ثورة إكتوبر.. بعيون القوى السياسية

استطلاع: محمد داؤود
(أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي)، هكذا كان الواقع السوداني في مثل هذا اليوم، الذي خرجت فيه جموع الشعب السوداني قاطبة، واصطفوا زرافات ووحدناً، وعمت فرحة (نابعة من كل قلب بلادي)، ولا صوت يعلو فوق أهازيج الثوار، الذين ضاقت بهم الطرقات ليمحوا (الحزن الذي كحل هاتيك المآقي)، وذلك بالتقاء جيل البطولات بجيل التضحيات، وذلك بخبرة الشيب وعنفوان الشباب والطلاب الذين أشعلوا الثورة التي لم تكن حدثاً عفوياً، بل نتاج لتراكم عمل نضالي، فكان المشهد أسطورياً لشعب يصنع مجداً ويكتب تاريخاً لقهر الظلم، فلم تكن أكتوبر ثورة (جياع)، فقد كانت ثورة من أجل الحرية، وذلك لأن نظام الفريق عبود الذي أطاحت به الثورة يشهد له القاصي والداني بالاستقرار الاقتصادي، وتظل ذكرى ثورة أكتوبر زاداً ومصدر إلهام لكل الذين يؤمنون بأن جذور الحرية لا تموت وإن تراكمت عليها الأرض. وفي مثل هذا اليوم كانت ثورة 21 أكتوبر 1964م، خرج الشعب السوداني بأعداد تحجب عين الشمس ليتحول الغضب المكظوم في الصدور، ويفجر بركان الثورة .*من أجل الحرية نائب رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمة ناصر قال إن الذكرى تمر عليهم وهم لا زالوا على مبادئ الحرية والسلام والعدالة، منوهاً إلى أن تلك مبادئ يسقط كل ما دونها، مشيراً إلى أن أهم شيء يمكن أن ينبه له هو أن ثورة أكتوبر كانت من أجل الحرية ولم تكن من أجل الضنك الاقتصادي أو غيره، معتبراً أن أكتوبر كانت ثورة شعب كامل وشاركت فيها كل مكونات المجتمع السوداني، فحقاً هي ثورة الشعب.وأضاف برمة (عبركم أهنئ الشعب السوداني بذكرى أكتوبر المجيدة ونحيي إجلالاً شهداء أكتوبر الأبرار، ونؤكد لهم أننا على الدرب سائرون وعقيدتنا لن تلين وسنبني بالعزيمة وطننا العريض لكل أهل السودان ونقول لهم: الوحش يقتل ثائراً، والأرض تنبت ألف ثائر، يا كبرياء الجرح إن متنا لحاربت المقابر)، ومضى برمة قائلاً في حديث محزن لـ(آخر لحظة)، أكتوبر ذكرى عشناها واستخلصنا منها الدروس المفيدة ولكن نحن أبناء الحاضر.*التفاف الشعب القيادي بالمؤتمر الوطني د.ربيع عبدالعاطي يرى أن أكتوبر هي ثورة نخب والتف حولها الشعب، مشيراً إلى أنها كانت نتاج تطورات سياسية استجدت في الساحة السياسية السودانية، مقراً بإحداث اختراقات كبيرة وتطورات خلفتها ثورة أكتوبر في الخارطة السياسية والاقتصادية السودانية، منبهاً إلى أن أكتوبر هي ثورة تعبر عن إجماع سوداني وأن الشعب السوداني هو مفجر الثورات في القارة باعتبار أنها كانت الثورة الأولى في المحيط القاري.وعن مدى تخوف المؤتمر الوطني من رياح الذكرى، أوضح ربيع بأن الثورة تتخلق من معطياتها، مشيراً إلى أن الأنظمة تبقى بتواكبها مع التطورات السياسية التي تعتري الساحة السياسية، قائلاً (من يواكب التغيرات يبقى ومن لا يواكب يذهب).*ثورة حرية حسن عبدالحميد النائب البرلماني القيادي الإسلامي، قال: ثورة أكتوبر من أعظم الثورات التي عرفها التاريخ الإنساني الحديث، مشيراً إلى أن الثورة جاءت في وقت تشهد فيه الساحة السياسية في تلك الحقبة كبح الحريات، وأن الشعب حينها لم يكن أمامه خيار غير الثورة، وأشار حسن إلى أن مربط الفرس في أن ثورة أكتوبر لم تكن ثورة (جياع)، بل كانت ثورة من أجل الحرية. المفارقة بأن الحزب الشيوعي قد احتفل في السابع عشر من ذات الشهر، بذكرى ثورة أكتوبر الروسية، أما هنا في السودان فإن اللغط ما زال قائماً لدى الحزب الشيوعي السوداني فيما يتعلق بثورة أكتوبر السودانية. سكرتير الحزب الشيوعي محمد مختار الخطيب، عبّر عن بالغ سعادته بمقدم ذكرى ثورة أكتوبر، مترحماً على أرواح شهداء الثورة، وأشار خلال حديثه لـ( آخر لحظة) إلى أن ثورة أكتوبر تمثل بالنسبة لهم في الحزب حدثاً تاريخياً مهماً، باعتبار أنه كان مساهمة سودانية خالصة في النضال السوداني ضد الديكتاتورية، باعتبار أنها ـ أي الثورة ـ أرست ثقافة الأدب الثوري في اتجاه الانتفاضة والنضال الثوري، موضحاً أن ثورة أكتوبر التقفتها القوى العالمية والإقليمية، وسارت على ذات النهج الذي انتهجه الشعب السوداني في تعليم الشعوب معنى الثورة، وقال الخطيب إن جموع السوداني جاءت من كل حدب وصوب من الفيافي والمدن، تتضامن مع الثوار من أجل الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية.*كلمة الشعب القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي (العوض الزين) لم يذهب بعيداً عن حديث سالفي الذكر من القوى السياسية، حيث قال: أكتوبر كانت ثورة ضد عسكر كانوا من أشرف العساكر، وكانوا عفيفي اليد واللسان، وكان الشهداء قلة يعدون على أصابع اليد، وحققت تطلعات الشعب بالتغيير، وأكتوبر قال فيها الشعب كلمته، وكانت الغاية هي الحرية.*نموذج للسماحة القيادي بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبدالرازق، قال: ثورة أكتوبر تمثل نزوعاً سودانياً نحو الحرية في وقت باكر على أعتاب انتهاء المرحلة الاستعمارية في أفريقيا وتطلع دول أخرى نحو التبعية، والاستبداد، ويعتقد أنها نموذج للسماحة السودانية لقائد في درجة عالية من الأخلاق استلم السلطة من عبدالله خليل وسلمها طواعية للشعب، وقال أبوبكر (وبناءً على التفاوض والعهد والميثاق، قاده الترابي سلم السلطة للشعب، وكانت ندوته في جامعة الخرطوم يتحدث فيها عن مشكلة الجنوب قائلاً إن الأمر لا يمكن أن يساغ على أنه قضية الجنوب والشمال بقدر ما هو مشكلة دستورية متعلقة بالحريات، والترابي هو الذي أشار للمهدي بالصلاة على الجثمان). وأوضح عبدالرازق بأن أكتوبر وقودها (الشماسة المغامرون)، مشيراً إلى أنها هي التي علمت الشعب معنى الثورة، ومن المؤسف أن الجنوب الذي كان شرارة الثورة قد غادر وأصبح دولة فاشلة والسودان لا زال دولة متخلفة وتبعية، نأمل مغادرة يظل الهدف واحداً وتختل الأدوات والثورة هي فن التغيير ونحن نستهدف الحفاظ على الوطن ووحدة نسيجه الاجتماعي حتى تكون لنا أرض نتصارع فيها مع الآخرين.
*هل حققت الثورة أهدافها؟كل ممثلي القوى السياسية الذين تحدثوا لـ(آخر لحظة)، اتفقوا على أن ثورة أكتوبر آتت أكلها، وتوحدت مشاعر القوى السياسية وأجمعت بأن أكتوبر أحد أهم الأحداث السودانية التي غيرت في الخارطة السياسية السودانية كنتاج حقيقي لتطورات شهدتها الساحة السياسية آنذاك، كما اتفقوا على أن ثورة أكتوبر تمثل أيقونة الثورات السودانية والمحلية والإقليمية والدولية، باعتبار أنها الأولى على المحيط المحلي والإقليمي وكانت ثورة أحرار ولم تكن من أجل ضنك العيش، فهؤلاء يرجعون تحقق أهداف الثوة لارتباطها بالحرية، بصرف النظر عن برنامج ما بعد الثورة.
الشاهد أن الأوضاع ما بعد الثورة قد تغيرت تماماً، وسادت مقولة في الوسط السوداني آذاك (ضيعناك يا عبود وضعنا وراك)، وذلك باعتبار أن حكومة الفريق إبراهيم عبود، شهدت استقراراً اقتصادياً، وفي عهده شهد السودان أولى خطواته في التنمية بعد الاستقلال، وأرسى عبود أقوى البنى التحتية لاقتصاد السودان مثل إنشاء خزان الروصيرص وخزان خشم القربة ومصانع السكر الجنيد، مصنع سكر حلفا، ومصنع سكر ملوط، وامتداد مشروع المناقل، ومشاريع الزراعة الآلية في الدالي والمزموم وأقدي، وعدد من مصانع الفاكهة والألبان والبصل وصناعة التعبئة أروما ومد السكة الحديد جنوباً حتى واو وغرباً حتى نيالا، وإدخال قاطرات الديزل بدلاً من البخار وأنشأ عبود الخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية السودانية والغزل والنسيج، بيد أن الساسة يذهبون بالقول بأن الحرية لا تضاهى بثمن. *سر الختم والمهمة الصعبة ويذهب كثير من المراقبين إلى أن التحدي (الجم) الذي كان أمام القوى السياسية والمدنية وروابط الطلاب إبان ثورة أكتوبر، هو إجماعهم على شخصية لإسناد مهام حكومة الثورة لها، وحينها لم تتأرجح خيارات القوى السياسية بأن يخرج رئيس حكومة الثورة من (الأقلام) بوضع الأمانة في عنق (سر الختم الخليفة الحسن)، ليكون رئيساً لحكومة الثورة، وهو من مواليد ولاية النيل الأبيض، ومن حواضرها مدينة الدويم، وصرخ في هذه البقعة في العام 1919م، ووالدته نفيسة الفكي العبيد.
هو من قبيلة (المعلمين) التي كانت لها (صولات وجولات) في تلك الأيام الخالدات من عمر الدولة السودانية، تلقى تعليمه الأولي والوسطى بمدارس الدويم وبخت الرضا، ومن ثم تخرج في كلية غردون التذكارية مدرسة المعلمين في العام 1937م ومن ثم جامعة إكسفورد كلية اكستر، في العام 1946م.
كان معلماً بمعهد تدريب المعلمين ببخت الرضا، وساعدته مؤهلاته وجهده للترقي لوظيفة ـ باش مفتش ـ تعليم محافظة الإستوائية جوبا، وفي برهة من الزمن صار مساعداً لمدير التعليم في المديريات الجنوبية، وكانت كل تلك الترقيات دافعاً لأن يكون عميداً للمعهد الفني بالخرطوم. وبإجماع كبير من القوى السياسية وأساتذة جامعة الخرطوم، والنقابات والاتحادات الطلابية والعمالية والمهنية، دخل التاريخ من أوسع أبوابه ليكون رئيساً بالإجماع، للحكومة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر 1964م، والتي كان جهدها ينصب لإعادة الحكم المدني للبلاد بإجراء الانتخابات البرلمانية ومن ثم إجراء انتخاب الحكومة.
آخر لحظة.