حبي الأول

حبي الأول
*( قد تجد الحب في كل الأديان،
لكن الحب لا دين له..).
– جلال الدين الرومي-
.. لا أعلم ما الذي جعلني أسير على ذلك الرصيف المزين بالأشجار الرائعة صباح هذا اليوم رغم كثرة الأرصفة الجميلة في شوارع العاصمة وأنا القادم من أقاصي الريف إلى أغلى مدينة على قلبي…
هل هو الحنين إلى الماضي الأثير وإلى سنوات الدراسة؟! أم أن النفس تواقة إلى وقع خطوات منذ سنين مضت، وإلى استحضار أيام خلت كانت من أجمل أيام العمر… لا أدري!!
وعند موقف الجامعة نفسه توقفت كما كنت أتوقف منذ سنين.. وهناك رأيتها يا للمصادفة السعيدة، أيعقل هذا؟!
إنها هي.. أنا أكيد من ذلك.. وهل غابت عني صورتها أصلاً؟! إني أحفظ ملامحها وتقاطيعها وصورتها باطن القلب، وهل يغيب عني حسن الوجه الحبيب؟! فكم التقينا سابقاً وفي هذا المكان بالذات… اسألوا حجارة الرصيف وضُل الشجرة الملاصقة له وأوراقها وأغصانها ستشهد كلها بذلك وهي صادقة!! ولكن ما بالها حافظت على سنواتها الشابة وملامحها النضرة ولم تكبر يوماً واحداً منذ أن افترقنا في ذلك اليوم؟!
وكأن الزمن توقف من حينها فلم تمر عجلاته على قوامها ووجناتها، ووحدي من مرت عليه تلك العجلات، ووحدي الذي كبرت!!
يا الله.. القوام الممشوق هو نفسه، النظرة الآسرة هي نفسها، وكذلك أسود الشعر ووجهها البدر، وكذلك سماوات العينين، وحمرة الشفتين، حتى طريقة حملها لكتبها ولمحفظتها لم تتغير…
وعدت بذاكرتي إلى الوراء عشرين سنة فعند هذا الموقف افترقنا للمرة الأخيرة، وتحت ظل هذه الشجرة كان وداعنا، يا إلهي.. هل بقيت هنا منذ ذلك الوقت محافظة على وقفتها الشامخة، والتفاتتها المغناج، ولم تغادر مكانها مطلقاً؟!
هل أنا أهذي؟.. ربما.. فالمنطق والعقل يقولان: يجب أن لا تكون قد كبرت عشرين سنة أليس كذلك؟!
وأوقعتني الحيرة في شباكها، إذن ليست هي، فهذا غير معقول.. ثم فكرت: لا.. لا.. أبداً إنها هي… أنا مصرٌ على ذلك.. وتفجّر في قلبي الوجد، وتأجج الحنين والشوق، وفاض نهر الذكريات، وترقرقت في العينين العبرات، ومد عقلي يداً حانية على شغاف قلبي مواسياً ومشفقاً مما فيه من الوجد والعشق، وهتف: كان الله في عونك وعون كل من عشق ويعشق مثلك.
يقول قلبي لعيني: كم هو كبير شوقي للقائها، استمري في النظر إليها، زيديني حلاوة من حسن وجهها، وساعديني في التأكد منها، هل هي هي حقاً؟!
وتقول عيني لقلبي: أنا في شوق أكثر منك ولكني أخاف من نظرات الناس حوالينا، ألا ترى أنهم صاروا يلاحقون تركزي على هذه الفاتنة، ثم إني مثلك محتارة بين أن أؤكد لك أنها هي فعلاً ? فصورتها المحفوظة في الأحداق تؤكد ذلك ? أو أن التي أراها شبيهتها ليس أكثر، لكنني أعود وأقول: مهما كانت درجة التشابه بين مخلوقين فإنها لا تصل إلى هذا الحد، حد التطابق الكامل والتشابه الشامل…
ناداهما عقلي: كفاكما تخيلاً وتحليلاً…. رويدكما… الزما حديكما.
وسألت جميع جوارحي واستنجدت بنباهتها فأجابت جواباً واحداً ترشح الحيرة والارتباك والتساؤلات منه، وسألوني بالمقابل، فقلت: ألم تسمعوا في هذا الزمن عن شيء يسمى الاستنساخ؟ قهقه عقلي ضاحكاً من هذا الاستنساخ وغص بكلامه هازئاً ومردداً:
استنساخ.. استنساخ.. هل هذا معقول؟! بربك تكلم بكلام مقبول.. قلت له متحدياً:
إذن فسر لي ما أرى أرجوك… وإلا فاصمت، عندها سكت ولم يحر جواباً…
ثم أوحى إلي أن أتقدم واسألها لتعرف الحقيقة. ما بالك مرتبكاً… كفاك تردداً.. سمعت كلامه واستجمعت شجاعتي وتقدمت، وعندما أصبحت أمامها وجهاً لوجه تزاحمت أدوات الاستفهام على طرف لساني: هل.. من.. كيف… متى…. ماذا……
أوقفتها جميعاً، قالت وقد لاحظت حيرتي وارتباكي: نعم… ماذا تريد؟!
تراجعت معتذراً، لقد ثبت لي أنها ليست هي، فهي لم تعرفني وكلماتها تدل على أنها لم ترني سابقاً، ولكن في الوقت نفسه تأكدت أن ما أراه حقيقة وليس خيالاً أو حلماً وهذا يكفيني…
انكفأت متراجعاً ونظري متسمرٌ ومستمر بالتحديق في ملامح الوجه الحبيب، إلا أن نظرتها الحانية وابتسامتها العذبة شجعتاني فعدت أكثر تصميماً هذه المرة… ونطق لساني بأغلى اسم (…..) صرخت مندهشة: والدتي.. هل تعرفها؟! وكتمت دهشة كبيرة بحجم حبي لها، صعقتني كلماتها، أنتِ ابنتها إذن، وأنتِ غصنها البض وفرعها الريّان الآن فهمت سر هذا التشابه بل هذا التطابق بينكما..
وكررت: هل تعرفها؟!… يا إلهي.. ماذا أقول لهذه الفاتنة، هل أقول لها: أن والدتك كانت وستبقى الحبيبة الغالية، وحلم الفؤاد، وتوأم الروح، وأمنية العمر أم أقول لها بأنني لا أعرفها، مدارياً الحقيقة الساطعة، وأكتم حديث حبي القديم، ولا أبوح بخفي سره.. كم تمنيت أن أقترب أكثر وأكثر لأضمها بالحب كله إلى صدري… إنها الغالية ابنة الغالية… وبدأت أعبّ كؤوس السلاف المتسلسل من دنان الشهد المعتق، وعاودت السؤال: لم تقل لي هل تعرف والدتي يا (عمو)؟ فغمرتها بعينين تفيضان حباً وقلت في سري: أما زلت تسألين هل أعرفها!! آه.. سامحك الله يا (بنتِ) وعندما طال انتظارها كررت السؤال وهي تعتقد أني لم أسمعها جيداً: لم تقل لي هل تعرف والدتي؟!
نظرتْ إليها مشاعري كلها بأسى وهي تفيض بالدموع والذكريات.. وبقلب تحرقه الآهات وتخرقه الذكريات غادرتها مودعاً….. و… …. وتجاهلت السؤال.
[email][email protected][/email]
قصة في منتهى صدق الاحساس……وفي اوج القوة في المعاني
حروفك داعبت عطر انفاسي….و بريقك لامع سطع في عيناي