قلعة الأتراك ومقر مأمور الإنجليز:الخندق.. عروس النيل المهجورة

القولد- محمد عبد الباقي
لم ينس الشرطي الموكلة إليه حراسة القلعة، أن يخبرنا بالسيّاح الذين سبقونا بالأمس للموقع، وبشيء من الاعتزاز حدد هويتهم، بأنهم (خواجات)، وأبدى إعجابه بامرأة (خواجية) كانت ضمن السياح، توقع أن عمرها تجاوز السبعين، ولكنها حسب وصفه، صعدت برشاقة لا يقوى عليها من بلغ عمرها إلى قمة القلعة، وهبطت بسلام دون أن تطلب مساعدة من أحد. بدأ جلياً أن الشرطي أصبح يعلم قيمة الأثر الذي يقف على حراسته من خلال الزيارات المتكررة للسياح الأجانب له، وكذلك استشعر بعض أهمية المنطقة التي كادت أن تتحول لغفار، إلا من بعض الأسر، قيل إنها بدأت بدورها الاستعداد لإخلاء منازلها والانضمام لقائمة من التجأ للمدن. وبمغادرة هؤلاء سوف تصبح مدينة الخندق السياحية والأثرية خالية تماماً من السكان في القريب العاجل!!
#الخندق.. درة الساحل
خلو مدن وقرى الشمال من السكان، صار من السمات العامة للولاية الشمالية، ولكن بعضاً مِنْ تلك القرى والمدن المهجورة بها من مقومات الاستقرار ما لا يوجد في أي بقعة أخرى يمكن اللجو إليها بحثاً عن سُبل للعيش الكريم، ورغم هذا تفرق السكان بين الولايات المختلفة، تاركين خلفهم تاريخاً وإرثاً ضارباً في عمق الماضي، كحال مدينة الخندق التي من فرط جمالها اتخذها المأمور الإنجليزي في حقبة الاستعمار مقراً له كما كان يفعل سلفه في عهد التركية، وسنفصل في هذا الجانب بعد قليل. فالخندق ينثني عندها النيل ليرسم لوحة تشبه تماماً خريطة الوطن السودان قبل انشطاره لدولتين، وهذه ميزة تفردت بها على غيرها من بقية المدن والقرى الواقعة ذات موقعها على النيل، هذا بجانب أنها تمتاز بغابات وأشجار نادرة بحسب وصف بعض الذين كانوا ينتهزون على شواطئها المغفرة، قام بزراعتها الإنجليز ومن قبلهم الأتراك، وبقيت متوارثة إلى أن تركها أصحابها مؤخراً.
# حصن الأتراك القوي
لم تنفرد الخندق بالأشجار الباسقة وكفى ولا بموقعها الفريد على الشاطئ الصخري للنيل الذي كان يستخدم مرسىً، ولكنها كانت ذات أهمية عسكرية وتجارية بالغة في عهد الأتراك، ولهذا أنشأوا عليها إحدى القلاع العالية لمراقبة الحركة على النيل شمالاً وجنوب، وتشير المنشآت التي لا تزال قائمة بالمدينة، إلى أن أهميتها لم تنته بزوال الحكم التركي، بل حافظت على ذات الأهمية في حقبة حكم الاستعمار الإنجليزي الذي اتخذها بدوره مقراً للمأمور، فتم بها إنشاء قصر يطل على النيل في العام 1902م مقراً للمأمور لا يزال قائماً، تحول اليوم لمركز شرطة مزدوج به شرطة الجنايات وشرطة حماية الآثار والمواقع السياحية. ويؤكد بعض الذين لا زالوا يسكنون بها أنها في فترات سابقة كانت مركزاً تجارياً تتوقف بها المراكب المحملة بالبضائع القادمة من الشمال والجنوب، كما تمر بها قوافل التجار الذين يأتون لشراء السلع المحلية من المواطنين. مما منحها إحدى سمات أهم المُدن والمراكز الساحلية بالإقليم الشمالي قبل اندثار هذا صيت وتحولها لخرائب.
#مدينة الأثرياء
موقعها كقلعة مراقبة عسكرية ومركز التقاء للمراكب التجارية العابرة، منحها شرف لقب مدينة للأثرياء قبل مائة عام تقريباً، فشيدت أكثر منازلها على طراز القصور ذات الشرفات المطلة على الشاطئ، وبجانب أثرياء المنطقة كانت تضم الخندق كبار رجالات الحكم الاستعماري في الحقبتين الإنجليزية وقبلها التركية، مما يعني أنها كانت مدينة المال والسياسة على حد سواء بحسب وصف أحد سكان القرى المجاورة يدعى (إبراهيم مبارك) كان يتنزه على شواطئها المهجورة. وأشار (إبراهيم) إلى الطريقة التي شيدت بها منازلها لتدل على أهمية الذين كانوا يقطنونها في السابق، إلا أنها لأسباب غير منطقية بأي حال من الأحوال هجرها سكانها الذين لم يجدوا من يدفعهم للبقاء بها مثل ما كان يفعل المستعمر قبل رحيله.
#أسباب بدوافع رسمية
ويعد (إبراهيم مبارك) أن هجرة السكان لمدينة الخندق التاريخية، جاءت نتاج لإهمال متعمد من السلطات الولائية والاتحادية لها، مما يشير بوضوح إلى أنها جاءت بشبه مباركة رسمية خاصة من سلطات الولاية الشمالية التي أصبحت كل المدن والقرى فيها مهددة بهجرة سكانها، إذا لم يقدم لهم ما يثنيهم عن الرحيل ويجعلهم يتمسكون بأوطانهم. والحديث لـ (إبراهيم) الذي أكد استحالة وجود دافع للسكان لتمسك بمناطق فعتمد محلية القولد (أمير فتحي) نفسه يقيم في الخرطوم ولا يوجد بالمحلية إلا يوماً أو يومين في الأسبوع، وبعدها يغادر على وجه السرعة لبيته في الخرطوم، فإن كان هذا حال المعتمد المسؤول، فما بال المواطنين؟!
اليوم التالي