أخبار السودان

في الفم ماءٌ .. وفي الكف جثة جرادة ..

لا ولن أنسى ابداً مظهر ذلك الشاب الوسيم حليق اللحية والشارب في شارع الحرية عند الجهة المقابلة لمبنى الإمدادات الطبية ولعله كان يقطن هناك وكنت أترقبه وهو يقف كل صباح في إنتظار أية مركبة تقله الى اين لا أدري؛ و كنت معجباً بكتاباته الثرة عبرصحيفة الأيام في بدايات السبعينيات وأنا المغرم بكل اقلام تلك الفترة التي كانت البوابة الواسعة لولوجي الى بلاط صاحبة الجلالة .. لأحبو محاولا تعلّم الوقوف على سواعد اساتذة كم سحرتني كلماتهم .
وفجأة يختفي الفتى وقد نما الى علمي أنه ذهب الى فرنسا للدراسات العليا.. ولكنه ما لبث ان عاد في بداية النصف الثاني من عقد السبعينيات حتى عينه الرئيس نميري وزيراً للدولة للإعلام ثم لاحقاً وزيراً مركزيا في ذات المرفق !
ومنذ ذلك الزمان وأنا أتردد على الوطن بعد هجرتني الطويلة ..فكانت صورة الرجل تتبدل في مخيلتي المفجوعة فيه وهو يتقدم في السن .. كلما تقلب في احضان النظم الشمولية التي بلغ شغفه بها درجة من التألف معها .. مسخراً ماتلقاه من علم القانون للدفاع عنها وكأنه لم يغش ديمقراطية الغرب وقانونه دارساً ومتخصصاً في فقه العدالة التي هي واحدة من ثوابت دساتير تلك البلاد .. بينما النظم التى تدوس عليها في بلادنا بات عشقاً يهيم به دكتور القانون الذي يصرح بفم مليء بالماء و هو يضرب بيمناه على منضدة الإصرار بقبضته التي نامت فيها جرادة العطاء الجثة .. مدافعا بحماس المنتفع في تصريحٍ أخير له عن عراب الإنقاذ الدكتور الترابي ومبرئاً له من المسئؤلية القانونية حيال ما حاق بالسودان سواء في عشريه إ ستلامه زمام الأمور من خلف ستارة الإنقلاب إياه ..أو ما لحق من دمار بمؤسسات الدولة نتيجة تشريد الكفاءات بتكريس التمكين إنحيازا للموالين على حساب المؤهلين وما تبع ذلك من ضحايا الحروب العبثية التي تنصل منها مفتي قدسيتها و قال في نظامه الطارد له مالم يقله جرير والفرزدق في كليهما .. ثم عاد مسخراً بوقه كمال عمر لتجميل ذات الوجه الذي وصمه بالقبح ونادى في غمره غبنه وحقده على تلامذته وصنيعته من أهل الحكم بسلخ جلده عن عظم السلطة !
ربما يكون الإستيلاء على سدة الحكم في الليالي الدامسة من تاريخ الوطن ركوباً على ذريعة الإصلاح والإنقاذ المزعومة في كل مرة بواسطة العسكر هي أكبر محن هذا الوطن الذي لم يطل ذروة الديمقراطية ولا حصاد سراب الشمولية .. ولكن مصيبته الكبرى هي ايضاً في بعض مثقفيه لأنهم يتملقون السلطان ولو كان جائراً شرعاً وقانوناً و يتمسحون في عطاياهم مناصبا أو نشباً .. فيبيعون الضمير والتخصص والولاء للوطن رخيصاً ولا ينتابهم الخجل حينما تجانبهم الحقيقة في ابسط مقوماتها وهم يدافعون عن الباطل الذي يقف أمامهم كالجبال و يحجب عنهم الحق الذي هو أعلى منه بمراحل !
لا أحد بالطبع يملك حق تبديل قناعات أي إنسان بصورة عامة.. ولكن حينما تصبح تلك القناعات حاجزاً مثقوباً كالغربال يراد به تغطية الشمس .. فذلك هوالعمى بذاته .. الذي ينطبق على صاحبه المثل القائل أن القلم لا يزيل البلم .. وإن سبق إسم حامله الف حرف دال .. الدال على حمل أعلى الدرجات العلمية التي يصبح كف حاملها قابضاً الى جانب جثة جرادة العطاء الميتة .. سكينا لذبح تاريخه زهيداً في سوق السياسة الذي يحكمه في عالم التخلف الثالث بصورة أوضح تراجع أخلاق سياسيه .. إلا من رحم ربي ..و لن تغسل دمه حينها تلك الجرعة من الماء الآسن التي تسد فمه !
فشتان بين طموح المثقف أو السياسي في الترقي المستحق وبين البقاء طويلاً على مختلف السروج دفعاً لراحلة المضي الى الخلف إنتكاساً بمهماز المصلحة الذاتية ..!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لقد سقط الديك تور في الماء الاسن في المرة الأولى وأظن وليس كل الظن إثم أن الدكتور يحب السباحة في في الماء الاسن

  2. السلام عليكم أستاذنا برقاوي
    سرقتنا ظروف السعي وراء الرزق وأكل العيش عن متابعة مقالاتكم الرائعة في الفترة الأخيرة وللإنقاذ دور مؤكد في ذلك فقد أصبح اللهث وراء لقمة العيش في بلد العجايب لا يسمح للاهث أن يلتقط أنفاسه ناهيك عن قراءة مقال والتعليق عليه،،، عندما تسنح لنا الفرصة بالولوج إلى أروقة الراكوبة تبحث أنظارنا في شوق ولهفة عن أقلام محددة لا تخطئها أعين من خبروا الراكوبة ، عندما فتحت مقالك صدمتني صورة الجوكر المتحكر في صدرها وأظنك قد فهمت قصدي من عبارة جوكر فهو بالفعل من نوعية الأوراق التي يفضلها كثيرون ممن سبق وأمسكوا برقابنا وتلابيبنا ليس لفاعليتها في كسب اللعبة ضد الخصم وإنما لسهولة استخدامها في أي طبخة أو لعبة قذرة لأنها تلائم جميع الأوراق الموجود في يد من يتحكم بالرقاب ، وأمثال هذا الجوكر كثيرون حتى ليصعب حصرهم ولكن لنقل هناك من ضرب الأرقام القياسية منهم مثل سبدرات في مجال الاستوزار وأحمد البلال وتيتاوي في مجال الصحافة المأجورة وغيرهم ممن لا يتردد في بيع ضميره بأبخس ثمن ، كلهم يا أستاذنا يحملون غربال القناعات ذاته الذي ذكرته

  3. السلام عليكم أستاذنا برقاوي
    سرقتنا ظروف السعي وراء الرزق وأكل العيش عن متابعة مقالاتكم الرائعة في الفترة الأخيرة وللإنقاذ دور مؤكد في ذلك فقد أصبح اللهث وراء لقمة العيش في بلد العجايب لا يسمح للاهث أن يلتقط أنفاسه ناهيك عن قراءة مقال والتعليق عليه،،، عندما تسنح لنا الفرصة بالولوج إلى أروقة الراكوبة تبحث أنظارنا في شوق ولهفة عن أقلام محددة لا تخطئها أعين من خبروا الراكوبة ، عندما فتحت مقالك صدمتني صورة الجوكر المتحكر في صدرها وأظنك قد فهمت قصدي من عبارة جوكر فهو بالفعل من نوعية الأوراق التي يفضلها كثيرون ممن سبق وأمسكوا برقابنا وتلابيبنا ليس لفاعليتها في كسب اللعبة ضد الخصم وإنما لسهولة استخدامها في أي طبخة أو لعبة قذرة لأنها تلائم جميع الأوراق الموجود في يد من يتحكم بالرقاب ، وأمثال هذا الجوكر كثيرون حتى ليصعب حصرهم ولكن لنقل هناك من ضرب الأرقام القياسية منهم مثل سبدرات في مجال الاستوزار وأحمد البلال وتيتاوي في مجال الصحافة المأجورة وغيرهم ممن لا يتردد في بيع ضميره بأبخس ثمن ، كلهم يا أستاذنا يحملون غربال القناعات ذاته الذي ذكرته

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..