ظهور النقود و نشأة البنوك

على مر العصور تبادل البشر السلع و الخدمات على نحو مباشر فيما يسمى بالتجارة البكماء – المقايضة (Barter System). و بازدياد عدد السكان و اكتشاف الزراعة و انتشار حركة السفن زاد الانتاج و زاد حجم التبادل التجاري (Volume of Exchange) فتعقدت التعاملات لانجاز الصفقات التجارية(Transactions) بين البشر , كإستحاله صدفة تزامن الاحتياج المتبادل بين البائع و المشترى ( Coincidence of Wants) للشروع فى اى صفقة كانت. فلم تعد المقايضة المباشره قادرة على استيعاب هذا النمو المتطرد بكل تعقيداته.
لجأت الشعوب على نحو عفوى بادخال وسيط للتبادل (Medium of Exchange) و اللذى هو عبارة عن سلعة (Good or Commodity) رائجة و قابلة للاستبدال (Tangible) و تتمتع بأنها سهلة الحمل و ذات قيمة جوهرية ( Intrinsic Value ) و فاعله لحقبة من الزمن (Durable) و قابلة للتقسيم (Divisible ) لتتماشى مع حجم الصفقة و توقيت انجازها. فكان منها الملح و حبوب البن و الريش و الاصداف و الاحجار الكريمة و المعادن و غيرها. وبمرور الزمن صار كلا من الذهب و الفضة اكثر رواجا كوسيط للتبادل بين البشر لدى معظم الشعوب. فانتعشت تجارة الذهب و حرفته و اصبح الصاغة (Goldsmith) من اغنياء المجتمعات.
اعتاد بعض اللذين يملكون قدرا من الذهب و الفضه بتأمينها لدى الصاغة بخزائنهم (Vaults). ثم يقوم الصاغه بإصدار وصولات ورقيه (Receipts) لكل فرد فى المقابل و يقرون فيها بقيمة المحتويات المخزونه لديهم والتى يمكن لصاحبها استردادها (Redeem) فى اى وقت كان بعد ان يأخذ الصاغه اجرهم مقابل هذه الخدمة. زادت ثقة افراد المجتمع فى الصاغة و خدماتهم لتنعكس هذه الثقة على الوصولات فى تداولها فى الاسواق بدلا عن الذهب و الفضة واللذان ما زالا يقبعان بخزائن الصاغة. و هكذا لتصير هذه الوصولات اللبنة الاولى للنقود الورقية (Money) المتداولة اليوم.
ليس هناك اى غضاضة فى تداول هذه الوصولات (النقود) فى الاسواق طالما اصدرت بناءا على ثروات ماثله حقيقة بخزائن الصاغه.
[LEFT]*All the money in circulation has to be backed up by real gold (or wealth) in the vault or in the possession of the central bank ( The Gold Standard ) .* [/LEFT] لاحظ الصاغة انه قلٌ ما يعود المودعين (Depositors) لاسترداد ممتلكاتهم, فلم يترددوا فى تزييف (counterfeiting) مزيد من الوصولات الغير مدعومه بالذهب ثم اعطاؤها فى شكل قروض (Loans) لمن يرغب. بشرط ان يقوم الدائن (Borrower) ليس فقط بسداد الدين(Debt) بل بدفع اجرا اضافيا على الخدمة المقدمه له وهو ما يسمى بالفائده (Interest). و هذه الظاهره و التى تسمى ايضا بالربا (Usury) قد حرمت فى جميع الاديان السماوية و حاربتها مختلف المجتمعات البشريه بشده لما تحمل من عواقب وخيمة حيث تسمح بتكدس الثروات فى ايادى القلة على حساب الاغلبيه و ذلك بإستغلال ضوائقهم المعيشية وتوفير قروض ذات فوائد عالية (Shark Loans) مما يسهم مباشرة فى انهيار المجتمعات و قد كانت عقوبتها السجن و قد تصل الى حد الاعدام.
تشكك المودعين فى نزاهة الصاغه اللذين بدى عليهم ثراءاً فاحشاً فهددوا بسحب ودائعهم (Run on the Bank) ان لم يكن لهم نصيباً من الارباح على القروض ولينتهى الصراع باقتطاع جزءا من الفائده لصالحهم. فهكذا صارت هذه الممارسات النقديه , الودائع ذات اسعار الفائدة المنخفضة و القروض والتى قد تفوق اصل الثروة (Fractional Reserve) و ذات اسعار فائده عالية, هى البدايات الاولى للبنوك التى نعرفها اليوم.
الاصل ان تتساوى النقود المتداولة مع حجم الثروات الحقيقيه لدى الشعوب. فإذا اختل هذا التوازن، اختل معه النمو الاقتصادى لما له من تأثيرات مباشرة على الأسعار و حركة البيع و الشراء و بالتالى الانتاج (من حيث الاقدام عليه او الاحجام عنه). وما الاسعار الا و هى حاصل قسمة النقود المتداولة على حجم الثروة الحقيقية للمجتمع. فإذا زادت كمية النقود المتداولة عن حجم الثروة الحقيقية (كنتيجة للتزييف) , وهو ما يسمى بالتضخم (Inflation) , فمن البديهى ان ترتفع الاسعار حسب المعادلة المذكورة اعلاه. اضف الى ذلك ان كنت تملك كمية من النقود فانك لن تستطيع ان تشترى ما اعتدت على شراءه قبل ضخ هذه النقود المزيفة فى الاسواق, اى ان القيمه الفعلية للنقود قد تناقصت. و طالما النقود تعنى الثروة التى كنت قد ادخرتها , فإذن قد تمت سرقتها بهذه العصا السحريه للتضخم. و السارق هو من بيده القدرة على طباعه و توزيع هذه النقود المزيفه كيفما يشاء. وهنا يتساوى المجرمون مع البنوك و الحكومات التى تمارس التزييف نهارا جهارا.
و بمعنى آخر فإن من يتحصل على هذه النقود المزيفة بإستطاعته ان يباشر بشراء اى من البضائع او الخدمات دون ان يكون قد بذل اى مجهود يذكر , فبذلك يكون قد قام بإستعباد الآخرين بدون الحاجة الى اى سلاسلٍ او اغلال. وبناءاً على ذلك فإذا استطاعت دولة ما ان تفرض التداول بعملتها على المستوى العالمي فتكون قد نالت نصيب الاسد فى استعباد الشعوب. و بفرضها لعملتها ، تكون قد باشرت بتصديرها للتضخم ( exporting inflation ) ليتخطى حدودها المحلية، مما ينذر بكارثة إقتصادية غير مسبوقة على مستوى العالم .
اضف الى كل ذلك ، اذا كانت كل النقود المتداولة فى الاسواق قد صدرت بناءاً على قروض وجب استردادها ِفمن اين نأتى بمزيد من هذه النقود لدفع الفائدة على القرض ؟.. إنها لم تصدر فى الاصل ! …فإذا استطاع البعض سداد الدين بفوائده فحتماً سيعجز آخرين ليس فقط عن سداد الفائدة بل عن سداد القرض نفسه مما يترتب عليه حق البنوك فى انتزاع ممتلكاتهم.
خلاصة القول ان النقود ممثل حقيقى للعمل او الجهد المبذول لانتاج ثروة ، والبنوك هى مؤسسات لإستثمار القيمة المخزونه بها (أى النقود). ولكن لا بد من وجود معايير واضحة تحكم كل المعاملات النقدية مما يسمح بممارسات تسهم بخدمة المجتمعات من حيث نموها و رخاءها. اما ترك الحبل على الغارب فلن يسهم الا فى استغلال الشعوب…. وإلى حد الاستعباد.

طارق ابوعكر

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..