مقالات وآراء سياسية

انها عروس الرمال

عبدالدين سلامه 

في الوقت الذي يزور فيه حميدتي موسكو غير عابيء بما قد تسببه  الزيارة في هذا الوقت الحرج من تداعيات لكامل البلاد ، وتطلق الأسافير شائعات شكوى البرهان لمصر وتخوّفه من انقلاب محتمل بينما شباب الثورة مشغولون بمليونيات رؤاهم لمستقبل الوطن ، وتروس الشمال يواصلون اغلاق منافذ التهريب ، ودارفور في احتفال الجيش تطلق العديد من التصريحات ، ومناطق الشرق تشتعل بمايتم ترويجه بسذاجة من حرب الجن ، والجزيرة تتحرك  في كل يوم ، تنتفض مدينة الأبيض بحملة مختلفة بعدما استشعرت الخطر الحقيقي الذي حوّل المدينة الآمنة المطمئنة إلى واقع مزعج باقتحام مجموعة من المسلحين لأعرق أحياءها (القبّة والشويحات) بأسلحة الكلاشنكوف والاعتداء على المواطنين في سابقة هي الأولى من نوعها ، غير أن هذه الحادثة التي وحّدت السكان وأيقظت جهاز الشرطة الذي سارع بالقبض على المتّهمين ورفض كل أشكال الإرهاب، كان لها مابعدها ، فقد انطلقت حملة أمان الغرّة التي نتمناها نموذجا تحتذي به كل مدن وقرى وطننا الحبيب الجريح ، وأن تستمر بلا توقف .
الحملة لم تقصر على دوريات متواصلة تهدف لتنفيذ كافة الاجراءات الاحترازية التي تبقي المدينة الوادعة في أمانها المعهود ، ولكنها تعدّتها لتشمل إصلاح كل خلل شاب عروس الرمال في الفترة الأخيرة ، فانطلقت حملات النظافة وفتح الشوارع المكتظة وإعادة ترتيب كامل الأوضاع بنقل (الفرّيشة) لموقع واحد وتحويل المواصلات لمواقع جديدة وإعادة كل شيء لنصابه الصحيح .
ماحدث بحاضرة شمال كردفان يستحق الاشادة ، فللمدينة تجربة سابقة مع قوات الدّعم السريع التي مرّت بها في بدايات هجرتها للخرطوم في العهد المقبور وارتكبت بعض التجاوزات ما جعل سكان الولاية ينتفضون ليضطر هارون الحاكم للولاية وقتها إلى طردهم خارج حدود كامل الولاية في موقف لازال حديث الناس، وهو من أهم المواقف التي خلقت العداء المعروف لكل السودانيين بين هارون وحميدتي .
ومن المعروف أن مدينة عروس الرمال تمثّل فسيفساء لمختلف القوى السياسية المتباينة من يمين ويسار ووسط ، ولكنها رغم ذلك لم تسمح مطلقا للخلافات السياسية أن تمس وحدة وترابط المجتمع ما أجبر كل سياسييها بمن فيهم هارون من التعاطي وفق الانتماء المجتمعي لا السياسي داخل المدينة ، غير أن التفلتات الأخيرة كانت مثار استغراب واستهجان الجميع الذي وقف وقفة يجب تسجيلها على صفحات تاريخ الثورة المجيدة ، فالشيوعي وقف الى جانب الأنصاري والبعثي بجانب المنتمي لحزب الامة والناصري بجوار الاسلامي وتلاحم كل منتسبو القوى السياسية المتباينة في مظاهرة واحدة أمام رئاسة الشرطة مطالبين بضرورة حسم التّفلتات واعادة الأمن ، واستجابت الشرطة وقتها لتقبض على المتفلتين في وقت وجيز وبعزيمة الأهالي انطلقت الحملة التي تضافرت فيها كل الجهود بتنسيق كامل مع المحلية ليتغيّر وجه المدينة في أقل من يوم واحد وتستمر الرّقابة المجتمعية على استمرار التغيير في ملحمة تستحق تدريسها في كل الجامعات.
وبعيدا عن مسار السياسة التي أدخلت البلاد في هذه الورطة التي أوقفت كل أشكال التطور والتنمية ، وسعت لإخماد جذوة ثورتنا العظيمة ، فإن ولاية شمال كردفان تعاني أصلا من مشاكل وجودية كبيرة على رأسها مشكلة مياه شرب السكّان والثروة الحيوانية التي تعتمد عليها البلاد في اقتصادها ، والتّعرية التي تهدد انتاج الصمغ العربي الذي تمثّل الولاية أكبر منتجيه في العالم زائدا على النمو السكاني الطبيعي الذي وصل حدّ الإنفجار رغم الهجرات المهولة من أبناء الولاية لداخل وخارج البلاد إضافة لمحاولات النظام السابق تغيير التركيبة الديموغرافية للولاية والتي لم تلاقي الكثير من التوفيق بسبب التركيبة الترابطية التي امتاز بها سكانها الأصليين ، فرغم الملايين التي تعيش في مدينة الأبيض إلا أنها لازالت تعيش على خمس آبار أساسية توزعت مابين (الجنزارة) و (خزان المديرية) ، ولازالت تعيش فقط على المياه الجوفية والتّعثرات الكثيرة التي شابت محاولات توصيل المياه من منطقة بارا الغنية بمياهها الجوفية ، والوعود الجوفاء بمدّ المياه من نهر النيل أو النيل الأبيض أو تردة الرّهد ، فالفاتورة اليومية لانتاج المياه تستهلك الكثير من موارد الولاية ، والكهرباء أيضا تعاني من مشاكل متفاغمة ، ويشمل التدهور كل المناحي الحياتية من تعليم وصحة وكافة المفاصل الاجتماعية، ولابد من تضافر كل الجهود للقضاء على تلك المشكلات المزمنة التي أضحت سرطانا يهدد كل شيء ، فالخلافات السياسية مسألة صحية لو تأطّرت في حدود المصلحة الوطنية العليا ، ولكنها تفقد معناها لوفقدت البوصلة وامتدت لتزيد معاناة المواطن الذي يجب أن تقوم من أجل المحافظة على مصالحه ، وانشغالنا بخلافاتنا السياسية يجب أن لايؤثّر سلبا على الحياة المعيشية للمواطن لأنها لن تنتهي طالما الأيدلوجيات لاتتلاقى والرؤى لاتجتمع بسهولة ، ومصلحة المواطن في كل أرجاء البلاد أهم من أي خلاف سياسي وهو مايجب أن تعيه كل الأطراف المتناحرة ، فحكم المواطنين لايكون بغير رضاهم والتغوّل على مقدرات البلاد لايجب أن يكون بغير قانون واضح وشفّاف وعادل ، والوطن بكل مافيه ملك للجميع ولايحق لأيّ من كان إقصاء آخر طالما أنه يملك ذات الحقوق وتقع عليه ذات الواجبات ، وإلا فإن شعارات الثورة الثلاث (حرية – سلام – عدالة) تصبح بلا معنى .
وقد بلغت .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..