عنكوليب الكلام أم درابه؟!

(عندي ليكو سؤال)، تتراءي هذه الجملة، عند بعضنا بسيطة، وربما تبدو غريبة كذلك لغيرنا، لأن كلمة (ليكو) تتوسط كلمتي: عندي، وسؤال؛ وهي كثيرا ما نسمعها في العامية الدار فورية، إلا أن معناها قد لا يدركه غالب أهل السودان، بمن فيهم كذلك أبناء الثقافة هذه؛ والتي تعني: لكم أي- عندي لكم سؤال؛ وهي تأتي تقدمة لمن ينوي أن يطرح تساؤلا وسط الجماعة.
إبتدرت مقالتي اليوم بهذه الجملة، علني أطرح عقيقا أو عنكوليبا، أو درابا من الكلام، خلال السطور القادمة، لنساهم سوية في إيجاد المعالجة والحلول، لبعض المشكلات التي إستعصمت بالبقاء؛ حيث إنني في صباح يوم ماطر، أعددت نفسي، وهممت الذهاب باكرا إلي العمل؛ وبينما أنا سائر في طريقي، متمشيا علي رجلي؛ فإذا بعيني تقع علي شابين، في جلسة مؤانسة ركن قصي، يتجاذبان أطراف الحديث، أو ما يسميه أهل دار فور، بـ (عقيق الكلام)؛ والعقيق هو نوع من القصب حلو المذاق، يعرف بـ (العنكوليب)؛ تتم زراعته في فصل الخريف، كغيره من محاصيل: البامية والتبش والبطيخ، التي تتم حصادها في بداية الدرت، حتي يغطي المزارعون- من ريعها- إحتياجاتهم اليومية، ويكملوا حصاد ما تبقي من محاصيلهم الأخري.
بالطبع كان لزاما علي السير قدما نحو مقصدي، دون التوقف، بيد أني عرفت في لمحة بصر، أن حديثهما عن حال البلد؛ وماهية دور السياسة والحكم فيما نحن فيه؟!، ثم ما هي المآلات والعواقب التي تنتظرنا؟!، حيث حصب أحدهما كلاما درابا للآخر: (الجماعة الجايين يحكمونا ديل، كلهم من المركز)- أي أن القادمين- لحكم الولاية، جلهم من المركز؛ فكانت إجابة صديقه الغاضب، في شكل إستفهام إستنكاري، متسائلا: (إنت عايزهم يجوك من وين؟)- أي من أين- تريدهم أن يأتوا؟؛ ويبدو أن وفاض صديقه ليس بالخالي، بل جاء رادا ومؤكدا معرفته بواطن الأمور.
هذا الحديث الجريئ، كما يسميه بعضنا بـ (دراب الكلام)- أي الكلام- الذي لا يراد قوله في أي مكان، جرني إلي الوراء وشد إنتباهي قليلا، مثلما إستفز مشاعري، وقلبها رأسا علي عقب؛ ثم رجعت بعقلي إلي إستذكار الصراع الأزلي التاريخي، المتجدد بين من وسموا أنفسهم بأبناء النيل، وأؤلئك القادمين من أقاصي أقاليم أو ولايات السودان، المأفونين بالوعي والإدراك، أو بالرعونة والغباء! أو المتدثرين بجلباب الطمع والجشع، أو بالرضي والإكتفاء!، أو المقنعين بالخوف والإرتياع، أو بالأمان والإطمئنان!؛ وذات الإصطراع المتجدد، هو ما إصطلحوا عليه مؤخرا، بصراع الهامش والمركز!؛ أو صراع الريف والحضر!، أو صراع أولاد المدينة و(القوازة)- أي القادمين- من القري، أو صراع الأحياء الراقية والمتخلفة.
لأن المركز له هوامش، مثلما للهوامش مراكز؛ فمثلا تعتبر ولاية الخرطوم، مركزا للسودان، فيما تشكل الولايات، هوامش؛ كما تعتبر عواصم الولايات هي المراكز، بينما المحليات، هوامش؛ في الوقت الذي تشكل فيه رئاسات المحليات، مراكز، بينما بقية الوحدات الإدارية، هوامش، كما تعتبر الأحياء المنعوتة بالرقي، الحائزة علي خدمات: الكهرباء، والمياه، والصحة، والتعليم، وغيرها من الخدمات، مراكز حضرية، بينما الأحياء الفاقدة لهكذا خدمات، والموصوفة بالتخلف، هوامش.
لذلك فإن قضية المركز والهامش قضية مفاهيمية في المقام الأول، تحتاج إلي ثورة من القيم المفاهيمية بذات القدر؛ بإعتبارها واحدة من الهموم التي أرقت كثيرا من المجتمعات النائية؛ القضية التي نازعتني فيها نفسي، وحدثتني عن ضرورة أن نجعل منها، عقيقا أو عنكوليبا للكلام، وإن شئت فقل: أن نعبر عنها درابا، ولو بكلمة واحدة؛ ولعلها تعد الأزمة الأكثر فائحة، قد أزكمت الأنوف، سيما إذا ما أسقطناها علي أرض واقعنا الماثل، نجدها حقيقة واقعة، لا مراء منها، ولابد مما ليس منها بد؛ تتطلبنا وقوفا تحليليا، وممارسة للنقد الذاتي، ثم تقييما وتقويما لها.
ذلك الدراب من الكلام، أو تلك الجرأة الشبابية، دفعتني إلي تدوير الموضوع، وبلورته من خلال تساؤلات، ربما تعين علي معرفة السر، وكشف اللغز الذي ظل كامنا في الصدور؛ أن لماذا الوصاية حاضرة حتي يومنا هذا؟!؛ ولماذا يكون حكام الولايات والمحليات من المركز؟!، أيا كان هذا المركز، أو أيا كانت هذه المواقع، بدء: بالولاة، مرورا بأعضاء البرلمان الولائي، وبعضا من الوزراء الولائيين، وإنتهاء بالمحافظين، أو المعتمدين، أو غيرها من الوظائف العليا؛ فغالب هؤلاء، تجدهم من أبناء الولايات، المستقرين في الخرطوم (مركز السودان- ست الزوق والفهم)، أو أؤلئك المستقرين في مراكز الولايات؛ أو القادمين من الهجرة؛ وهذا ينسحب كذلك علي بقية الوظائف الولائية والمحلية.
مما يدفعنا إلي طرح العديد من التساؤلات: لماذا التمركز والتموضع إذا؟!؛ وهل يا تري حقا المركز هو محل: العلم، والمعرفة، والفهم، والزوق، والدربة، والدراية؟!، بينما الهامش هو مرتع الجهل والتخلف … الخ؟!؛ أم أن الأمر مجبول علي المركز، بحسبانه صانعا لمطبخ القرار؛ وما علي أبناء الهامش، إلا السمع والطاعة، وعدم العصيان والتمرد.
فقرار المركز أولي أن ينفذ!، وأوامره واجبة الإتباع!؛ لأن المركز هو ولي النعمة، الذي يجود ببعض عطاياه، لمن يسيل لعابه لها؛ وإن تعارضت مع رغبة وإرادة الشعوب، التي لم تتعلم بعد، أن ما تعتقده عطايا، هي حقوق ينبغي ألا يستأثرها المركز، ليمنحها من يريد، ويمنعها ممن يريد؛ مثلما لم يخرج المركز أيضا من عباءته الضيقة، ونظرته الإستعلائية.
لذلك فإن صراعات المركز والهامش، تتجلي في حروب الوكالة والإقتتال، بين شعوب الهامش، والإحتقان بين أبنائه في المركز، أو في الهامش نفسه؛ لأن أبنائه يتهرولون حافيي القدمين، طلبا لخطبة ود إبنة ولي نعمتهم- الولود الودود- للسلطة والثروة، رغما عن أن ولي النعمة هذا ليست لديه الرغبة، في الموافقة علي قبول الخطبة، ناهيك عن التزويج؛ بإعتباره الأب الشرعي، والمانح والمانع لصك السلطة والثروة.
وهذا بدوره فاقم من نقل الصراع إلي الهامش، تحت دواعي وذرائع إختلقها طلاب السلطة، وتجار الحروب، المستثمرين في الأزمات؛ وكلها حجج وذرائع واهية، لا أساس لها من المنطق؛ تتدثر تارة، ثوب القصور التنموي، وحينا آخر، تدعي إفتراشها لحاف الظلم والفساد، حتي تتعارك وتتطاحن بسببه: القبائل، والمجتمعات، والولايات والأقاليم؛ بحجة إستردادهم للحقوق التنموية، ومحاربتهم للظلم والفساد، وحفاظهم علي الأرض والتاريخ.
نور الدين بريمة: دنيا دبنقا
[email protected]
درابة