مقالات متنوعة

: شعب بهذه الأخلاق كيف لا ينتصر !!

قبل سنوات قدمت الخطوط التونسية للمجلة التي كنت متعاون معها دعوة لتدشين الموسم السياحي الجديد في تونس فذهبت مع رئيس تحرير المجلة وهو دكتور سوداني عظيم رحمه الله ودائما يدعوني معه في كل دعواته ولقاءاته الصحفية . وجلسنا على المائدة وبجوارنا صحفي خليجي . وتعرفت عليه وله معرفة سابقة بالدكتور رئيس تحرير المجلة . الدكتور بالرغم من أنه لم يزر السودان في حياته ويعتبر من المهاجرين الأوائل من السودان هو وأسرته الكبيرة والصغيرة لكنه كان يحب السودان ويعتز بسودانيته ومن أكتر الشخصيات التي قدمت خدمة للسودانيين في الخليج وأتمنى من كل الذين وصلتهم خدمات (الدكتور) خاصة من قام بتدريبهم وتأهيلهم أن لا ينسوه
المهم .. الصحفي الخليجي كان يمازح الدكتور وحاول أن يثير حفيظته ببعض الكلمات لأنه يعلم غيرته على السودان  ففي نهاية المزح سألنا عن حال السودان وأخبار الوضع الإقتصادي وعن السلام وعن حرب دارفور
وكان طبيعيا أن أسأله عن بعض التفاصيل الدقيقة التي تطرق إليها وفي نهاية حديثه حكى لنا القصة التالية :
بعد تنفيذ إتفاقية السلام بين جزء من حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كلفتني الصحيفة أن أجري مقابلات مع بعض الشخصيات من الحكومة ومن الحركات المسلحة الموقعة على هذه الإتفاقية وكذلك أخذ عينات من الشارع السوداني أجريت كل القاءات المطلوبة وعندما أردت أن آخذ رأي الشارع قررت أن آخذ عامل وبكل تفاصيل حياته مع أسرته حتى يكون توثيق لي في أي عمل آخر فإخترت عامل وقررت أن أقضي أطول فترة ممكنة معه خلال اليوم في بيته ووافق فورا ورحب بالفكرة وساعدني مراسل الصحيفة في ذلك فذهبت معه مكان عمله ثم بعد نهاية اليوم ذهبت معه الى بيته
حقيقة ذهلت لم أتخيل أن يكون في ناس فقراء الى هذا الحد هذا العامل يعيش في بيت صغير جدا مع زوجته وأطفاله ووالدته فهي الأخرى كانت مريضة ولها مراجعات دائمة في المستشفى ومعهم في نفس البيت أيضا شقيق زوجته طالب وهذا غير الزائرين من خارج الخرطوم والبيت بالكاد يستطيع أن يعيش فيه هو وبقية أطفاله , وعن الراتب لا يستطيع أن يعيش به حياة كريمة نصف الشهر
لكن بالرغم من هذه الظروف الصعبة لا تتخيل كيفية الإستقبال والحفاوة والكرم ودعوني معهم للغداء وأحسست بفرح بناته الصغار كانوا فرحين بصورة غريبة بوجودي معهم وفي نهاية اليوم أو بعد الساعات التي قضيتها معهم حدثت واقعة غريبة وهي التالية :
بعد الوداع أخدت أغراضي وكنت متأثر من فقرهم وبما إني سأكتب مقال وسآخذ عليه مبلغ محترم فقررت وأنا ذاهب أن أعطي البنت الصغيرة 200 دولار فكان هو المبلغ المتوفر معي في تلك اللحظة ومن غير أن يلاحظ والدها وأثناء وقوفنا في إنتظار تاكسي يوصلني الى الفندق وكانت بنته معنا فلاحظ والدها الفلوس في يدها سألها : من أين لك هذه الفلوس قاطعته وقلت له مني أنا تغير وجهه وحلف (بالطلاق) أنه لازم ترجع فقال عيب (يازول أنت ما جيت مطعم) بهذه اللهجة العامية فحاولت فقالي بعد الطلاق مافيش كلام وساد صمت بيننا ثم ودعتهم
سأله الدكتور ماذا إستنتجت من هذه الواقعة ؟
فقال: لقد علمني هذا العامل السوداني درسا لن أنساه (عندما يعاني الإنسان من كل هذا الفقر والقمع والظلم ويظل يحتفظ بشجاعته وكرامته فإنه حتما سينتصر على الفقر وعلى الظلم)
تذكرت هذا الحوار في هذه الأيام والشعب الفقير المظلوم يقاتل ويواجه حكومة (الجبهة الإسلامية) الفاشية الظالمة وفي هذا الأثناء شاهدت صورة الطفل الذي يحمل كيسا ثقيلا عليه لا يستطبع أن يقف من ثقله وبه سندوتشات ويدعو المتظاهرين على أخذ السندوتشات أرسلته أمه وهي غير مبالية بالبمبان أو أصوات الرصاص الذي ينزل كالمطر فوق رؤوس الناس المسالمين … كم أنت عظيمة أيتها الأم السودانية الثائرة .
وكذلك شاهدت النساء في أم درمان وبحري وهن يفتحن البيوت ويقدمن الماء البارد والعصير للمتظاهرين مع الدعوات (والزغاريد) وشاهدت أجمل منظر في حياتي السندوشتات في كيس كبير ومعلق على شجرة يأخذ كل إنسان جائع ما يشاء . مما يدل بأننا لم نخرج للخبز ولا ثورتنا ثورة للخبز كما تصور قناة الجزيرة
وكذلك شدني منظر الشباب في هذا الزحام وأثناء الرصاص فوق الرؤوس والمعركة حامية الوطيس يجمعون مبلغ لمواطن قامت مليشيات الحكومة بتحطيم زجاج سيارته عنوة وهربوا فأبت نفوسهم العفيفة الطاهرة التي لا تشبه أخلاق الحرامية فلم يذهبوا إلا بعد أن وفروا المبلغ لهذا المواطن المتضرر والغريب أنهم لا يعرفون بعضهم من قبل الا في هذه اللحظة وهذا يدل على سلميتهم السؤال : كيف لهؤلاء بهذا النبل يقومون بتخريب المنشات العامة والخاصة كما تصور لنا ( قناة 24) .
فعلا أنه شعب عظيم يحكمه أقزام .. وحتماً سينتصر ويبني سودان جديد يسع الجميع وعظيم ويتعافى تماماً من أي مرض أصابه به الإستبداد والفاشية
ياسر عبد الكريم <[email protected]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..