شؤون وشجون بحرية

هوي الأوطان قدرٌ، وهذا العشق الذي اسمه السودان لا زال جرحُنا فيه نديّاً يأبي أن يبارح، يؤلمنا أينما وضعت يدك، تتعدد الجراحات وجسد الوطن منها مثخنٌ من زواياه وأركانه وجنباته، الصِّحّة تلوّح للتعليم في وهن أن أغثني، والاثنان يتشبثان بثقافة أصابها الهزال والإعياء، ومن تحتهم طرقٌ وبُنى تحتيّة ليس لها من معنى البناء نصيب، وصناعة مهترئة خانها الجلدُ، وزراعة تيبَّست حتي براعمها، ورياضة لا تزال في سُباتها التليد تفتح نصف عين أحياناً في اندهاش من صرخات المريدين.
مجالات عديدة طالها نصل التخلّص من منسوبيها فحيناً هم فائضُ عمالة وتارةً ضحايا صالحٍ عامٍّ، ليس فيه صلاح، وثالثة أخرى تحت مسمّي التمكين. لا تهمّ الأسماء كثيراً وإن تنوعت فكل الطرق تؤدّي إلى ذاتِ صالة المغادرة، الّتي تفخر بأن تعلن أنّ رؤيتها أن يصبح مطار الخرطوم أفضل مطارات أفريقيا، فتأمّل! كفاءات نادرة تلقْفتها العواصم الشتات، ومن ينتظر فلعلّ قلبه يهفو إلي مدن العمارات السوامق توهّماً أنّ سعة الحال تتنزّل كالمنِّ والسلوي من السماء. قلبي على وطني، الجُرح يتّسع والنزيف يستمر.
الخطوط البحريّة السودانيّة ما كانت استثناءً، كما ماكوندو في مائة عام من العزلة، مسيرة نصف قرن أو يزيد خاضت عواصف كحروب الكولونيل أورليانو.
بعد مخاض البدايات الذي عبرناه بعد أن مُدّت لنا الأيدي الصديقة، تسلّم أبناء هذا الوطن دفّة خطوطه البحريّة بالتمام وعاشت البحريّة السودانيّة أيّامها الوريفات، أبحر أبناؤك يا سودان في شموخ لعقود، بيد أنّ السماء أمطرت عليها كما ماكوندو بلا انقطاع فجعلتها دكّاً دكّا وغشي خطوطنا البحرية الطوفان وذات الرياح المشؤومة التي محت البلدة، أفاق الناس بعد أن أقلعت السماء وغيض الماء وقُضي الأمر فكُتب حينها بُعداً لبحّارة السودان قباطنة السفن وكبار مهندسيها وغيرهم.
ليت من أسدلوا الستار كانوا يعلمون أنّ الناقل البحريّ الوطنيّ هو مصدر من مصادر الفخار والعز ورمز من رموز اكتمال السيادة، وأنّ اصطفاف باخرة تحمل اسم السودان علي رصيفٍ هنا أو هناك أيضاً يُعلن عن وجود أُمَّة وركيزة ضخمة للاقتصاد ترفده بوظائف لا تحصي بحراً وبرّاً. فلورنتينو أريثا- عاشق زمن الكوليرا- حين سعي لتطوير ذاته والارتقاء بها بحثاً عن الثراء ليصير جديراً بزواج فيرمينا داثا حال توفّر الظرف المناسب، طوّر – يا لك الخير- شركةً للنقل البحري. ليتهم عَلِمُوا أنّ خفقان العَلم أعلي سارية السفائن لا يُقدّر بثمن.
خرجت العبارة النغم (الخطوط البحرية السودانية) من معزوفة اسمها الوطن وغادر بحّارة السودان ويمّموا صوب المنافي تسوقهم خطواتهم من مرفأ لمرفأ بمعني الكلمة الحرفي، نحو محيطات تسع خبراتهم المتراكمة في هذا المجال النادر فكانوا أساساً لصناعة النقل البحري في دول مجاورة تدخل عالم البحار في أزمنة متأخرة، رغماً عن أنّ الإبحار ما كان ممّا يستهوي أبناءها، لما هو موسومٌ أنّ البحّار من المهن التي تستصحب بعض تحديات في أدائها، لكن للضرورات الوطنية والاقتصاديّة أنشأت هذي الدول خطوطها البحريّة. كان السودانيون هنالك ولا يزالون يُشار إليهم بالبنان، بارعون في تخصّصاتهم ويحملون كلَّ جميل من سمات هذا الشعب الصابر المثابر بكل جلالها فجمعوا الحُسْنيين.
يستدعي الخاطر أسماء لمعت، كسبتها المنافي والمرافئ. حدّثني سعدالدين كرّار فرح قبيل أيام، لعلّ حديثه كان شرارة هذه الأوجاع البحرية، حدّثني من ڤيتنام، أيمن أبو الشِعر هو من كتب (سايجون كانت ثم بالفِدا صارت هوتشي مِنة) ڤيتنام المناضلة واصلت رحلة الفدا والنمو والصعود فصارت من مراكز بناء السفن في العالم لإحدى كبريات الشركات الهولندية، سعدالدين هناك منفرداً كممثّل لسلطات ميناء صلالة العُماني الذي هو مديره الفنّي لفحص واستلام قاطرة بحرية جديدة تكلفتها بضعة ملايين من الدولارات، فانّعِم بها من ثِقَة ويا سعدهم بسعدٍ، وبضعة في الّلغة ما يزيد عن الثلاثة ويقل عن التسعة.
أمّا إن قادتك الأسفار إلي جيبوتي فربّما التقيت ومحمد صلاح شرفي في واحدة من مهامه كمستشار للحكومة الأثيوبية للنقل البحري حيث يستخدمون ذاك المنفذ، وهَذَا في ذاته حسرة لها مقام آخر.
واذكر في الكتاب الرشيد شمس الدين وهو يتربّع بجدارة علي رأس الإدارات الفنّية لكبريات شركات النقل البحري في الإمارات، وإن عرّجت إلى قطر فلا شكّ أنّك تقابل عاطف عكود وربّما لاتدري أنّه جزء في فريق وضع قوانين ولوائح الموانئ البترولية والتجارية وتصله شهادة تقدير من أعلى سلطة سياديّة.
وإن أردت الخليج علي العموم فعليك بمحمد علي عبدالرحيم صاحب المواقع الرفيعة المتميّزة والرقم الأهم في مجال الغاز المسال وهو من الحائزين علي واحدة من أرفع الجوائز.
وفي بروكسل – وليس بورسودان – يقيم عبدالرحمن الزين، مستشاراً بحرياً بعلاقات عالمية متشعّبة أضافت للبحرية السودانية الكثير، قد تجده اليوم عطاءً في أيِّ من قارات العالم الفسيح.
ولعلّك تقرأ هذا عبر وسيط يرتكز علي الإنترنت ومن المعروف أنّ الإنترنت ينتقل عبر كيبلات تتمدد عبر (البحار) والمحيطات وبين الدول، وفي قلب عالم الاتصالات المٌعقّد هذا والذي يصنع حاضر الناس ومستقبلهم، تجد بابكر عبدالغني بدرجة خبير في تقنية هذه الكيبلات البحرية وإصلاح المعطوب منها.
ولا ينبغي لمن هو في قامة جمال منصور أن يبحر تحت أعلام دول أخري، وغير هؤلاء كثير وكثير جداً، يا ظلام ذاك الوطن وهذه الأقمار تضئ أكواناً أخري.
ذا عن فريق من البحّارة وتبقي مقاماتهم المهنية محفوظة، قبطان أو كبير مهندسين دوماً تسبق أسماءهم، وفريق آخر هجر المهنة وفي القلب حسرات ولدينا مزيد، أنظر مدّ البصر- يا رعاك الله – إلى تخصصات أُخر وتحوقل واستعذ بالله اللطيف الخبير، فغالب الظنّ أنّ البصر سيرتدّ إليك خاسئاً وهو حسير. هي مواسم تناقص الأوتاد كما أسماها د. منصور خالد.
في حكاية بحّار غريق وجد صاحب غارسيا ماركيز الأرض بطريقة ما بعد مكابدة فهل تري يجد بحّارة السودان موطناً يمارسون فيه ما يجيدون؟
وهل للنوارس من عودة لشواطئ العشق الأوّل؟
كما ضوء الفنارات الذي يعرف البحّار تأويله، يومض وميضاً من علي بعد، بعضُ جهدٍ لبعث الحياة لبحرية سودانية لا زال الوقت باكراً لاستقراء الآتي من أحداث، لكنّها كانت هناك ولم يبالوا حتى أن يسألوا الموؤدة (تُقْرَأ المُصفّاة) بأي ذنب قُتلت. أوكلَ الجانبُ الفنّي لهذا الجهد لمجموعة من خبراء البحرية، تعرفهم الأسرة البحرية ويعرفونها، أصحاب معرفة ودراية وتاريخ ناصع. هذا في شأن الأمر التقني وهو هكذا في مأمن، وغير ذلك يبقى الترقّب وانتظار بعض المستحيل.
نرى أن الوقت من أهم العوامل التي يجب الالتفات إليها، الإسراع بإرجاع السودان إلي عالم البحار يرقي في تقديرنا إلى ما لا يجوز تأجيله لأنّ سنوات التيه الأخيرة لم تشهد دخول عناصر بحرية جديدة كأمر طبيعي في انتقال الخبرات وتسلسلها، تطقيم البواخر يتطلّب مهن متنوعة وخبرات بدرجات متفاوتة، والعلوم والمعرفة في تطور لا ينتظر والوضع أقرب لأزمة والسنوات تعدو. تستطع أن ترسل ألف طالب لدراسة العلوم البحرية لكن وحدها الأيام تصنع أسماء كما التي ذكرنا، وكثير غيرها لم نذكر، لهم العتبي حد الرضا بل أبهي، فهمو كالشموس في مجرّة البحرية العالمية، أينما تجدهم تعرفهم من وهج أنوارهم. ويبقي بحّارةُ السودان الأماجد أبداً بعضاً من نسيج هذا الشعب العظيم وملح أرضه،،، وبحرِه، كيف لا والملح منشأهُ البحر.
مهندس بحري
خالد عبدالحميد عثمان محجوب
[email][email protected][/email] نيوجيرسي
أبريل ٢٠١٨