
27 مارس 2007
انهمك الإعلام السوداني بأنباء المؤتمر الصحفي الذي عقده المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية “لويس مورينو أوكامبو”، وأعلن خلاله قائمة بأسماء بعض المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور خلال الفترة من أغسطس 2003 إلى مارس 2004. هذه الأنباء غطت على ما عداها من أنباء حتى زيارة الرئيس الإيراني الذي وصل إلى الخرطوم يوم الأربعاء 28 فبراير الماضي.
وكشف اهتمام الرأي العام السوداني المتعاظم بهذه القضية، التي هي بكل المقاييس فاتحة وليست خاتمة لطريق طويل من الإجراءات القضائية، مدى ما يشعر به المواطن العادي من مشاعر عميقة تجاه مأساة أهل دارفور، وإحساسه بالخجل من أن تكون مأساة سودانية كهذه محل اهتمام الأجانب قبل اهتمام المسؤولين السودانيين. ولن يفيد الحديث المتكرر الصادر عن بعض قيادات الحكومة المصممة على أن محكمة لاهاي، لن تطال أي مواطن سوداني حتى إذا كان ذلك المواطن المشتبه فيه من “المتمردين وحملة السلاح الذين يحاربونها” … ذلك صنف من الحديث قد ينفع في الليالي السياسية والمهرجانات الخطابية، ولكنه لن يجدي ولن ينفع عندما يصل الأمر إلى ساحات القضاء وقاعات الاحتكام إلى القانون.
ما يفيد وينفع الآن هو التعامل مع هذه القضية في أبعادها القانونية وبالوسائل القانونية. ومهما كان رأي المرء وموقفه من الصراع والحرب اللامجدية التي أدخلت فيها السلطة السودانية، فإن الموقف الأخلاقي والالتزام المبدئي يلزمان المرء بأن يقف في صف المبدأ القائل بأن المتهم (والمشتبه فيه) بريء حتى تثبت إدانته أمام محكمة قانونية عادلة تتوفر فيها كل شروط المحاكمة العادلة، وذلك حق المشتبه فيهم الذين عرفوا حتى الآن، وحق الذين سيعرفون فيما بعد.
وبعيداً عن المجادلات القانونية والأدلة والبيانات وشهادات الشهود، فإنه من العبث والعبث المخزي، أن يظل بعض الناس ينكرون أن ما جرى ويجرى في دارفور من أحداث ومن قتل واقتتال وانتهاكات للأعراض والأرواح كلها صور وخيالات متوهمة من صنع الإعلام الغربي المعادي للسودان… ففي دارفور كانت وما تزال هنالك “حرب أهلية”، تفوقت في بشاعتها على كل ما عرفه السودانيون من صور لحرب أهلية.
في هذه الحرب -وبغض النظر عن الرأي السياسي فيها- ارتكبت كل الأطراف، سواء الحكومة ومن حملوا السلاح ضدها والمسلحون الذين تفرقت جماعاتهم وانقسمت على نفسها وتحاربت فيما بينها، ارتكبت كل الأطراف جرائم وانتهاكات ضد المواطنين الضعفاء من مُسنين ونساء وأطفال غير قادرين على حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم.
يحتار المرء أحياناً كيف يمكن لبشر أسوياء أن يمارسوا مثل هذه البشاعة والإجرام ضد إخوانهم وأخواتهم في الإنسانية… وفي الدارفورية!
في الحرب أكانت أهلية أم إقليمية أم دولية، ثمة أعراف وقوانين تلزم المتحاربين بأن يكون سلوكهم الحربي على قدر من الانضباط الإنساني تجاه المدنيين والعزل من السلاح أطفالاً ونساء وشيوخاً. الأعراف والقوانين فقدت معناها وقيمتها في دارفور.. وذلك هو الجانب الأخطر والأبعد أثراً من محاكمات تجرى في لاهاي أو في نيالا. فآثار مثل هذه السلوكيات غير الأخلاقية التي تحدث أثناء الحرب لا تنتهي بنهاية الحرب ووضع السلاح من قبل المتحاربين، وتبقى آثارها عميقة في النفس، وتظل جراحها تنزف من جيل إلى جيل.
والسودان الذي عانى –وما زال يعاني- من حرب الجنوب الدامية والطويلة يحاول أبناؤه من الجنوب والشمال أن يجدوا طريقاً لتجاوز مخلفات الحرب النفيسة. بنفس الجهد الذي يحاولون به إزالة آثارها المادية التي تمثلت في الدمار والتدمير الذي شهدته أرض المعارك، والذي أوقف عجلة التنمية والإعمار .
الحرب هي قمة انحطاط السلوك البشرى العاجز عن حل إشكالات الحياة بدون اقتتال وحروب، وكلما طال العجز وعدم القدرة على الوصول إلى حلول سليمة لمسببات الحرب، كلما كانت آثارها أشد ضرراً على الوطن وتقدمه وإعماره.. فهل يدرك القائمون على الأمر هذه الحقيقة المؤلمة؟ وهل يستجيبون لدواعي العقل والرشد ليوفروا على أهل دارفور وعلى السودان مزيداً من الآلام؟!
عبدالله عبيد حسن