عين ثالثة تجعلك قريباً!

*(ليس كل إنس مودة.. ولا كل انقباض وحشة)
– مسكويه-
.. كيف للواحد أن يكتب عن الحب وهو في حالة حب وعن الخوف وهو في حالة خوف وعن الشجاعة وهو في حالة قتال?!
إنّ كلّ الروايات التي تحدّثت عن أهوال البحار مثلاً، قد خطّها أصحابها فوق اليابسة وعلى الشواطئ الآمنة، أمّا أبطالها الحقيقيون فلم يجدوا الوقت الكافي لكتابتها? فمنهم من لا تهمّه الكتابة أصلاً، ومنهم من أودع روايته للمجاديف المتكسّرة والأشرعة المتمزّقة لتحدّث عنه وتعيد إحياءه على الورق بعد أن صار وليمة للأسماك التي خرج لصيدها.
وحدها المسافة بينك وبين الأشياء تقوّي البصر والبصيرة وتجعلك أوسع إدراكاً وأكثر فطنة وأوفر قدرة على التمييز، ومن ثمّ المقارنة والمقاربة.
قليلون هم أولئك المبدعون الذين يتمتّعون بـ(عين ثالثة) ولم يغادروا قراهم أو مدنهم إلاّ نادرا كنجيب محفوظ الذي يمتلك قدرة هائلة على الانسلاخ من (قاهرته) ثمّ يعود إليها بنفس الألق والزخم، وكأنّ روايته يتناوب عليها قلمان: قلم سائح وآخر من أبناء البلد.
لذلك، ولأجل كلّ ما تقدّم، جاءت نعمة السفر لتجعلنا ننظر إلى أمكنة غيرنا وينظر غيرنا إلى أمكنتنا فيخبرنا عمّا لم نره وننتبه إليه.. ونخبره عمّا كان يسبح في فضائه ولا يعرفه?. لأنّه – ببساطة- لم يفارقه.
مازال الكثير منّا يحسب أدب الرحلات مجرّد كتب تجمع بين الطرافة والغرابة- وفي أحسن حالاتها- لا تزيد عن مصادر يستأنس لقراءتها وقد يفيد بعضها في التاريخ والجغرافيا بعد تنقيتها من الشوائب والمبالغات.
لعلّ بعضنا يجهل أنّ هذا الصنف الأدبي أصبح يدرّس في أرقى جامعات العالم ويتناول بالدراسة والبحث في أصغر ما دوّنه الرحّالة والمسافرون على دفاترهم من ماركو باولو ومستعملي طريق الحرير، إلى مؤلّفات ابن بطوطة وياقوت الحموي ورحلات التيجاني وابن خلدون وحتى المتنبّي وغيره من الذين اقتلعوا من أمكنتهم متقصّدين أو مكرهين.
كان حوار الحضارات في العصور القديمة يأتي عبر تصادمها أثناء الحروب والغزوات، فلا تسود إلاّ ثقافة الغالب والمنتصر بسلاحه، بينما كانت رحلات الحجّ والتجارة والاستكشاف هي الوسيلة السلميّة الوحيدة لمعرفة الآخر والإطّلاع على حضارته قبل وسائل الاتصال الحديثة.
لكنّ المؤسف والغريب والمحيّر أنّ عصرنا الحديث قد جعل المسافات تتقارب والثقافات تتباعد، وكأنّ كلّ واحد يسير عكس الآخر، فهذه أسوار الحدود تزيد سماكة وارتفاعاً، وتزيد معها حواجز الفصل العرقي والديني والطبقي والثقافي .
أصبح قارب السفر الوحيد هو شاشة التلفاز أو الكومبيوتر، فترى شبابنا السوداني الحائر يسافر كلّ ليلة عبر كبسة زرّ على الريموت كونترول أو (الماوس)، ثمّ يعود صبيحة اليوم التالي إلى بلده: موطن أحلام اليقظة بامتلاك مصباح سحريّ اسمه: (الفيزا)، أو الهجرة (غير الشرعيّة) عبر مراكب ضيّقة ومتهالكة كواقعهم الحزين? وغالباً ما ينتهي بهم الأمر جثثاً ترثيها طيور البحر وتدفع بها الأمواج نحو شاطئ الوصول الأخير.
أمّا من امتلك القدرة على السفر والتنقّل من أولئك الذين اكتنزت جيوبهم وخفّت رؤوسهم، فإنّك ترى الواحد منهم يحلّ في مدينة فيقصد مرابعها الليليّة قبل متاحفها الفنيّة، ينزل أفخم الفنادق، يتسوّق من أغلى الماركات، وقد يكتفي بصور يلتقطها أمام معالم شهيرة كي يوثّق لسفره أمام معارفه، ثمّ يعود بنفس الطائرة التي تشبه كلّ الطائرات بعد أن زار المحلّات التي تشبه كلّ المحلاّت في مختلف أنحاء العالم..!
أما كان الأجدر بهذا المسافر(دون خيال) أن يتسوّق في إحدى (مولات) بلده ويقتني ما شاء له من مظاهر العولمة ثمّ يعود إلى بيته دون عناء.
كلمة في الختام: الترحال عقليّة وسلوك تغذّيه ثقافة وفضول دائم نحو المعرفة لدى المجتمعات المتحضّرة ، إنه السفر في الإنسان والزمان قبل المكان، ألم يقل الإمام الشافعي يوماً:
سافر تجد عوضاً عمّن تفارقه * وانصب فإنّ لذيذ العيش في النصب
إنّي رأيت ركود الماء يفسده * إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
السهم إن لم يفارق القوس لم يصب * والعود في أرضه نوع من الخشب.
[email][email protected][/email]
الوطن يضيع كل يوم ولم يبق الا القليل للتلاشي ، دخل اخوان الشيطان السودان بل غزوه ودمروه واغتصبوه ، دمروا الخدمة المدنية ،دمروا الجيش ، وكل يوم نسمع اخبارا جديدة عن الفساد وعن القتل الممنهج من قبل عصابة الاخوان ، فصلوا الجنوب ويتجهون لفصل دارفور ومابعيد النيل الازرق تنفصل ، اضاعوا حتى القيم السودانية من شهم وكرامة ورجالة ومروءة …الخ ، وانتشر الفساد المالي والاخلاقي لدرجة فظيعة ، وتغيرت المفاهيم بسببهم فأصبح الشهم اهبل والكريم غبي ، والمرتشي ذكي ومفتح والنزيه هطلة ودلاهة ، وانتشرت العنصرية بداية من السياسية التي بدأوا بها وآلت الى العنصرية القبلية والجهوية ، واصبح القتل في السودان من اتفه الامور ولأقل الاسباب ، فواحد قتل اخر بسبب كباية شاي واخر بسبب لبانة ، وكثرت الخيانات الزوجية ، بل تم اغتصاب الحرائر في مناطق النزاع واصبح الاغتصاب حتى من المدرسين للتلاميذ والتليمذات ، ومن شيوخ الخلاوي وائمة المساجد ، انتشرت الرذيلة في الدوائر الحكومية وفي الجامعات والمدارس ، كثر الاطفال مجهولي النسب ، اغتربت الدعارة بحرائرنا للقاهرة ودبي والسعودية وغيرها ، انتشرت الامراض التي لم يكن السودان يعرفها (ايدز ، فشل كلوي ، التهاب كبد..الخ) ، انتشر التسول بسبب الحاجة ، وانتشرت الدعارة لبناتنا ايضا من اجل الحاجة ، انتشرت المخدرات (بنقو ، حشيش ، شاش ، حبوب خرشة ، حبوب هلوسة، حبوب منشطة ..الخ) بين الشباب والكبار بل حتى بين الفتيات وربات البيوت ، ضاع السودان ارضا ووطنا وقيما ، بل اصبح الحلال في السودان حرام شرعا) ..
سقت هذه المقدمة عسى ولعل ان يشعر بعض الكتاب الذين يملكون اقلاما وناصية الكلم ، ليساعدوا في ازالة هذه الكابوس الاخواني الشيطاني ، ولكن وللاسف نجد ان هناك بعض الكتاب الذين لا منبر لهم غير الراكوبة ، تجدهم يكتبون في عوالم اخرى لا يستفيد منها المواطن او المناضل ، بل لا تمت للواقع بصلة ، فأحدهم يكتب مدعيا الثقافة ويكتب عن السريالية والنوستالوجيا والهبرالوجيا…، واخر يكتب عن الادب الروسي والايطالي والكولومبي والفلسفي ، واخر يكتب عن الذكريات القديمة الجميلة ومازال قابع فيها ، والله نحن مع الثقافة والجمال والادب والشعر والغناء وحتى مع توثيق الذكريات وحفظها للاجيال القادمة ولكن الواقع يفرض ان يضع المثقف والحالم والمؤرشف ان يضعوا كل ذلك جانبا ، ويسلوا سيوفهم (اقلامهم) ويتكاتفوا جميعا (بمختلف انتماءتهم السياسية والثقافية) من اجل انقاذ الوطن والمواطن ، والباقي ملحوق ، ياخي حتى في الدين تم اسقاط حد السرقة في عام القحط والجوع ، فالدين نفسه لليسر وليس العسر ، وماذا يستفيد المواطن من مقالات ثقافية او فلسفية او ذكرياتية ؟ وبما ان الراكوبة في الاصل منبر سياسي معارض يعيش مع الآم الوطن وينشر فساد السلطة ، فالاولوية للمقالات السياسية المعارضة والتي اتمنى ان نرى احساس الكتاب نحو مشاعر المواطن الغلبان المسكين ، وبكل صراحة هناك اقلام نسائية بمليون راجل (امل هباني ، شمايل النور ، هويدا سر الختم ..الخ) عندما تجد هذه الاسماء في الراكوبة تشعر انه هناك بقية من ارواح سودانية تشعر وتتألم لما وصل اليه حال الوطن ، وهناك اقلام رجالية (مصطفى عمر ، عثمان شبونة ، مولانا حمدنا الله ، فتحي الضو، عبداللطيف حجازي ، عبد الغفار المهدي ..الخ الشرفاء) والله كلما ارى أي من الاسماء النسائية او الرجالية المذكورة اعرف ان هناك رجال ونساء سودانيون بمعنى الكلمة ، واتمنى ان يتعلم الاخرون منهم ، حتى نلحق ماتبق لنا من وطن وهذه رسالة لاصحاب الاقلام ولضمائرهم .