جمهورية أمبازونيا؟

بعد انقطاع دام ثلاثة عقود قررت حكومة الكاميرون هذا العام الاحتفال بالذكرى السادسة والخمسين لتوحيد شقي البلاد تحت ظل حكومة مركزية واحدة. غير أن الاحتفال جاء في ظل الأوضاع غير الطبيعية التي تعيشها البلاد بعد الدعوة المتصاعدة لانفصال إقليمي شمال غرب وجنوب غرب الكاميرون اللذين تقطنهما الأقلية التي تتحدث اللغة الانجليزية ”الأنغلوفون”. وربما كان الاحتفال نفسه رد فعل لما يجري من أحداث أو محاولة لصرف الأنظار عنها. جاءت هذه الأحداث في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات التي تنادي بالعودة للوضع الذي كان قائماً قبل استقلال البلاد . كانت الكاميرون قد وقعت تحت الاحتلال الألماني في نهاية القرن التاسع عشر خلال فترة التكالب الأوربي على القارة الأفريقية. بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى جرى تقسيم الكاميرون إلى دولتين تحت نظامين إستعماريين مختلفين هما النظام الفرنسي والنظام البريطاني. تم توحيدالدولتين بعد استقلال البلاد في مطلع الستينات من القرن الماضي. وكما هو الحال في مختلف أرجاء القارة الأفريقية فإن لغة المستعمر وثقافته ونظامه الإداري كانت ولا زالت هي السائدة في كلٍ من إقليمي الكاميرون مما جعل منها دولة بلغتين وثقافتين مختلفتين ، الأمر الذي شكل عقبة أمام تحقيق الوحدة الوطنية بين الطرفين بالصورة المرجوة بالرغم من التوحيد السياسي.
فضلاً عن ذلك فقد كان من أهم أركان السياسة الاستعمارية في أفريقيا السعي نحو ربط اقتصاد المستعمرات الأفريقية ربطاً وثيقاً باقتصاد الدولة المستعمرة بهدف استمرار الارتباط بين الطرفين حتى بعد الاستقلال ، مما يتيح للدول المستعمرة بسط سيطرتها على اقتصاد الدولة الأفريقية والحفاظ بذلك على مصالحها الخاصة. ولعل الأوضاع الاقتصادية البدائية التي كانت سائدة في الغالبية العظمى من الدول الأفريقية جعلت من السهل على القوى الاستعمارية تحقيق أهدافها في هذا المجال. لم يكن مستغرباً لذلك أن نرى أن حركة التحرير الأفريقية تضع على رأس أولياتها تحرير الاقتصاد ، وقد كان ذلك ضمن أسباب أخرى وراء تبني معظم حركات التحرير الأفريقية الاشتراكية كمنهج لتحرير بلادها واقتصادها. لم تنجح جهود الدول الأفريقية بالصورة المتوقعة في هذا المجال ، وقد يعود ذلك في جانب منه للربط الوثيق بين الإشتراكية والتسلط السياسي في وقت كانت الحرب الباردة في أوجها وكان الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية تقف إلى جانب حركات التحرير الأفريقية والحكومات ذات الميول الإشتراكية التي تولدت عنها بعد الاستقلال. غني عن القول أن الكاميرون لم تكن استثناء لهذه القاعدة ، فقد عاشت تحت أنظمة متسلطة انعكست سياساتها على الأوضاع في شقي البلاد. وإذا ما أضفنا لذلك حقيقة أخرى وهي التنوع العرقي والثقافي الكبير داخل الكاميرون نفسها فإن الصورة تبدو أكثر تعقيداً حيث تشير الدراسات إلى أن مواطني البلاد يتخاطبون فيما بينهم بما لا يقل عن المائتي لغة محلية. لم يكن غريباً إذن أن تولد الدولة الجديدة في الكاميرون وهي تحمل بذور الخلاف التي شكلت في النهاية عقبةً كؤوداً أمام تحقيق الوحدة الوطنية ، وقادت إلى شئ من التوتر بين المتحدثين بالفرنسية الذين يسيطرون بصورة كبيرة على السلطة ولاقتصاد والمتحدثين بالانجليزية الذين يجأرون بالشكوى من التهميش الذي يتعرضون له.
بدأت الأزمة في جنوب الكاميرون مع استقلال البلاد في عام 1961 عندما اختار المواطنون هناك الانضمام للشمال الفرنسي الذي سبق أن نال استقلاله في عام 1960 ، بدلاً من نيجيريا التي طرحت كخيار آخر في الاستفتاء لتقرير مصير البلاد بعد استبعاد الخيار الثالث وهو الاستقلال التام لجنوب الكاميرون كدولة كاملة السيادة. كان من الطبيعي أن تسعى الحكومة في الكاميرون الشمالية لتأكيد سيادتها على الدولة الوليدة بتطبيق النظام السياسي والإداري السائد فيها بما في ذلك نظام الحزب الواحد وأسلوب الحكم المركزي. لم يكن الوضع مريحاً بالنسبة للجنوبيين لذلك فقد ظلوا منذ بداية السبعينات يرفعون راية المعارضة لمحاولات دمجهم في الكاميرون الفرنسية. لم تنطفئ جذوة الدعوة للاستقلال في جنوب الكاميرون منذ الستينات غير أن كل المحاولات باءت بالفشل في ظل الحكومة المركزية القابضة. لم تساعد بالطبع محاولات الحكومة المركزية المتكررة بعد ذلك نحو فرض نظام سياسي وثقافي في البلدين مما أدى لاستمرار التوتر الذي قاد مؤخراً لارتفاع حدة المعارضة بدءاً برفض القضاة والمحامين في الجنوب محاولات تطبيق النظام القضائي الموروث عن فرنسا بديلاً للنظام الانجليزي، ثم تتابع التوتر في شكل مواكب ومظاهرات كان الطلاب عمادها إلا أن التقارير الإعلامية أنها تجد دعماَ واسعاَ وسط أفراد الشعب.
أما من جانب الحكومة نفسها فقد واجهت المظاهرات الطلابية السلمية بالعنف الشديد مما أدى لمقتل العشرات حسبما أوردت التقارير الاخبارية ، كما قامت بوقف خدمات الانترنت في جنوب الكاميرون لعدة أشهر باعتبار أن وسائل التواصل الاجتماعي تستغل لإثارة الفتنة وحشد جماهير الشعب ضد الحكومة. بالنظر لما تورده أجهزة الإعلام الغربية عن الأوضاع في البلاد وردود الفعل العنيفة للسلطات الأمنية ، فإن الحكومة المركزية تتعرض الآن للانتقاد من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف الذي أصدر بياناً أدان فيه مقتل المتظاهرين مطالباً بالتحقيق في الأحداث من جانب جهة محايدة. أما الاتحاد الأفريقي فلم يصدر عنه حتى الآن حسب علمنا أي بيان يدين الأحداث الأخيرة في الكاميرون ، إلا إن رئيسة الاتحاد كانت قد أصدرت في يناير الماضي تصريحاً أعربت فيه عن قلقها البالغ لما يجري في ذلك البلد الأفريقي ، معربة عن أسفها لفقدان العديد من الأرواح ومؤكدة عن دعم الاتحاد الأفريقي لحكم القانون وحق المواطنين في التظاهر السلمي. أما الدول الأفريقية المجاورة فمن الواضح أنها مشغولة بأوضاعها الداخلية إذ أن مواقفها لا زالت غامضة حتى الآن إلا من دعوات خافتة لوقف الحرب وإيجاد حل سلمي للأزمة. يرى المراقبون أن الأمر لن يستمر على هذه الحال لفترة طويلة خاصة وأن دول الجوار ستجد نفسها مضطرة لاستقبال آلاف اللاجئين. ولعل موقف نيجيريا بالذات يحتاج للمتابعة الدقيقة بالنظر إلى سهولة التسلل عبر الحدود بين البلدين الأمر الذي ظلت تستغله حتى الآن حركة “بوكو حرام” لتنفيذ عملياتها.
محجوب الباشا
[email][email protected][/email]