مقالات وآراء

ذكرى تحير الخرطوم

محمد علي

لندن

في ذكري 26 يناير ذكري تحرير الخرطوم وعيد استقلال السودان الاول 

د. محمد المصطفي موسي 

عندما اشتد ساعد الثورة المهدية وتوالت انتصاراتها في دارفور وكردفان وشرق السودان .. قررت بريطانيا بالتوافق مع مصر الخديوية إرسال الجنرال تشارلز غردون حاكما عاما علي السودان .. غردون الذي ملأ الدنيا وشغل اهل بريطانيا بانتصاراته الباهرة لمصلحة الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس .. والتي زخمت الآفاق امتدادا من ارض الصين البعيدة والتي قمع فيها أكبر ثورة شعبية ضد الاستعمار البريطاني وانتهاءا بانتصارته التي سبقت بارض القرم في أقاصي أوربا .. ويقول البريطاني فيرغس نكول صاحب كتاب “مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون” .. ” في 26 يناير 1884م عندما استقل غردون القطار جنوبا من القاهرة في رحلته النهائية نحو السودان .. كان يبعد حوالي العام تماماً من حتفه النهائي !” .. (فيرغس نيكول : مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون  Sutton للنشر ، جلوستارشاير المملكة المتحدة 2004م ، ص 187 . 

وعندما وطأت قدما غردون ارض مدينة الخرطوم في 18 فبراير 1884م .. كانت توجيهات الامام المهدي قد سبقت للامير عثمان دقنة في شرق السودان بالإسراع في عملية تحرير مدن الشرق وقطع الطريق امام اي تعزيزات بريطانية عن طريق البحر الأحمر .. ووجه المهدي من خلال منشوراته الامير عبدالله حامد بسرعة توحيد قواته مع عثمان دقنة لتحقيق هذا الغرض .. واستجاب شيوخ المجاذيب بقيادة الشيخ الجليل الطاهر المجذوب لنداءات الثورة المهدية فقاتلوا في صفوفها .. كما تقاطر فرسان الهدندوة والامرأر والحباب والحلانقة والبني عامر لقتال المستعمرين تحت إمرة عثمان دقنة .. فكانت انتصارات دقنة الساحقة علي قوات الجنرال البريطاني فالنتاين بيكر واختراق المربع الانجليزي للمرة الأولي في التاريخ .. وأعقب ذلك تحرير طوكر وسنكات .. وإزاء ذلك يقول ونستون تشرتشل ” رئيس وزراء بريطانيا لاحقا” في كتابه حرب النهر : “احس غردون بان وضعه في الخرطوم صار مهددا بسبب العمليات العسكرية في خط انسحابه المفترض “ويسرد تشرتشل كيف ان بريطانيا قررت إرسال السير جراهام بقوات بريطانية خالصة من الهند وكيف ان عثمان دقنة احدث وسط قواته خسائراً فادحة شملت خيرة الضباط البريطانيين ولم يخف تشرتشل إعجابه بعثمان دقنة حينما يصفه بالقائد المحنك القادر علي تنفيذ انسحابات ذكية بعد خسائر قاربت ال 400 جنديا بريطانيا من جيش السير جراهام .. (ونستون تشرتشل : حرب النهر ، Mau Publising , نسخة الكترونية بتاريخ 2013 ، ص 74) . الجدير بالذكر ان مناورات عثمان دقنة العسكرية الناجحة مع القوات البريطانية في الشرق قد دفعت الجنرال الاستخباراتي البريطاني ريجنالد ونجت لاحقا علي وصف عثمان دقنة لاحقاً ” بثعبان الماء الزلق” .. كناية علي عبقريته العسكرية ! .. لقد كانت تعليمات المهدي المشددة لعثمان دقنة واضحة تماماً .. وهي البقاء في شرق السودان لمنع اي قوات بريطانية من التقدم ريثما يتم تحرير الخرطوم . لقد طارت أصداء انتصارات الثورة المهدية علي القوات البريطانية .. في شرق السودان .. لاصقاع أوربا البعيدة فكتب شاعر بريطانيا الاول آنذاك “كبلينج” .. اروع قصائده عن معارك المهدية مع القوات البريطانية في شرق السودان .. بعنوان Fuzzy Wuzzy .. 

في ما وراء البحار جالدنا أقواماً شتى 

بعضهم كان باسلاً .. وبعضهم لم يكن باتان، وزولو، وبورميين 

لكن الأشعث كان أعجبهم 

لم يمنحنا معشار فرصة 

بل لبد راصداً في الحرش .. ثم عقر خيلنا!   

مزق أرصادنا في سواكن 

ولاعبنا لعبة القطة والفأر 

يا أيها الأشعث الثائر في وطنك السودان 

يا لك من فارس لعين ومقاتل من النخب الأول 

ولو شئت أعطيناك بذلك شهادة إقرار 

ولو شئت أتيناك لنحتفل سويا بالإقرار 

الأشعث ليس لديه أوراق تمجِّده كأوراقنا 

لا ميداليات ولا مكافآت يتلقاها كمكافآتنا 

فعلينا نحن إذن أن ندوِّن له كلمات النصر 

وهو يقفز كالشيطان بين أشجار الحرش 

حاملا .. ترساً وحربة !  

خذ القول يا أشعث أنت وأصدقاءك الذين فقدت 

برغم أننا لم نشيّع من أصدقائنا قدر ما شيعت 

إلا أن الصفقة عادلة يا أشعث 

لقد قدمت ضحايا أكثر مما قدمنا 

لكنك يا ماكر … كسرت في النهاية صندوقنا  

أخيراً إليك يا أشعث في وطنك السودان 

أيها الفارس اللعين والمقاتل المصطفى 

إليك يا ذا الشعر الثائر.. 

تهانينا يا أحمق يا مغوار فقد كسرت المربع البريطاني ! 

كبلينج : Barrack room ballads by Rudyard kipling ، جامعة اكسفورد، المملكة المتحدة – نسخة الكترونية 2012 ، ص 14 ، ترجم النص للعربية الدكتور غازي صلاح الدين .

وفي الوقت الذي اصدر فيه المهدي توجيهاته للأمراء الشيخ العبيد ود بدر والأمير الشيخ حمدالنيل احمد الشيخ يوسف ابو شرا (صاحب الضريح الشهير بأمدرمان) والأمير علي الشريف محمد الامين الهندي .. بتوحيد الجهود لحصار الخرطوم .. انضم الشيخ عبدالقادر ود ام مريوم حفيد الشيخ حمد ود ام مريوم لركب الثورة المهدية مبايعا للمهدي ومحاصرا للخرطوم من جهة الكلاكلة .. كما قام الامير الشيخ احمد المصطفي الامين ود ام حقين بتشديد الحصار من جهة السروراب .. وأرسل المهدي الامير محمد عثمان ابوقرجة بقوات مقاتلة وعهد اليه مهمة حصار الخرطوم الي حين تحركه هو بباقي الجيش من جهات كردفان نحوها .. وتوافد امراء الرزيقات بقيادة الامير موسي مادبو وكوكبة من فرسان الزغاوة بقيادة الامير طاهر إسحاق الزغاوي وصحبهم امراء المسيرية بقيادة الامير علي الجلة ومعهم عدد من فرسان المساليت وتوافد الفلاتة بخيلهم بقيادة الفكي الداداري .. وتقاطر فرسان الحلاويين من الجزيرة تحت إمرة الامير ود البصير والأمير عبدالرحمن القرشي ود الزين وثلة من فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبدالله عوض الكريم أبوسن .. وفرسان العركيين بقيادة الامير ادريس ود الشيخ مصطفي العركي وقوات من قبيلة الكواهلة بقيادة الامير جادالله ود بليلو.. كما تنادي فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح بقيادة الامير بابكر ود عامر وود مدرع والفقيه سعيد الدويحي من النيل الابيض .. ثم عُين امير الأمراء الامير عبدالرحمن النجومي قائدا عاما لحصار الخرطوم .. فاحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بمعصم اليد ! .. ولعل تاريخ السودان القريب او البعيد لم يشهد تنادي أشتات نخبوية وشعبية سودانية مختلفة لمحاربة الاحتلال تحت راية سودانية موحدة كذلك الذي حدث إبان عملية تحرير الخرطوم .. وفي هذا الشأن يقول البروفيسور الامريكي ريتشارد ديكميجيان استاذ العلوم السياسية بجامعة جنوب كاليفورنيا .. في سفره القيم بعنوان (كاريزما القيادة في الاسلام ، مهدي السودان) : ” لقد كانت مقدرة المهدي علي مخاطبة وتحريك الجماهير افضل مثال للبساطة والوضوح المطلوب .. في مجتمع معقد ومتعدد الأعراق والثقافات كما هو حال السودان في القرن التاسع عشر .. كانت الثورة المهدية تمثل نقطة التقاء لمطامح وامال عريضة لقوي قبلية واجتماعية وسياسية مختلفة قاومت الاحتلال الأجنبي . لقد كان لكاريزما القيادة عند المهدي الدور الأكبر في تجاوز تقاطعات تلك القوي و استرضاء اشتاتها المختلفة وتحقيق التجانس والانصهار بينها ثم الوحدة الوطنية ومن ثم الانتصار للثورة ” .. (ريتشارد ديكميجيان ومارغريت وزموريسكي : كاريزما القيادة في الاسلام : مهدي السودان ، جامعة نيوريورك ، الولايات المتحدة، 1972 ، ص 20

وفي اكتوبر1884م وصل الامام المهدي الي ضواحي الخرطوم بجيشه فاستقبله كبار الأمراء .. ولحظ الجميع تورم قدميه حيث ان القائد أصر علي قيادة الجيش بنفسه وهو يمشي راجلا من كردفان الي الخرطوم .. تضامنا وتشجيعا لبعض أنصاره من المشاة الذين لا يمتلكون جيادا او دوابا للسفر. ولم يهدر القائد الكثير من الوقت فاصدر منشوره الشهير لقوات الثورة المهدية المحاصرة للخرطوم حاثا علي الانضباط وعدم التعرض للمدنيين .. والذي جاء فيه : ” حيث لا يخفي عليكم ان الظلم دمار وهو محرم كتب وسنة وليس من دأب الأخيار وإنما هو طريق الكفار الفجار . وانتم أنصار الله وقد خرجتم في سبيل الله ، فاحذروا من فساد هجرتكم وصونوا أنفسكم من التعرض للناس في حقوقهم وأموالهم ونسائهم بالطريق لغاية وصولكم ذهابا وإيابا واعلموا ان من تعدي علي احد في نفسه أو ماله أو نسائه فنحن غير راضين عليه ولابد ان ينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة” .. (ابوسليم: الاثارالكاملة للامام المهدي ،دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1992، ص 161  . 

ويسرد فيرغس نكول مجهودات المهدي لحقن الدماء وومحاولة إقناع غردون بتسليم المدينة حين يقول “لقد شرع محمد احمد المهدي في حملة مراسلات مطولة امتدت لزهاء العشرة أشهر لإقناع غردون بالعودة الي بلاده مكرماً بدلا من إزهاق باقي عمره في الدفاع عن ما لا فائدة في الدفاع عنه !” .. كما بدأ الامير محمد عثمان ابوقرجة حملة مراسلات مع غردون لتحقيق نفس الغرض من دون نجاح يذكر .. وقد أورد المؤرخ البريطاني الفريد هيك صاحب كتاب ” يوميات الجنرال غردون ” أورد .. نص خطاب الامير عبدالرحمن النجومي لغردون والذي نقله نيكول ايضا .. وجاء فيه : ” لقد مضي زمن طويل وانت لا تريد الإذعان والتسليم .. ولقد أمدنا الله الان بالرجال الأشداء الشجعان ومنهم أصحابنا وأحبابنا .. رجال يحبون الموت في سبيل الله تماماً كما تحب انت الحياة ! .. يجاهدونك طمعا فيما عند الله من ثواب .. الموت أحب اليهم من زوجاتهم ومن كل ما يملكون في هذه الدنيا الفانية .. ان المهدي يعمل لخيرك وصلاحك .. وعلي الرغم من ذلك ما زلت انت في عنادك وتكبرك .. تدير ظهرك لذلك وتعتمد علي قواك الزائلة والتي ستتجرد منها قريبا بإذن الله “..( نيكول : مصدر سابق ، ص 189 ، ص 201 ) .. وعوضا عن الرد علي ود النجومي .. ارسل غردون مجموعة خطابات لإمبراطور روسيا وإمبراطور النمسا وملك إيطاليا والبابا ليو الثالث عشر يحثهم علي دعمه في مواجهة الثورة المهدية وخطرها .. ويصور الامر علي انه نوعٌ من صراع الحضارت .(خطابات غردون لملوك أوربا وبابا الفاتيكان بتاريخ16،15-4-1884.. فيرغس نيكول:جلادستون وغوردون وحروب السودان ، Publisher Pen and Sword,

نسخة الكترونية 2013 ، ص 28

وفي الناحية الأخري من شمال الكرة الأرضية .. يذكر “لايتون ستريتشي”في مؤلفه بعنوان ” نهاية الجنرال غردون “.. كيف بدأت حملة الرأي العام البريطاني تضغط جلادستون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك .. للعمل علي إرسال جيش إنقاذ بريطاني لاسترداد هيبة بريطانيا التي تمرمغت في تراب السودان .. وفي مارس 1884م ارتجل جلادستون خطبة عصماء في مجلس العموم البريطاني ردا علي هذه الحملة المحمومة وختمها بعبارته الأشهر علي الإطلاق .. ملخصا الوضع في السودان كما يراه هو .. ” ان هذا الشعب يناضل من اجل حريته .. ومن حق هؤلاء ان يناضلوا من اجل حريتهم ! ” .. مما اثار حفيظة صقور مجلس العموم البريطاني بقيادة اللورد هارينجتون وزير الحربية وآخرين .. بينما استبقت الملكة فكتوريا الجميع بخطابها لرئيس وزرائها” جلادستون” الصادر من قصر باكينجهام بتاريخ 1884م ..” ان لجلالة الملكة مشاعر قوية تجاه ما يحدث في السودان .. انها تعتقد انه لابد من توجيه ضربة قوية لهؤلاء المسلمين حتي يعلموا جيدا انهم لم يهزمونا بعد ! هؤلاء الأعراب المتوحشون لن يتماسكوا ليجترئوا علي الوقوف امام جيوش جيدة ومنظمة .. ان جلالة الملكة لترتجف من اجل سلامة الجنرال غردون وان أصابه اي مكروه ستكون النتائج في غاية السوء ” .. ( روبن نيللاندز : حروب المهدية .. غردون وكتشنر في السودان 1880- 1889 ، جون موري للنشر ، لندن 1996 ، ص 112) .. وهكذا اندفعت بريطانيا بقضها وقضيضها لقمع الثورة السودانية الوليدة ! .. فتمخض ذلك عن إرسال جيش حملة الانقاذ البريطاني الشهير بقيادة اللورد ولسلي علي وجه السرعة و دون إبطأ !  

تعليق واحد

  1. ويجيك واحد ( اطرش و جاهل ) ليقول عن هؤلاء الابطال الذين بذلوا ارواحهم ومهجهم رخيصة من اجلنا انهم ( مجموعة من الدراويش والهمج ) وان قائدهم ( مشعوذ ودجال ) !!!

    حين داعي البذل (بالروح) دعا
    كيف بالسيف تحدى المدفعا
    ودما بذلوها ذرة لا تستكين
    للخنا للقيد للعيش المهين ..

    سلام من الله على الامام المهدي و رجاله البواسل الاحرار في عليين ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..