مقالات وآراء سياسية

ملاحظات على دفاتر ثورة ديسمبر المجيدة

آدم بوبكر مهدى

1- خارطة الطريق

كلنا نعلم أنه فى بداية الثورة لعبت الشعارات الرئيسة للثوار ومطالبهم الواضحة فى الحرية والسلام والعدلة والديمقراطية الدور الرئيس فى صياغة إعلان الحرية والتغيير وأصبح هو المعلم الواضح  الذى حدد خط سير الثورة ووجهتها. وقد كان تقاسم الأدوار بين قوى الثورة واضحا فقد تولى تجمع المهنيين ومعه القوى السياسية المتحالفة فى (قحت) دور القيادة السياسية بينما تفرغ الثوار ممثلين فى لجان المقاومة للتعبئة والقيادة الميدانية للحراك.

بعد مجزرة فض الإعتصام  شكل التوقيع على الوثيقة الدستورية أول مفترق طرق و نزاع  صريح بين قوى الثورة حيث أعلن الشيوعيين رفضهم للوثيقة ووصفوها بالمعيبة و أنها “كرست هيمنة العسكر على كل مفاصل السلطة” كما أبقت على مليشيات الدعم السريع كقوات تابعة للجيش. وكان رأي الشيوعيين هو مواصلة الحراك الثورى حتى الإطاحة الكاملة بالعسكر بإعتبارهم ممثلين ” للجنة الأمنية للإنقاذ” وأنهم مسئولين مسئولية مباشرة عن الجرائم التى أرتكبت إبان المجذرة  بإعتبار أنهم كانو على رأس السلطة فى ذاك الوقت تحت مسمى “المجلس عسكرى الإنتقالى”, وأعلن الشيوعيون تبعا لذلك إنسحابهم من لجنة المفاوضات وأبدو رفضهم المشاركه في كل مستويات الحكم بالبلاد مع بقائهم فى قحت. بينما كان رأى القوى الأخرى فى القيادة ” السياسية للثورة” وهى تشكل الأغلبية فى تجمع المهنيين وقحت أن لا مناص من التوقيع على الإتفاقية لإعتبارات  توازن القوى ولتجنب إراقة مزيد من الدماء. وترى المجموعة الأخيرة والتى  يمكن أن نسميها  “المهادنة” أن التزاوج القسرى أو بالتراضى قد وقع بين العسكر و المدنيين وأن السلطة الراهنة  فى جميع مستوياتها هى المولود الذى جاء ثمرة لهذا التزاوج ولايمكن إعادته مرة أخرى من حيث أتى بدون تكلفة قد تكون باهظة جدا. وبناء على ذلك  كان رأيى هذه المجموعة أنه لامناص عن القبول بهذا المولود ومحاولة “تهذيبه وتشذيبه” وإجراء بعض عمليات التجميل له ليأخذ ملامح “الثورة”.

المشكلة الرئيسية التى تواجه الثورة الآن هى عدم وجود خارطة طريق واضحة ومحددة المعالم والإتجاهات لكى يسير على هداها الثوار فى مفترق الطرق الراهن وأعتقد لايمكن للثورة إستكمال تحقيق أجندتها المعلنة بدون  خارطة طريق واضحة يحدد بموجبها الثوار أقصر الطرق وأكثرها فاعلية ونجاعة وأقلها خسائرا للوصول لمجتمع تسود فيه قيم الحرية والسلام والعدالة والتنمية والديمقراطية المستدامة كما رسمته الشعارات التى صدح به الثوار إبان ثورة ديسمبر المجيدة.

لكن يلاحظ أنه حتى الآن لم ينتج الثوار خارطة الطريق المبتغاة التى ترسم تلك معالم التى يجب أن يسير علي هديها الثوار لتحقيق أهداف ثورتهم. وكانت النتيجة الحتمية لذلك هذا التفاوت الكبير فى المواقف الذى يحدث الآن بين قوى الثورة المختلفة والذى وصل فى أحيان كثيرة لتعارض صريح فى المواقف. صحيح هذا التباين فى الرؤيا وفى إختيار المسار الذى يؤدى الى تحقيق الثورة لأهدافها يعتبر تباينا طبيعيا بحكم التركيبة  السياسية لقيادة الثورة  ممثلة فى تجمع المهنين  وفى قحت التى تضم أحزاب  متباينه الأهداف والمقاصد النهائية. لكن فى ظل هذا الواقع “الملتبس” و الذى يتميز “بميوعة سياسية كبيرة” يصبح من الضرورى  تحديد “خارطة طريق” تضمن تحقيق أهداف الثورة وتضمن فى نفس الوقت ألا يشكل هذا التباين صراعا بين الثوار أنفسهم – كما يجرى حاليا-  يقود الى عرقلة الجهود وتثبيط الهمم وفتح الطريق واسعا لتغلغل القوى المضادة للثورة فى وسط الثوار ربما يؤدى فى نهاية الأمر لهزيمة الثورة نفسها.

عليه أعتقد لتفادى مثل تلك المخاطر المحتمله على الثورة يصبح واجبا مقدم على كل الواجبات ويسمو فوق كل المصالح سواء كانت مصالح حزبية أوجهوية أو غيرها  أن يجتمع الثوار للوصول لخارطة طريق تعيد لقوى الثورة لحمتها وتماسكها وللثورة عنفوانها كما كانت فى السابق وتكون مرجعيتها هى نفس  مرجعية ” إعلان الحرية والتغيير”  التى قادت الثورة بنجاح حتى لحظة الإطاحة برأس النظام مع إجراء أى تعديلات يرونها ضرورية لإستيعاب أية متغيرات قد حدثت خلال الفترة الماضية من عمر الثورة أو لتضمين مايتم الإتفاق عليه مع الجماعات المسلحة.

أنا متيقن أنه لا توجد قوة فى الأرض قادرة على هزيمة  الثورة  سوى “الثوار أنفسهم”. حتى أعدائها لا يراهنون على أنفسهم لأنه يعلمون أنها عصية “عليهم”  لذا  فإنهم يراهنون  ويعملون بنشاط على دق الأسافين وإشعال الفتنة بين الثوار أنفسهم على أمل  أن ينقلب الثوار على ثورتهم.

إذا إستطاع الثوار  إدارة الصراعات فيما بينهم وكذلك بينهم وبين أعداء الثورة بذهن مفتوح ووفق قراءآت صائبة للواقع فسيكون الطريق لإنتصار الثورة سريعا و الخسائر فى حدها الأدنى.

إذن فإن السؤال الكبير والملح والجوهرى  الذى يشكل المحور الرئيسى والأداة التى لاغنى عنها لرسم  خارطة الطريق المطلوبة والذى يتحتم على الثوار الإتفاق على الإجابة عليه هو:

ماهى الطريقة المثلى للتعامل مع المكون العسكرى بما فيه قوات الدعم السريع حميدتى ؟

هل هى الرفض التام والقاطع لهذا المكون العسكرى وعدم قبول أى شكل من أشكال  التصالح معه والعمل على الإطاحة به  أم القبول به كشريك ومحاولة توطيد العلاقة معه وكسب ثقته و”إطمئنانه” مما يساعد  فى تسريع الخطى نحو إزالة دولة التمكين واضعين فى الإعتبار أن فلول الإنقاذ وليس عسكر السيادى هم من يشكلون الخطر الماحق على الثورة بحكم أجندتهم العابرة لحدود الوطن المرتبطة إرتباطا وثيقا بأجندة التنظيم العالمى لجماعة الأخوان المسلمين. عساكر السيادى مهما كان مستوى الخلاف معهم أو المآخذ عليهم فهم ليسو كجماعة الأخوان المسلمين لأن أجندتهم تظل “محلية جدا” و لا تتعدى كثيرا حدود الوطن. وحتى علاقاتهم الخارجية بالسعودية والإمارات فهى علاقة مؤقته ومحكوم بإنفضاض سامرها بإنتهاء الحرب فى اليمن وليبيا أو ربما قبل ذلك بناء على إستقرار الوضع فى السودان نفسه.

2-  الهامش أولا:

فى تصورى أن الطريق للسلام والوصول بالبلد الى بر الأمان. سودان الحرية والسلام والعدالة والتنمية والديمقراطية المستدامة. السودان الذى يحلم به كل إنسان مخلص ومحب لوطنه لا مناص من أن يبدأ من الهامش وبصفة خاصة من دارفور إذا أردنا له النجاح المستدام.

فحل مشاكل السودان هذه المرة لايمكن گما كان فى الماضى أن يبدأ وينتهى بالمركز لابد أن يبدأ  هذه المرة لإختلاف المعطيات من الهامش وينتهى فى المركز.

ويقف دليل على ذلك أن الحلول التاريخية التى طرحها المركز منذ الإستقلال مرورا بثورتى أكتوبر وأبريل فشلت جميعها فى تحقيق أى من الشعارات التى طرحتها الجماهير منذ فجر الإستقلال وحتى لحظتنا الراهنه لسبب جوهرى هو إستبعاد و”تهميش” الهامش من المشاركة الحقيقية فى تلك الحلول فأتتت كحلول فوقية ومركزية وقاصرة تعبر فقط عن طموحات القابضين على السلطة فى المركز.

بالإضافة لذلك فإن هناك مياه كثيرة قد جرت تحت الجسر كما يقول الفرنجة خلال الثلاثة عقود المنصرمة, فقد ظهرت حركات مسلحة إستقطبت إلى صفوفها عدد كبير من شباب قبائل دارفور وأصبحت لهؤلاء الشباب أجندة سياسية غير تلك الأجندة التى سار على خطاها آبائهم مما يعتقد بانه قد “خلخل” المعادلة السياسية التى كانت سائدة قبل إنقلاب الإنقاذ بشكل كبير. كما أن الثورة المعلوماتية قد أضافت لخارطة التغيير بعدا آخر قطعا ليس فى مصلحة القوى التقليدية ومتجاوزا بشكل مؤثر لكل الأطر السياسية التقليدية القديمة.

إذا كان الحال كذلك فلماذا لا تجلس  الحركات المسلحة فى دارفور  مع حميدتى  ومعاهم شيوخ  كل قبائل دارفور وحكمائها وأهل الحل والعقد فيها للوصول إلى حلول ترضى الجميع و رأب الصدع وإعادة رتق النسيج القبلى فيها.

هى مسأله فعلا تبدو فى ظاهرها مستحيلة لكن أظن يمكن تحقيقها. تحتاج ليس لبذل جهد سياسى فقط بل لنشاط مكثف ومخلص وصادق وقوة إرادة وتصميم  وكذلك تحتاج الى بذل جهد مجتمعى كبير يطيب النفوس ويسهل علي أهل الضحايا قبول التصالح ولنا كسودانين عموما فى مناطق الهامش ولأهل دارفور بصفة خاصة تجارب ثرة وغنية يمكن أن نبنى عليها.

بدون الصلح الأهلى خاصة فى مناطق الصراع المسلح فى دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لن نتعافى ولن تتقدم الثورة نحو تحقيق أهدافها  فالمركز أصبح ليس مثلما كان من قبل تدور حوله مجرات الهوامش. فقد أصبح للهامش أصوات عالية لا يمكن تجاوزها, وأى حلول “مركزية” كالتي عرفناها من قبل فى أكتوبر وأبريل لن تجدى نفعا مع سودان مابعد الثورة المعلوماتية وانفتاح الشعوب على بعضها وتدفق المعارف الحية وعبورها أسيجة السلطة  لتصل فى سهوله ويسر لاى إنسان وإن كان يعيش فى أقصى مكان فى الأرض.

هذه خطوة أعلم أن الطريق اليها ليس سهلا بل فى واقع الأمر معقد جدا لكنها لو تمت ستجد الترحيب والدعم الكبير من كل أهل السودان وبالأخص من أهل دارفور بمختلف ألوان طيفهم القبلى من بسطاء الناس التواقين للأمن والإستقرار وبذلك ينفتح الطريق واسعا نحو استقرار السودان نفسة.

اجتماعات الغرف المغلقة و استحواذ النخب على اتخاذ القرار كما أثبتت تجاربنا السابقة لن تؤدى لحل لمشكلة السودان  او دارفور أو أى من مناطق الصراع المسلح الأخرى فى جبال النوبة والنيل الأزرق, واذا فرضنا قد كتب  لمثل هذه الحلول الفوقية  النجاح فسيكون  حتما مثلما حدث فى الماضى نجاحا هشا و “مؤقتا” ينفرط عقده قبل بلوغه الفطام.

يجب أن نتذكر فى هذا السياق أن جرائم دارفور فى الأصل جرائم مرتبطة إرتباطا وثيقا بنظام الإنقاذ وسياسة التمكين واستغلال الصراعات القبيلة فى دارفور وتوظيفها لخدمة أهدافها. جذور المشكلة ضاربه فى عمق ماضى تلك الصراعات القبلية الناجمة من الإهمال التاريخى المتعمد لإنسان تلك المنطقة من قبل النخب التى حكمت السودان منذ نيله الإسمى لإستقلاله. هى صراعات حول الموارد الشحيحة التى أخذت فى النضوب وتفاقمت بسبب زحف الصحراء وبدائية الثقافة السائدة التى يغذيها الجهل والفقر.

كما يجب أيضا أن نضع فى الإعتبار وحسب  كثير من الشواهد أن جريمة فض الإعتصام من ناحية أخرى هى  المصيدة التى نجح فلول الإنقاذ فى الإيقاع  بعساكر “السيادى” فى شراكها  وأصبحت اليوم كما قد خططوا لها ومن خلفهم التنظيم  العالمى للأخوان المسلمين كرتا رابحا يشهرونه فى وجه “العسكر”  كلما رأو فيهم  إذعانا لرغبات الثوار وشرعوا معهم فى تصفية دولة التمكين. بهذا الفهم يكمن إعتبار جريمة فض الإعتصام إمتدادا لجرائم الإنقاذ, لأنها فى واقع الأمر كما تشير كثير من الدلائل  تمت بيد موروثاتها من كتائب ظل و أمن شعبى وغيرها  ممن التحق بالدعم السريع قبيل إندلاع الثورة وفى ذات الوقت يجب ألا  ننسى أن قوات الدعم السريع وقبله “قوات حرس الحدود” هى نفسها إرث إنقاذى بإمتياز ويتحمل فى المقام الأول  وفى جميع الأحوال جماعة الإنقاذ أوزارها قبل أى جهة أخرى.

عموما أعتقد أن قراءة الراهن كما يبدو فى هذه اللحظات  دون إسقاط الماضى عليه يوفر لنا رؤية واضحة دون تشويش من ذاك الماضى على أذهاننا مما يمكننا من التحليل الصائب للوضع و يعطى الثورة البوصلة الصحيحة التى تقودها للسير فى الإتجاه الصحيح.

هذا لا يعنى إعفاء أحد بصورة مطلقة من المحاسبة عن أى مشاركة قد تمت أو أيه مساهمة له فى صناعة ذلك الماضى بكل آلامه وأوجاعه ولكن ماندعو اليه هو عدم محاصرة الثورة وإبقاءها أسيرة لذاك الماضى بصورة تؤدى لإختناقها والقضاء عليها بجرعة خاطئة من صنع أيدينا.

الصورة الكبرى هى الأهم وهى التى سترشدنا نحو التفكير الموضوعى والحلول الصائبة لما تواجهه الثورة  حسب إعتقادى فى هذا الواقع المعقد والملتبس.

آدم بوبكر مهدى

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..