذلك فقط لتأمين سفر رئيسها لحضور مستحق لقمة قارية كان السودان من المؤسسين لها (قمة الإتحاد الإفريقي بجنوب إفريقيا)، وتأمين عودته سالماً، تماماً كتسخير مجهوداتها لسياسات التمكين بينما كان الجنوب يبتعد رويداً رويدا. وبدلاً من أن تُسخّر الحكومة عقلها السياسي والدبلوماسي والأمني لإيجاد مخرج آمن لها وللبلاد وللسودانيين جميعهم من مآسيهم ومآزقهم الكثيرة، استفادةً من مخرجات جلسة الإستماع هذه، سخَّرت كل ذلك لإستنتاج خيوط الربط المستحيلة بين مأزق ملاحقة الرئيس بجنوب إفريقيا وإجتماع هؤلاء مع “زعماء المتمردين المارقين من جهة، ودول الإستكبار الدولي من جهة أخرى في مواخير باريس وألمانيا” (بحسب ما يرى إعلامها).

والخلاصة هي: أنه إذا كانت الصورة الذهنية عن السودان في إفريقيا وفشله في مخاطبتها، هي التي قادت لإنفصال الجنوب، فلا يستبعد أن تقود الصورة الذهنية الحالية له في أوروبا، وفشله في مخاطبتها، إلى التدخلات الدولية الخبيثة، أو إنزلاقه الكامل نحو الصوملة، ما لم يُحكّم الجميع عقولهم. إنه لصادم جداً للنفس استمرار متلازمة الفشل السياسي والدبلوماسي والأمني بلا أفق قريب.
نقلاً عن صحيفة التغيير
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. د. عمر الحاوي.. مفال جيد ادن خلصت بأن اس البلاء هي الحكومة
    وانا كمتلقي خلصت ان الحكومة عاجزة اخلاقيا ومهتيا عن ادارة دولة

  2. ماشاء الله مقال ممتاز الا انى اعيب عليك عدم اعترافك صراحة بان سياسة النظام هى التى رسمت صورته فى اذهان العالم الخارجى وليس هنالك من يشوه وجه السودان كما تعتقد ولو فى جهة مسؤلة من ذاك التشويش فهى الحكومة نفسها فيجب ان لا تلقى وزر الحكومة على جهات خارجية!!!!

  3. لماذا انسد الافق امام الجميع في السودان حكومة ومعارضة

    ازمة البرنامج الوطنية المحترمة…وازمة القوى الديموقراطية السودانية الحقيقيةالنظيفة ناس وست منستر ومريدين السيد عبدالرحمن المهدي والجيل الذهبي الذى عاصر الانجليز الاذكياء
    القوميين والشيوعيين والاخوان المسلمين مشاريع مشبوهة ووافدة لا هي مشاريع محترمة ولا ادواتها في السودان محترمة

  4. والخلاصة هي: أنه إذا كانت الصورة الذهنية عن السودان في إفريقيا وفشله في مخاطبتها، هي التي قادت لإنفصال الجنوب، فلا يستبعد أن تقود الصورة الذهنية الحالية له في أوروبا، وفشله في مخاطبتها، إلى التدخلات الدولية الخبيثة، أو إنزلاقه الكامل نحو الصوملة، ما لم يُحكّم الجميع عقولهم. إنه لصادم جداً للنفس استمرار متلازمة الفشل السياسي والدبلوماسي والأمني بلا أفق قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..