مقالات وآراء
تحقيق العدالة لضحايا الجرائم ضد الإنسانية شرط تحقيق دولة القانون والمواطنة
شمس الدين خيال

الشعب السوداني يعيش تحت صدمة نفسية جماعية عميقة جراء مذبحة القيادة العامة، التي ارتكبت في 03.06.2019، وقتل وجرح فيها مئات الشباب والشابات. آثار هذه الصدمة والارتفاع القياسي والمتسارع لتكاليف المعيشة وتدهور الأوضاع الصحية والأمنية وانغلاق آفاق التحسن في هذه الأوضاع، تظهر جليا في انخفاض المعنويات والطموحات والأداء العملي لمعظم الناس. بطء عمل “لجنة تقصي الحقائق حول مجزرة فض الاعتصام” في تقديم نتائج لتحرياتها ولتحقيقاتها بعد مرور أكثر من عام وبضعة أشهر، والإعلان مؤخراً عن اكتشاف مقبرة جماعية للمفقودين من ضحايا فض الاعتصام يفاقم من آثار “الصدمة الشعبية” و”أزمة الثقة” في نفوس المواطنين تجاه الدولة ومؤسساتها العدلية وتجاه الصفوة السياسية. هذا الوضع النفسي يعيشه الشعب السوداني، في وقت ومنعطف حرج من تاريخ صيرورة الدولة القومية السودانية. “الصدمة الشعبية” و”أزمة الثقة” في مؤسسات الدولة العدلية وفي الصفوة السياسية يمثل مزيجا خطيرا على الحفاظ على الأمن والنسيج الاجتماعي في الدولة السودانية. لقد أثبتت كثيرا من الدراسات الاجتماعية (Folk psychlogy) أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من الأنظمة السياسي العقائدية تُخفض من ارتفاع الحاجز النفسي والاجتماعي والسياسي وكذلك العقائدي في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وممارسة العنف السياسي وارتكاب جرائم القتل والنهب والسرقة والاحتيال. وما أكثر الأمثلة لذلك، من أفغانستان ودولة داعش وسوريا وليبيا ونيجيريا إلى كولومبيا والمكسيك… الخ. في الجانب الآخر ترفع “أزمة الثقة” تجاه المؤسسات العدلية وتيرة الخوف وفقدان الثقة والكراهية بين المواطنين والبحث عن الحماية والطمأنينة بالهروب إلى الملاذ الإثني والجهوي والعقائدي وفي بعض الحالات يؤدي هذا الوضع إلى نهج طريق العدالة الفردية من أجل الانتقام وشفاء الغليل. في حالة سيادة هذه الأوضاع النفسية والاجتماعية والأمنية السلبية تنتكس العملية الانصهارية داخل المجتمع وبناء الشخصية القومية، وفي آخر الأمر تتوقف عملية صيرورة الدولة القومية. الخروج والتعافي من هذا الوضع يرتبط بمدى إصرار قوى الثورة وجدية الصفوة السياسية ومقدرة الجهاز العدلي القومي في كشف حقائق وملابسات ومسؤولية المؤسسات والشخصيات الأمنية والمدنية التي شاركت في الإبادة الجماعية للمعتصمين في ميدان القيادة وفي الجرائم الأخرى على صعيد القطر، وتقديم الجناة إلى العدالة. في عملية تحقيق العدالة القانونية لابد من تسمية الضحايا ومواقع حدوث الجرائم التي ارتكبت ضد إنسانيتهم حتى تكون حاضرة في ذاكرة التاريخ السياسي للدولة السودانية، وبذلك في ذاكرة الشعب السوداني: الحرب في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان ومذبحة ضباط رمضان في المرخيات وقتل الطلاب الدارفورين في جامعة الجزيرة في ديسمبر 2012 ومذبحة انتفاضة 2013 ومذبحة معسكر العيلفون والاغتصاب الجماعي لنساء قرية “تابت” في دارفور ومذبحة االقيادة وقتل المتظاهرين في سواكن وبورتسودان وكسلا … وقتل وتعذيب الخصوم السياسيين والاختفاء القسري لهم… الخ. هذه مواقع تشهد على الإصرار والعمد والتخطيط من أجل إزالة حياة الغير من أجل السلطة والجاه! في هذا القدر والفظاعة من الإجرام في حق الإنسانية من أجل مكاسب مادية، لا يمكن أن يكون هناك طريق للإفلات من العدالة للجناة. العدالة لابد أن تطال مخططي ومنفذي وداعمي هذا الإجرام الذي يمثل أفظع إجرام في حق الإنسانية في تاريخ السودان الحديث. تقديم كل شخص له دور في جرائم النظام السابق ضد الإنسانية وفي جرائم الحرب يجب أن يتحقق بموجب كل ما توافق عليه المجتمع الدولي وثبت في المواثيق والقوانين الدولية. في حالة السودان، ولطبيعة وتركيبة النظام البائد يجب أن تطال العدالة كل من خطط وساهم ومول ونفذ جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والبطش والاغتصاب الجماعي والنهب المسلح والتعذيب. كذلك يجب أن تطال العدالة كل مسؤول سياسي أو إداري تقاعس عن منع جرم في حق الإنسانية. في الصف الأول تأتي محاكمة قيادات السلطة السياسية والتنفيذية والعسكرية والأمنية والإدارية. وفي الصف الثاني يأتي تقديم كل من شارك مباشرةً في جرائم ضد الإنسانية من قتل وتعذيب واغتصاب ونهب تحت ظل النظام. حيث تطال المساءلة المنفذين للجرائم في الأجهزة الأمنية والعدلية والإدارية…الخ. من غير محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، لا يمكن أن تكون هناك عدالة للضحايا ولذويهم. ومن غير عدالة لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي ومستدام. إذ كيف يمكن العيش مع بعض بسلام في مجتمع لا يكترث لتحقق العدالة لمن اُرتكب في حقه وحق ذويه جرائما ضد إنسانيته واستباحة كرامته وماله. وكيف نعيش في سلام مع بعض في مجتمع يقبل بالإفلات من العدالة لمن له سلطة وجاه. من غير تحقيق العدالة نخلق وضع عداء وضيم بين الضحايا -إذا نجوا من الموت- وبين ذوي الضحايا وبقية المجتمع الرافض أو اللامبالي لتحقيق العدالة. ومن غير وعي لضرورة وأهمية تحقيق العدالة القانونية في بناء دولة المواطنة، خصوصاً إذا كانت الدولة قد عاشت أو لا زالت تعيش في حالة حروب إبادة ومذابح جماعية وانتهاكات لحقوق الإنسان واستباحة لمواردها من قبل فئة معينة، يصبح من الصعب وضع الأساس لدولة سيادة القانون والمواطنة الحرة. في حالة الدولة السودانية يمثل تحقيق العدالة مؤشرا ومدلولا مهما لنهاية عهد الظلم وبداية عهد سيادة العدالة والإنسانية. تحقيق العدالة القانونية هو الطريق أيضاً لإيجاد وتأمين المستندات والأدلة ولتحديد ولمعرفة المنفذين والمخططين والداعمين لتلك الجرائم وللتعرف على الضحايا ولتوثيق الحقائق ونشرها على الشعب وتمليكها للأجيال القادمة. هكذا نستطيع أن نتحرر من الممارسات السلبية وغير الإنسانية في شأن تحقيق العدالة، ومن الهروب من مواجهة الحقائق المريرة. وهكذا يمكن لنا أن نسلك طريق مجابهة الحقيقة، حيث ننبذ ممارسات دفن الرؤوس في الرمال وثقافة رفع رايات “عفا الله عما سلف” في جرائم الإبادة والقتل والسحل والاغتصاب واستباحة المال العام. تحقيق العدالة يجب أن لا يكون ضحية المصالح والمساومات السياسية والاقتصادية والارتباطات الإثنية والجهوية والعقائدية. بالإصرار والعزيمة على تحقيق العدالة نثبت في كياننا ودولتنا الحديثة مبادئ الإنسانية من غير مساومات في تحقيقها عبر العدالة القانونية ودولة سيادة القانون ونبعث إشارة واضحة بأن لا إفلات من العدالة لكل من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، تحت أي مسمى كان. ليس فقط مهم أن يلاقي الجناة جزاءهم العادل، مهم أيضاً أن يسرد الضحايا وذويهم ما أصابهم من أذى نفسي وجسدي ومادي. مهم أيضاً الكشف والتوثيق لكل سبل وحجم الإبادة الجماعية والبطش والنهب والتشريد والاغتصاب وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية. مهم أن تظهر وتوضح الحقيقة حتى نقطع الطريق على كل من تسول له نفسه تزوير التاريخ. وذلك لأن البحث عن الحقيقة وإشهارها رسالة طبيعة يحملها الإنسان، وذلك فرض إنساني وامتحان لإنسانيته. حيث تمثل كل جريمة ضد الإنسانية مهما كان حجمها ومكان حدوثها، جريمة ضد كل البشرية جمعاء. لذلك يعتبر ملاحقة ومحاكمة مرتكبيها، تحقيق للعدالة لكل البشرية. وخير مثال لتحقيق العدالة للبشرية جمعاء ولدور تحقيق العدالة في بناء دولة القانون وترسيخ الديمقراطية، قيام محاكمات لرموز نظام النازية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. قبل 75 عاما من اليوم، وضعت “المحكمة العسكرية لجرائم النازية” في مدينة نورنبرغ الألمانية حجر الأساس للتوافق الأممي في وضع أعراف وقوانين دولية تجرم انتهاكات حق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة وتلزم الدول والحكومات بتحقيق العدالة لضحايا الجرائم ضد الإنسانية. بعد فظائع الحرب ضد الإنسانية في دولة يوغسلافيا السابقة توجت الجهود العالمية من أجل إعلاء القيمة الإنسانية، بإنشاء المحكمة الدولية في دنهاك/هولندا. لولا محاكمة النازية في ألمانيا ولولا قيام المحكمة الجنائية الدولية، لما تم إنجاز محاكم العدالة في جنوب أفريقيا بعد نهاية النظام العنصري ولما تمت محاكمة قادة الحرب والقتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب في صربيا وكرواتيا وفي رواندا. واليوم تجري في بلاد العالم الأول ملاحقة ومحاكمة كل شخص ضلع أو ارتكب جرائم ضد الإنسانية أمام المحاكم القومية. في بروكسل/بلجيكا تم إلى الآن إنجاز خمسة محاكمات لأشخاص متهمين في المشاركة في جرائم الإبادة الجماعية للشعب التوتسي في رواندا عام 1994، آخرهم كانت في نوفمبر 1919. وفي ألمانيا يقف الآن أمام محكمة ألمانية لاجئ سوري متهم في 4000 حالة تعذيب في سجون النظام السوري. كذلك في ألمانيا، وبعد 75 عاما، حوكم في يوليو 2020 بالسجن أحد المشاركين في الإبادة الجماعية تحت النظام النازي، والذي بلغ 94 عاما من العمر. هذه الأمثلة تشير إلى أن عملية تحقيق العدالة القانونية لا تقف عند حدود الدول بل صارت ممارسة وعملا أمميا ولا تسقط بالتقادم الزمني. كذلك أن طريق تحقيقها طريق شائك وطويل ويحتاج إلى تعاون عالمي وعمل دؤوب وإمكانيات فنية ومالية وعزم وتضحيات من المؤسسات العدلية ومنظمات المجتمع المدني، خصوصاً منظمات حقوق الإنسان ومن الأفراد. تبعا لذلك يجب علينا تفعيل الدعم السياسي والجماهيري والمادي والفني والمعلوماتي لعمل “لجنة تقصي الحقائق حول مجزرة فض الاعتصام” و”لجنة تفكيك النظام السابق” وكل اللجان التي تعمل أو يمكن أن تعمل على إظهار الحقيقة من أجل تحقيق العدالة القانونية. كذلك، علينا أيضاً رفع درجة الضغوط على الحكومة الانتقالية والمؤسسات العدلية والأمنية بكل السبل المتاحة، من أجل أن تقوم بدورها في توفير كامل الظروف والمتطلبات القانونية والأمنية والمادية والفنية، التي تحتاجها تلك اللجان في عملها. في هذا المضمار علينا أن نتفهم أن هناك ضرورة ملحة لإنشاء بما يمكن تسميته “صندوق دعم تحقيق دولة العدالة”، كأداة مهمة لإنجاح “ثورة العدالة” وتحقيق دولة سيادة القانون والمواطنة. في هذا المشروع يمكن أن يشارك كل إنسان حادب على إنجاز العدالة وتحقيق دولة القانون في السودان. وذلك لأن تحقيق العدالة واجب إنساني، وفي بادئ الأمر شأن قومي لأنه يمس ويهم الشعب السوداني. كل الشعب السوداني، من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، يتوق إلى تحقيق العدالة على من أجرم في حقه وحق الدولة. من أجل ذلك ومن أجل تعافي نفسيات الشعب السوداني من ما أصابها من صدمة وفقدان لكرامتها الإنسانية وما ترتب عليه من إحساس باليأس والإحباط وعدم القيمة الإنسانية، نحتاج إلى قناعة وإصرار ومثابرة كل الشعب السوداني على تحقيق العدالة القانونية في كل الجرائم التي ارتكبت في حقه في حقبة حكم نظام المؤتمر الوطني وبعد سقوطه. لذا يمثل إظهار الحقائق وقيام المحاكم وتحقيق العدالة فيما يخص الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في ظل النظام البائد وبعد سقوطه، ثورة الشعب من أجل تحقيق العدالة. هدف تحقيق العدالة عن طريق”ثورة العدالة القانونية” يمثل قاعدة متينة لتوافق سوداني عريض من أجل خلق دستور يتمحور حول تأكيد سيادة القانون وملاحقة كل من يرتكب جرائم ضد الإنسانية مستغلا لسلطته أيا كان نوعها، وبذلك خلق الإطار الدستوري للدولة المدنية والديمقراطية التي يسود فيها حق المواطنة من غير أي تمييز عنصري أو جهوي أو عقائدي. “ثورة العدالة القانونية” في هذه اللحظات من تاريخ الوطن يمكن أن تكون محطة تاريخية، لا تقل أهميتها عن المشاركة العريضة لقبائل السودان المختلفة في الثورة المهدية أو في النضال ضد الاستعمار البريطاني، في صيرورة “الكيان السوداني”. وذلك لأن جرائم النظام السابق ضد الإنسانية طالت بتفاوت كمي ونوعي، كل الشعب السوداني وجرت في كل بقاع السودان الحالي وفي سودان قبل انفصال الجنوب. اليوم يحق القول، بأننا نحن السودانيون نحمل في أعناقنا واجب ورسالة تحقيق العدالة لكل البشرية في ما ارتكب في حقها في كل ربوع السودان. وكما قال Robert Jackson رئيس هيئة الادعاء في محكمة رموز النظام النازي في نورنبرغ “يجب أن لا نغفل، أن غدا سوف يكيل لنا التاريخ، بنفس الكيل الذي نكيل به اليوم أفعال الجناة”. في وضع السودان اليوم، يبقى القول أن صيرورته عانت كثيراً من ثقافة وممارسات “عفا الله عما سلف” من جانب الصفوة السياسة، في جرائم الحرب والإبادة وتصفية وتعذيب الخصوم السياسيين من كل الأنظمة الشمولية التي تعاقبت على الحكم. والآن نحصد من جراء فشل النخبة السياسية في تحقيق دولة العدالة القانونية وسيادة القانون دولة ذات هشاشة سياسية واقتصادية وأمنية عالية. الدرس الذي يجب أن نستوعبه اليوم هو: “بنفس القدر من العدالة التي نحققها اليوم للضحايا وذويهم، سوف يكيل لنا التاريخ به”.
|