الكتاب و الكتابة

قفزت الكلمة المكتوبة من سطح الورق الى صطح الشاشة، فبرزت فى اقل من عشر سنوات مفاهيم وتطببيقات البريد الكتروني والتجارة الاكتروني والكتاب الاكتروني والحكومة الكترونية وكلها مدينة ببنيتها الاساسية لمفهوم وتطبيقات الهبرتكست.
الهيبرتكست هو التعبير الوصفى لاحدث اشكال الكتابة الالكترونية وهو يشكل نصا اكترونيا يرتبط بنصوص اخرى عن طريق روابط داخل النص، والكلمة Hypertext يمكن ترجمتها حرفيا -النص الفائق- وهى ترجمة غير معبرةعن صفات الهيبرتكست ومن ثم اثرنا كتابتها بالحروف العربية كما تنطق فى لغتها الاصلية.
ويثير الانتشار الواسع للكلمة الاكترونية والشاشة على حساب الكلمة المطبوعة والورق قضية النص الالكتروني وامكان اختفاء النص المطبوع باعتبارة مرحلة من مراحل تكنلوجيا لا يمكن لها الخلود مثلما كنا نتصور، فهل يمكن ان ينقرض الكتاب المطبوع؟.
لنبدا قصة الكتابة من البداية حتى نستطيع فهم قضيتنا فقد كانت اللغة (الشفهية) اولى وسائل الاتصال الفعالة بين البشر واختصرت بامكاناتها الداخلية الهائلة زمن التعبير والمعرفة وامدته بدقة لم تكن ممكنة من دونها.
وفى هذه اللغة ولدت المعرفة الانسانية كلها الاساطير والعلم والدين والفلسفة. الا ان الكلام المنطوق المولود في الصوت و الحادث فى الزمن لا يمكن ان يحفظ لنا خبرة كما هي، كما انة لم يكن قادرا على الانتقال الحرفي فى الزمان والمكان.
ومن ثم جاءت الكتابة والطباعة والكمبيوتر(الكتابة الكترونية) كتكنلوجيا اخترعها الانسان فى محولة لتخزين الكلمة وضمان سهولة نقلها فى المكان والاحتفاظ بها ومن ثم استعادتها فى اى وقت من الزمان.
على هدة التقنيات التى تتعامل مع المعرفة الفعلية تعبيرا وتخزينا، و تنظيما، و تداولا مارست، ولا تزال تمارس، تاثيرا جذرياعلى العقل نفسة، فعلى سبيل ومنذ الستينات من القرن العشرين درس كثير من الباحثين تاثير الكتابة النسخية، والطباعة، على عقل االانسان وديناميتة النفسية، ومن ثم تاثير ذلك على تصوره لذاته وعلاقته بالكون والاخرين، وبالتالي على تصوره العقيدى والفلسفى مما يعنى ان التحول فى تكنلوجيا المعرفة ليس مجرد تحول من تقنية الى اخرى بل انة يعنى التحول الى عقل اخر.
من الورق إلى الشاشة
إن علاقتنا مع الكتابة على الاوراق علاقة حميمة فنحن الذين نخلق الكلمات المكتوبة بل ان عملية تعليم الكتابة ذاتها هى فى الحقيقة تدريب العقل لتوظيف عضلات الذراع لتتحكم فى تصوير الحروف والكلمات لتشكل منها مادة المعرفة، و يرى والتر اونج فى كتابه ‘الشفاهية والكتابة” ان هذه العملية البسيطة فى ظاهرها غيرت الوعى الانسانى كما لم يغيره أي اختراع اخرفقد حولت الكلمة المنطوقة المسموعة والحادثة فى الزمان الى كلمة مرئية محصورة فى المكان اى انها حولت المعرفة العقلية الى شكل مادى هو الكلمات المكتوبة.
ليس هذا فقط بل ان الكلمة المكتوبة غير قابلة للدحض او المسائلة يقول ‘اونج’ ,,و ليست ثمة طريقة مباشرة لدحض النص حتى بعد التفنيد الكامل للكتاب، يظل النص يقول ما قالة من قبل تماما وهذا هو احد اسباب شيوع عبارة ‘الكتاب يقول’ بمعنى ان القول صحيح. وهو ايضا احد الاسباب التى من اجلها احرقت الكتب.
ان الاغتراب عن النص الإلكترونى هو الصفة الاساسية الان لنا ككتاب وقراء الاجيال الحالية الذين تشكل وعيهم و وجدانهم قبل ظهورالكتابة الالكترونية، يبدو هذا واضحا فى ما نقرأه بصفة مستمرة عن استمرار الكتاب المطبوع كوسيلة اولى للمعرفة وبالتالى استمرارمواصفات العقلية الكتابية كما وصفها اونج.
فهل هذا التصور جائز على الجيال القدمة؟ ان تاريخ تكنلوجيا المعرفة كفيل بالاجابة عن هذا السؤال فعلى سبيل المثال فى بدايات الكتابة الابجدية و فى القرن الخامس قبل الميلاد كان سقراط يقيم محاوراتة شفاها ويذكر لنا افلاطون على لسانه فى الرسالة الى فيدروس اعتراضه على الكتابة تلك التى تدعى اتها تؤسس خارج العقل ما ينبقى ان يؤسس داخله كما انها تاتى بنتائج عكسية على الذاكرة فتجعل الانسان كثير النسيان وقد ساق افلاطون اعتراضه على الكتاب كتابة.
الا ان الأمر تغير بشكل سريع منذ اواخر الثمانينات عند ما قبل اقتراح ‘تيم بيرنرز لى’ لتنفيد الشبكة العنكبوتية التى تضم النص المكتوب مع الصورة والصوت والافلام المتحركة فى نص شبكى واحد فكان اول تنفيد عملى لمفهوم الهيبرتكست.
اما الهيبرتكست الذي قدمه تيد نيلسون من هارفارد فى بداية السبعينات كفن الكترونى للكمبيوتر فانه يتمتع بخاصيتين الاولى فانة يمكن قراءته على الشاشة بطريقة غير متتابعة والخاصية الثانية للهيبرتكست هي امكان ربطه بملفات الصوت والصورة والأفلام المتحركة مما جعل البعض يفضل فى هذه الحالة تسمية هيبرميديا بدلا من هيبركست.
المشهد الحالى ينبئنا بالكثير فقد اصبح اصدار دوائر المعارف على الاسطوانات المدمجة ظاهرة عادية وتوقفت المطابع عن طبع دائرة المعارف البريطانية التى كانت تطبع منذ عام 1768 واصبحت الآن تطبع على اسطوانات مدمجة وليس هذا فقط بل ان معظم المصادر العلمية الكبيرة و القيمة والمعاجم والقواميس تصدر الان بالطريقة نفسها وبفارق مذهل فى الاسعار لصالح النشر الالكترونى .
وعلى جانب اخر انتشرت دوائر المعارف والمعاجم والمكتبات الالكترونية على الانترنت وهى ممتلئة الآن بالاف من الكتب الكلاسيكية منشورة كاملة بلغات متعددة بالاضافة عن الاف الصحف والمجلات العالمية والمحلية بما فيها العربية التى تحولت الى النشر الالكترونى و ايضا مناهج العلوم والفنون والتاريخ …إلخ ، كما تنتشر مواقع الجامعات العلمية العالمية والتى اتجهت فى العامين الاخيرين لتقديم المناهج العلمية على شاشة الكمبيوترعبر الانترنت .
ومن ناحية اخرى يستمر تطوير ما يعرف الان بالكتاب الإلكترونى E-book الذى يمكت النظر اليه باعتبارة كمبيوتر للجيب بمواصفات خاصة تجعلة كتابا متنقلا يمكن توصيله بشبكات المعلومات فى اي مكان .
فإذا كان المؤرخون قد اعتبروا عام 1501 بداية للكتاب المطبوع فهل يمكننا ان نتوقع عام 2003 بداية لانتشار سريع للكتاب الالكترونى و دخول الكتابة الاكتروتية طور الشباب؟ .
يعطينا بيل جيتس فى كتابة المشهور (الطريق امامنا) سببا اخر للتحول الى الكتاب الإلكترونى فهو يقارن التكلفة الاقتصادية لنشر الكتاب المطبوع بتكلفة الكتاب الالكترونى .
وقد كرر جيتس رأيه هذا فى مقال نشرتة مجلة الايكونومست فى اخر عدد لها فى العام 1999 ينبئنا فية بان يغير الكتاب الالكترونى العالم ثقافيا و اقتصاديا وسياسيا معللا عدم حدوث ذلك حتى الان بمشكلات العرض على الشاشة والتى فى سبيلها الى الاختفاء .
خمسة وعشرون قرنا—- تبتعد
ان قضية امكان انقراض الكتاب المطبوع واستبدالة بالكتاب الالكترونى ليست بالقضية الهينة التى يمكن فيها اطلاق التصريحات عن ثقة بانة لن يحدث او بالتفائل غير المقيد بالتحول الجديد .
فالكتاب المطبوع هو الشكل الاخير من سلسلة من التحولات والتطورات لتكنولوجيا الكتابة ، فمن الالواح الطينية الى جلود الحيوانات الى لفائف البردى الى الورق الذى انتشر فى العالم منذ القرن التاسع وساهم فى امكان اختراع المطبعة يأتي التحول الأخير نحو الكتاب الإلكتروني نتاجا لتزاوج الميديا الإلكترونية مع النص المكتوب . و في هذا السياق نعتقد ان جوهر القضية هو اننا نتحول تحولا جذريا من المطبعة الى الشاشة الا اننا نتمسك بالكتاب باعتبارة المصدر الوحيد للمعرفة دون ان نسال انفسنا وماالذى يقدمه لنا الكتاب كاداءة للمعرفة ؟ وهل من الممكن ان
يكون التحول نحو الشاشة بديلا مناسبا ؟
لقد تشكلت معارفنا وعقائدنا وعلومنا وفلسفتنا على مدى الخمسة وعشرين قرنا الماضية فى الكتابة والكتاب ، وقد اعتدنا التعامل مع الكتاب باعتبارة امتدادا للذاكرة . فالكتاب وسيط تكنولوجى يمكننا من التذكر بصورة واضحة، والمحاججة بشكل منظم، والمكتبة التقليدية تشكل على هذا النحو كتابا ضخما نتجول داخلة جسديا وعقليا مما يتيح لنا الانتقاء بشكل اكثر تركيزا . ولهذا السبب عينة يشكل لنا الكتاب الالكترونى مشكلة بحيث لانستطيع ان نقبل امكان وراثته للكتاب المطبوع . فهو اى الكتاب الالكترونى ، ليس اكثر من مجموعة من العلاقات والروابط الكامنة بين نصوص
مختلفة والتى تحيل القارئ الى علاقات اخرى و روابط اخرى مما يقلل من عمل الذاكرة الى حد بعيد الا انه و فى الوقت نفسة يشتتها. وهذا هو الخطر الحقيقى للهيبرتكست. كما ان الوسيط الالكترونى كتابا اومكتبة ، يظل طوال الوقت كتابا افتراضيا لا يستطيع القارئ الامساك به او الوقف عنده ، فهو ليس كتابا حقيقيا ولا مكتبة حقيقية وما اشبة موقفنا الان بموقف افلاطون حين رفض الكتابة فى القرن الخامس قبل الميلاد.

هاشم شاشوق
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..