تحرش

بروين حبيب

هزت قضية سمية عبيد التي تعرضت للاعتداء بآلة حادة من طرف متحرش شبكات التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى مادة إعلامية، بدون أن يتأثر في الحقيقة العصب الأساسي لتفشي هذه الظاهرة في مصر وبلدان عربية كثيرة.
لم يسجل المثقف العربي أي موقف، ففي الغالب يتعاطف مع مثقف مثله في محن عديدة كالاعتداء عنفا أو قتلا على مثقف آخر، أو سجنه بسبب حرية الكلمة، لكن التحرش عموما ظاهرة لا تعنيه! وفي الغالب أيضا فالمرأة لا تهم المثقف العربي، أو لعلّها تهمه حسب تصنيفات عديدة، إما عمرية أو جسدية، أو ملهمة مؤقتة إلى أن ينهي إجازاته الأدبية. ليس سهلا أن تكون مثقفا وتعيش في عش اللقالق فوق أعمدة المجتمع وصوامعه، فالمثقف من المفروض أن يعيش على البسيطة نفسها التي يعيش عليها المواطن العادي، وأن تلامس قدماه الأرض نفسها، أما تلك الازدواجية التي أصبحت تتجاذبه بين الاشتغال في عوالم لغوية محضة والاحتكاك بهذا الإنسان الذي يعنيه وتعنيه قضاياه، فيبدو لي أنها أتعبته.
ما لا أجد له وصفا حقيقيا هو ما وظيفة المثقف تحديدا في المجتمعات؟ هل هي الاشتغال بالأدب والنصوص والبقاء حبيسو اللغة والعالم الافتراضي؟ أم الجمع بين هذه وأمور مجتمعنا بطريقة تجعلنا في تواصل مستمر مع اللحمة التي نحن منها؟
طرح السؤال في حدِّ ذاته يضعنا أمام إشكالية بدأت في طرحها من خلال مقالات سابقة، وقد أسعدني تجاوب أساتذة يتقاسمون معي الهم نفسه.
في قضية سمية عبيد تضاربت الآراء على شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن من خلال متابعة شريط فيديو سردت فيه الضحية ما تعرضت له منذ سنتين. من حادثة الاعتداء الجديدة استنتجت عدة أشياء: الضحية مثقفة ويبدو ذلك جليا من خلال الحقل اللفظي الذي استعملته، تحديدا هذا الحقل يحيلنا إلى صبية واعية ومتعلمة وذكية وتنتمي لفئة اجتماعية محترمة. ثانيا وهذا الأهم، في كلا حالتي التحرش وجد المتحرش الساحة أمامه مشجعة لفعله، من صمت الشارع، وضعف الضحية إلى ضعف الجهات الأمنية، وهذا واضح حين هددت باللجوء للشرطة ، فتمادى الشاب المتحرش بإبداء غضبه فانهال عليها بالضرب، وهذا حسب تحليلاتي جاء نتيجة لسماعه كلمة «شرطة» التي استخف بها وبالقانون، وهنا تكمن الخطورة، كون المعتدي يعرف تماما أن العقاب لن يطاله، وإن طاله فإن الأمر سيكون عابرا.
صمت الشارع يمكننا قراءته من عدة زوايا، أولها أن الشارع خائف من التورط في قضية لا تعنيه، وهذا أيضا يحيلنا إلى ضعف الأجهزة الأمنية والقضائية، غير بعض المكبوتات التي تقبع في عقول فئة من هذا الشارع تشمت في الصبية المعتدى عليها لأنها ترى أنها بشكل ما تستحق ما يحدث لها. لا ينتهي الأمر هنا، بل يذهب بنا بعيدا، فما مستقبل هذه الأوطان التي تسكت عن اغغتصاب نسائها؟ وهذه الشعوب التي بعد أن خرج الاستعمار الغربي من أراضيها، ولم يعد هناك من يعتدي عليها وعلى نسائها أصبحت هي من يفعل ذلك؟ نحن هنا لسنا أمام قضية الوزير الفرنسي دومينيك ستراوس كان، الذي تحرش بعاملة فندق في نيويورك فخسر بسبب الحادثة منصبه في رئاسة صندوق النقد الدولي. نحن هنا أمام قضية صبية في مقتبل العمر وابنة عائلة محترمة تكالب عليها مجتمعها بأغلب فئاته ليحمي المجرم الذي مارس جرمه مرتين مع سبق الإصرار والترصد؟
نحن هنا لسنا أمام قضية الأمريكي إليوت لورنس سبيتزر الذي خسر منصبه بسبب فضيحة جنسية، نحن هنا أمام اعتداء أمام الملأ، موثق بكاميرات، لرجل نكرة تماما، يحطم حياة صبية مثقفة فقط لأن هذا المجتمع في داخله ناقم على النساء! لسنا أيضا أمام آخر قضية تحرش اهتز لها عرش السينما الأمريكية، التي فجرتها الممثلة الأمريكية هيذر كير ضد المنتج هارفي واينستن وجرت معها اعترافات نائمة لأخريات بسبب الخوف من فقدان السمعة وبعض المكاسب الإعلامية.
نحن أمام ظاهرة متفشية من العالم المتخلف الذي هو عالمنا إلى العالم البراق بنجوم السينما والفن والسياسة. نحن أمام ظاهرة يتمادى فيها الذكور في التعامل مع المرأة على أنّها «للمتعـــــة الجنسية» لا غير، ويمكن الحصول عليها برضاها أو بالقوة. نحن أمام معطيات مخيفة فالإنسان لا يتوقف عن الدخول في حروب مع نفسه، لكن أعنف هذه الحروب تمارسها الشعوب المتخلفة أكثر من غيرها، حين تتحرش بنسائها وأطفالها وتغتصبهم بدون عقاب عادل.
طبعا نتوقع أن ينال كل رجل متحرش عقابه في الغرب بمجرد أن تحاكمه الضحية، فينال منه القانون، لأن المجتمع يعج هناك بالنزيهين، أما في مجتمعاتنا المسكينة، فالتحرش سلوك ذكري عادي، يمارسه البواب والشرطي والأستاذ والطفل «أبو سبع سنين» و»الشيخ أبو سبع وسبعين سنة» وهو أمر تلام عليه الضحية في الغالب بسبب ما ترتديه، حتى إن كانت محتشمة ومتجلببة أو منقبة، يأتيك من يصب عليك سطل ماء الثلج على رأسك بقوله « بأنها «أكيد عملت شي» أو «أكيد بنت حرام، وكل ما قلته كذب». وسط تخبط نسائنا وأطفالنا في مستنقعات النزوات والغرائز المريضة، يصمت المثقف، ويستمر بالكتابة عن أفكار فلاسفة لم يعرف أبدا أن يطبقها على أرض الواقع.
الكاتب الياباني هاروكي موراكامي قال: «ما يسمى بالاغتصاب لا يستهدف فقط الجسد، فالعنف لا يأخذ دوما شكلا مرئيا، الجراح الدفينة لا نرى نزفها على السطح»، هذه الجراح كان من المفروض أن يراها كتابنا وأن يكتبوا عنها بشجاعة، ويواجهوا جحافل الـ»الوحشنة» التي زحفت على أدمغة أبناء أوطاننا، وإلا بعد سنوات قليلة سيبعث التتار الجدد من ذواتنا وأعتقد أننا نشهد المراحل الأولى لذلك.
أبعد من ذلك، الدكتورة ليونيل نوغن بودن التي تخصصت في الكيمياء وعلم السموم، وتفرغت للكتابة البوليسية قالت في موضوع التحرش والاغتصاب: «المغتصب لا يبحث عن الجنس، ولكن عن السيطرة على الآخر» وهذه الحقيقة ليست سوى استنتاج لنظريات سيكولوجية وسوسيولوجية ، وهو ما يفسر ما نعيشه في بداية هذا القرن من مآس أخلاقية.
المثقفون والكتاب في الغرب حاربوا الظاهرة بأصوات عالية، منذ بالزاك الذي قال: «لا تبدأوا زواجا باغتصاب» إلى مونتسكيو، سيمون دي بوفوار، فرجينيا وولف، ميلان كونديرا، وآخرين. هم من أسسوا لفكر يحارب العنف بأنواعه، هم من أسسوا لطبقة نزيهة تفرض القانون وتحارب الفساد. هم فعلوا ما نحلم به نحن اليوم، لنرى طبقة لا تخجل من قول الحقيقة، وتؤسس لقوانين شجاعة لا تتواطأ مع المجرم، لأنه ذكر، هذه العنصرية الجندرية يجب أن تنتهي، لأنها أفقدت مجتمعنا توازنه، وأنتجت أفرادا أغلبهم مرضى نفسيون.
أقول هذا وأنا حزينة لأجل سمية عبيد لأنها ولدت وكبرت في «أقاليم الخوف» التي نعيش فيها، أقاليم سحقت الأنوثة بالذكورة وسحقت الذكورة بالحروب.

شاعرة وإعلامية من البحرين

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..