حكومة كامل إدريس وصراعات السلطة والثروة في ظل الإعصار الإنساني

د مصطفى ابراهيم الشيخ
في الوقت الذي تحذّر فيه الأمم المتحدة من كارثة إنسانية وشيكة في السودان، مع اقتراب موسم الأمطار والفيضانات في السودان تشهد المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش حالة من الجمود واللامبالاة الرسمية، نتيجة الانشغال المتصاعد بصراعات تشكيل الحكومة التي كُلِّف بها كامل إدريس.
وفي حين يستمر النزوح ويتسع خطر الأوبئة وشلل المساعدات، تبدو النخبة الحاكمة في بورتسودان غارقة في معارك المحاصصة وتقاسم المناصب، على حساب استحقاقات المرحلة الإنسانية والوطنية.
ثلاثية السلطة في بورتسودان: تحالف الضرورة أم صراع المصالح؟
لفهم الصراع حول التشكيلة الوزارية، لا بد من النظر إلى معادلة السلطة التي تحكم المشهد في بورتسودان:
القيادة العسكرية، الإسلاميون (الحركة الإسلامية – الإخوان المسلمين)، والحركات المسلحة.
هذا التحالف الهش، الذي تكوّن بعد اندلاع الحرب الأخيرة، يقف اليوم أمام اختبار مصيري مع إعلان تعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء، وهي خطوة اعتبرتها بعض الحركات المسلحة تجاوزًا لاتفاق جوبا، وتهميشًا لدورها في معسكر الجيش.
الاحتقان بلغ ذروته عندما أعلن إدريس عزمه تقليص عدد الوزارات إلى 22، وتشكيلها من كفاءات مستقلة؛ هذه الخطوة اعتُبرت من قبل الحركات المسلحة انتهاكًا لاتفاق جوبا الموقع عام 2020، والذي ينص على تمثيلها بـ 25% من مجلس الوزراء، و75 مقعدًا في البرلمان الانتقالي، وثلاثة أعضاء في مجلس السيادة. وقد ردت بعض هذه الحركات بسحب قواتها من مناطق استراتيجية، مثل المثلث الحدودي، في إشارة إلى تصاعد التوتر.
الهيمنة الإسلامية: تقاسم الوزارات وعودة الوجوه القديمة
في خضم هذه الأزمة، بدأت تتسرب تقارير عن محاولات “الحركة الإسلامية” والميليشيات الموالية لها – وعلى رأسها “لواء البراء بن مالك” – السيطرة على الوزارات السيادية، خصوصًا الدفاع والداخلية، وهو ما قوبل برفض واضح من الحركات المسلحة المنخرطة في التحالف مع الجيش.
الصحفية السودانية صفاء الفحل اعتبرت أن كامل إدريس تخلى عن شعارات الحرية والسلام التي رفعها في بدايات الثورة، واستسلم بالكامل لإملاءات الإسلاميين والحركات المسلحة، تاركًا خلفه وعود “حكومة الكفاءات” التي تحدث عنها، ومتحولًا إلى مجرد منفذ لسياسات فرض الأمر الواقع.
وتقارن الفحل موقف إدريس بموقف عبدالله حمدوك، الذي استقال من منصبه حين اصطدمت رؤيته لحكومة مدنية مستقلة بالضغوط العسكرية، معتبرة أن التاريخ سينصف من يتمسك بمواقفه لا من يختبئ خلف ستار “التوافقات السياسية”.
الانقسام داخل الجيش: تفكيك التحالفات وضرب التوازنات
التخبط في تعيين الوزراء ترافق مع محاولات يقودها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لإعادة هندسة التحالف داخل معسكره، عبر السعي لاستقطاب أطراف من الحركات المسلحة، مثل مني أركو مناوي، في مقابل تحجيم نفوذ حلفاء آخرين مثل جبريل إبراهيم، الذي لا يزال متمسكًا بحصته في وزارتي المالية والرعاية الاجتماعية.
هذا التفكيك التدريجي لجبهة الحركات المسلحة يصب في مصلحة الإسلاميين، الذين يسعون لاستعادة السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة، بعد أن فقدوها رسميًا منذ ثورة 2019.
رمزية كبرون: حسابات الجيش أم تفخيخ الجنوب؟
تعيين حسن داؤود كبرون وزيرًا للدفاع كان الشرارة التي دفعت بالحركة الشعبية – شمال، بقيادة عبدالعزيز الحلو، إلى اتهام الجيش باستخدام خطاب “الوحدة الوطنية” كغطاء لخدمة أجندة إثنية وسياسية ضيقة.
في بيان واضح، حذرت الحركة من أن هذا التعيين يهدف إلى استمالة المكون النوبي في الجيش وتجييشه ضد أبناء الإقليم، في الوقت الذي ينهار فيه الجيش نفسه كمنظومة وطنية متماسكة، وتحكمه تعليمات جماعات الإسلام السياسي وكتائبها العقائدية.
وترى الحركة أن وزارة الدفاع باتت منصبًا رمزيًا بلا سلطة فعلية، وأن الهدف الحقيقي من تعيين كبرون هو تحجيم تأثير الحركة الشعبية في جنوب كردفان، خصوصًا بعد انضمامها إلى “تحالف تأسيس” الذي يضم قوى تقف صراحة ضد الإسلاميين.
حكومة في الظل… وشعب في الطين
بينما تغرق البلاد في الفيضانات والفقر والصراعات، يتم تشكيل حكومة في الظل، محكومة بتوازنات السلاح والمصالح، لا الكفاءة أو الإرادة الوطنية.
فما يجري في بورتسودان اليوم ليس مجرد “خلاف حول تعيينات”، بل إعادة ترتيب لتحالفات ما بعد الحرب، يتصدرها الإسلاميون مجددًا، بغطاء عسكري، وصمت دولي، وضياع تام لحقوق المدنيين.