الحَارَّة 102

– – [ الحَارَّة 102 ] – —
= في حَوَالَيْ التاسعة صباحاً., اسْتَيْقَظْتُ بَعْدَ نَوْمٍ طويل.أو رُبَّما لَمْ يَكُنْ طويلاً.فتَثاءَبْتُ, وتَمَطَّيْتُ.ثُمَّ فَتَحْتُ عَيْنِي تماماً آخِر الأمر.ومع ذلك ظَلَلْتُ مُسْتلقياً على السرير لدقائق.ساكِناً لا أتَحَرَّك.لا أعْلَمُ على وجه اليقين أَأَسْتَيْقَظْتُ حَقَّاً أم أنا لا أزالُ نائِماً.وهَل ما أراهُ حَوْلِي هُوَ عالَمِي الحقيقي أم هُوَ امتِدادٌ لما رأيْتُه في حُلُمي.غيْرَ أنَّ حَوَاسِي أخَذَتْ تَسْتَوْعِبُ شيئاً فَشَيْئاً مجالَ إدْراكاتي المألُوفة.
فَهَا أنَذَا أرى جُدْران الغُرْفَة المَبْنِيَّة بالطُوب البلوك.الشبابيك غير المطلية بالبوهية.الكُرْسِي الوحيد المكسورة احدى أرجُله.مرصوص مكانه رِجْل بالطوب.هُناك كُتُبي موضوعة على هذا الكُرْسِي العزيز.ثيابي التي خلَعْتُها بالأمس على عَجَل ورمَيْتُها في الرُكْن كُتْلة مُكَوَّرة وكأنَّها تنظر إليَّ.تحت السرير علبة السجائر والولاعة.والكريستال والكُبَّاية.هُناك جنب الحيطة المُسَجِّل الناشيونال القديم.فوقه وحوله تتناثر أشرطة كاسيت.غالبها للفنانة عافية حسن.البطارية موضوعة في شاحن خارجي.لَمْ يَبْقَ في ذِهْني أي شك.لَسْتُ في حُلْم.بَلْ أنا حَقَّاً في أُمْدُرمان, الإسْكان الشعبي, الحَارَّة 102.منزل رقم 57 .لَمَّا اكْتشَفْتُ هذا الاكتشاف الهام عُدْتُ أغْمِض عَيْنِي.كأنّٓني آسَفُ على رُؤى حلمي الأخير.وأتمنَّى لو ارْتَدٌّ إليها ولو للحظة.ومع ذلك لم ألْبَث أنْ نهَضْتُ مِنْ سريري بعد قليل.رُبَّما لأنَّني اهْتَديْتُ إلى الفكرة المركزية التي كانت تدور حولها في رأسي تهاويل مُضطربة ومُشَوَّشة حتى ذلك الحين.تناولْتُ المِرْآة الصغيرة الموضوعة على الشُبَّاك.إنَّ وجهي مُتَوَرّٓمٌ بعض الشئ.أو رُبَّما ليس مُتَوَرِّماً., ولكنَّهُ على أيِّ حال ليس لهُ طابِع يُمَيِّزُه.إنَّ هذا جَيِّد.يعني أنَّ الأحوال هادِئة ولا شئَ يُذْكَر.أعِدْتُ المِرْآة إلى مكانها.ورغم أنني حافي القدمين خَرَجْتُ إلى الحوش.. هُناك على سرير في نص الحوش ينامُ مُنْذِر.صبي في حوالي الخامسة عشرة.ابن أحد الجيران.والده عسكري في شُرطة المُرُور.أحياناً يجئ للنوم هُنا.وعلى الأرض ينامُ شخص آخَر.يكبرُه قليلاً.لا أعْرِفُه.اقْتَرَبْتُ من باب الحوش على رؤوس الأصابع.نظَرْتُ من الخُرْم إلى الشارع.هُناك أمام البقالة يقف عبد الباقي صاحب البقالة .وعلى العنقريب تجلس زوجته نوال وخالتي الشام.والدة نزار.وبجانبهما على كرسي يجلسُ نزار يحاول اشعال الشيشة.دخلْتُ الحَمَّام.تجَرَّدْتُ من الثياب.الموية قاطعة.لبسْتُ ثيابي.,وحملْتُ الجرْدل وخرجْتُ إلى الصهريج في الميدان الغربي.ملأْتُ الجرْدل وعُدْت.وضعْتُه.تجَرَّدْتُ.نظرْتُ حولي.مافي صابون.لبسْتُ ثيابي وخرجْتُ.عبد الباقي ليس عنده لايفبوي.ذهبْتُ إلى دكان الفوراوي في الشارع الثاني.أحضرْتُ اللايِفْبوي.تسَوَّكْتُ.وكُلُّ حاجة.واستحمَّيت.رجَعْتُ الغُرْفَة.جلسْتُ على السرير .أشْعَلْتُ سيجارة.ورفعْتُ الفرش.مددْتُ يدي إلى أعماق تحت الفرش.أخرَجْتُ المحفظة.سوداء قديمة بعض الشئ.فتحْتُها بكثير من التأنِّي.إلهي.لقد اخْتفت كدْسة القروش.الثلاثة رُبَط من فئة العشرة جنيهات.وضعْتُ المحفظة مفضوضة أمامي على الأرض.وها أنَذَا أفْرِكُ يديَّ مُنقبض القلب.لقد كانت ثلاثة آلاف.استلمْتُها بعد ظُهر أمس.لقد كانت موضوع آمال خَفِيَّة وكثيرة.أخَذْتُ أعِدّها عِدة مرات.جاسَّاً كُلِّ ورقة منها بالإبهام والسبَّابة.يميناً لقد كانَ مبلغاً عظيماً.لكن ماذا جَرَى.!.أين اختفى..! .خَرَجْتُ مُسْتاءً إلى الحوش.أَلْقَيْتُ نظرة على الصبي وصاحبه.لا يزالان نائمان.خَرَجْتُ إلى الشارع كأنَّ ما حَدَثَ كانَ عَدْلاً لا اعْتراضَ عليه.ضرُورةً لا مناصَ منها.وكأنَّ ذلك لا يعنيني في شئ.. .اتَّجهْتُ إلى سوق الحَارَّة.في أحد الشوارع كانَ عمّ الزين يحُوم حول أحد المنازل.بدا لي لحظة أنَّهُ يقترب مني.يجب أنْ أقول هنا أنَّهُ مُؤذِّن الجامع.كبير السن.كثير العيال.فقيرٌ جداً.يسكن على سبيل السماح.ولوْ كُنتُ في مكانه لما عرِفْتُ ماذا أصْنع حَقَّاً.اقْتَرَبَ منِّي وسلَّمَ عَلَيَّ.وقد عَلِقَتْ بأهدابِه عَبْرَةٌ صغيرة.بدا مُرْتبكاً مُضْطرباً لا يستطيع أنْ ينْبُس بكلمة.ثُمَّ تكَلَّم.فرجاني أنْ أغْفِر لهُ جُرْأته, وأعْذره, وأرْحَمَ ضَعْفَه.وأخَذَ يشْرَحُ لي ما فيه من عُسْرٍ وضيق.وأنَّ عياله لم يطعمُوا شيئاً منذ يومين.وأنَّهُ لا يعرف ظروفي ولكن طالما أسكن الإسكان فلا بُدَّ أنْ تكون سيئة.ساعدني يا ابني بحق مواصلات لغاية بحري.قالَ ذلك واصْطَبغ وجْهُهُ بحُمْرة شديدة بلغت شَعْرَه.كانَ معي عشرين جنيه أخذته من عبد الباقي .كنت ذاهباً إلى سوق الحَارَّة.أعْطَيْتُه العشرين.انْقَبَضَ قلبي انقباضاً رهيباً.أحْسَسْتُ بجُرْحٍ عميق في قلبي.أعْلَنْتُ للهِ تَوْبتي.خطَرَ ببالي في تلك اللحظة أنَّني لا أسْتَحِق أنْ أُخاطِبَ الله.لقد كانَ في امكاني أنْ أعطيه ألفاً أو حتى ألفَيْن من الثلاثة آلاف.ولكنَّها سُرِقَتْ.سِرْتُ مُنْكَفِئاً على نفسي.لا أُرِيدُ أنْ أنْظُرَ فيما حَوْلِي.المارّة الذين أصادفهم يبدون مهمومين.وَصَلْتُ السوق.هَرَعَ نَحْوي طِفْلٌ صغير.مَدَّ إليَّ ورقة مُرْتجف اليَديْن.أخَذْتُ الورقة وقرأْتُها.هِيَ قِصَّة معروفة.لكن ماذا يُمْكنني أنْ أفعل.لَمْ أُعْطِه شيئاً.لأنّ نفسي ليس معي شئ.لقد طَعَن في قلبي أنْ اضْطَر إلى رَفْض تقديم مُساعدة.كان الطفل صغيراً مِسكيناً حافي القدميْن أزرق الوجه.,مرتجف مذعور ذُعْر عُصْفُورٍ صغيرٍ سَقَطَ مِنْ عُشٍّ تَدَاعَى.لعلَّهُ كانَ جائعاً.مَنْ يدري على كُلِّ حال .رُبَّما كانَ صادقاً غير كاذب.بل لا شكَّ في أنَّهُ صادق.أنا أعرف هذه الأُمُور.هُناك شحدة يستطيع الإنسان أنْ يسمعها دون أنْ يحْفل بها كثيراً.فهُناك عادات مألوفة ونغمات محفوظة.يحس المرء أنها احترافية.فمثل هذا متعوِّد على هذا النشاط.ويعرف كيف يُدبِّر أُمُورَه.غيْرَ أنَّ هُناك طريقة في طلب المساعدة لا يحس المرء حين يسمعها أنَّ صاحبها مُحْترف لأنّ فيها نبرة خاصَّة.وبالجُملة فإنَّ من لم يتألَّم لا يستطيع فَهْم آلام الآخَرِين.لذلك نجد أنَّ الأغنياء لا يُحِبُّون أنْ يشكو الفقراء حظَّهُم.يظهر أنَّ هذا يُؤذيهم ويُزْعِجُهُم.إنَّ أنَّات الفُقَراء تُكَدِّرُ صَفْوَ الأغْنياء.
= دخلْتُ السوق بلا قِرْشٍ في جَيْبي.كُنتُ اشتهي قهوة.وأُريد جريدة.ورصيداً.وأشْعُر بالجُوع.فجْأةً, لمَحْتُ وجْهاً جميلاً.كانَ ذلك يكفيني لأظَلَّ سعيداً النهارَ كُلَّه إلى المساء.
“شُكْرِي”

تعليق واحد

  1. لأظَلَّ سعيداً النهارَ كُلَّه إلى المساء
    وانظر إلى تحت السرير علبة السجائر والولاعةوالكريستال والكُبَّاية

  2. لأظَلَّ سعيداً النهارَ كُلَّه إلى المساء
    وانظر إلى تحت السرير علبة السجائر والولاعةوالكريستال والكُبَّاية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..