مقالات وآراء سياسية

العدالة الإنتقالية في قبضة الساسة

مصعب عبدالماجد محمد علي

في أبريل 2019م ، عقب الإطاحة بنظام البشير الذي دام 30 عاماً ، إيذانا بفرصة جديدة للديمقراطية والسلام في السودان ، لكن إتسمت الفترة الانتقالية لحكومة الحرية والتغيير والعسكر بالإنتهاكات الواسعة للمتظاهرين وشمل ذلك القتل خارج نظاق القانون ، الإغتصاب والإختفاء القسري وصراعات قبلية في دارفور ، بورتسودان والنيل الازرق وغيرها من المناطق وهي صراعات مدفوعة سياسياً ، كجزء من مخطط عام يهدف الى قمع الشعب السوداني عقب ثورته بتنسيق مُحكم بين القطاع العسكري والامني ، استهدف هذا المخطط النساء المدافعات عن حقوق الانسان ، الطلاب والسيياسيين ، الى جانب ذلك شهدت الفترة تدمير كامل لاقتصاد الدولة وفساد واسع عقب انقلاب اكتوبر 2021م وترسيخ الافلات من العقاب. حاولت الحكومة الانقلابية الاستمرار في الحكم إلا انها فشلت بسبب ضغط الشارع المستمر عليها ، إلى ان ادخلوا البلاد في هذه الحرب التي تجرى رحاها الان حيث شهدت جُل مناطق السودان انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان لم تسبُق لها مثيل في التاريخ الحديث.
في العام 2005م توصلت حكومة المؤتمر الوطني الى اتفاق سلام شامل مع الحركة الشعبية لانهاء الحرب التي قتلت وشردت الملايين ، وشمل هذا الاتفاق بند للعدالة الانتقالية إلا اننا لم نشهد طوال الفترة الانتقالية ايةً من شكل من العدالة الى ان إنفصل الجنوب ، وايضاً شهد السودان في العام 2006م التوقيع على سلام دارفور بين جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي ونظام المؤتمر الوطني كما تم التوقيع على وثقة الدوحة لسلام دافور في العام 2011م واخيراً اتفاق سلام جوبا. كل هذه الاتفاقيات نصت على قضية العدالة الانتقالية إلا انها لم تنفذ مطلقاً ، ظلت حبراً على الورق نسبةَ لغياب الارادة السياسية (التركيز على تقاسم السلطة والثروة) بين الاطراف الموقعة وغياب تام للمجموعات المدنية للضغط عليهم لتنفيذ هذه الاتفاقيات التي نصت على انصاف الضحايا.
يقول الراحل الاستاذ كمال الجزولي “أن اية عملية إنتقال سياسي لابد ان تصحبه شكل من العدالة الإنتقالية تعمل على تصفية تركة الماضي الأليم من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان وتضع حد للإفلات من العقاب التي ظلت السمة الرئيسية في عهد الحكومات العسكرية” عملت هذه الحكومات بإستمرار وبصورة ممنهجة على مساعدة المجرمين للحيلولة دون عقابهم. فان غياب العدالة في كل فترات الانتقال شجع الجهات السياسية والعسكرية الاستمرار في الإنقلابات العسكرية التي دوماً ما تصحبها انتهاكات واسعة ضد الشعب السوداني.
في الاونة الاخيرة ، وخاصةً بعد اندلاع حرب 15 أبريل برزت قضية العدالة الإنتقالية وسط منظمات المجتمع المدني والجماعات المدنية الاخرى كواحدة من اليات العدالة Justice Mechanisms على الرغم من عدم وجود تعريف متفق عليه عالمياً ، إلا ان المصطلح إستقر وسط الخبراء في مجال السلام والحرب بأنه “نظاماً من القرارات التي يتخذها المجتمع والدولة للإستجابة للإنتهاكات واسعة النطاق والممنهجة ، بهدف الإعتراف الواجب الانتهاكات التي تعرض لها الضحايا ومحاسبة مرتكبيها” حسب المركز الدولي للعدالة الإنتقالية ” العدالة الإنتقالية متجذرة في المُساءلة وإنصاف الضحايا. وحدد المركز ثلاث اهداف اساسية للعدالة الانتقالية واعرفت بها لجنة الاتحاد الافريقي رفيعة المستوى المعنية بدارفور ، وهي الاعتراف بكرامة الافراد ، الإنتصاف والاعتراف بالانتهاكات ، بهدف منع وقوعها مجدداً. وهذا الشكل من العدالة تطبق فقط اثناء فترات الانتقال من نظام ديكتاتوري الى نظام ديمقراطي أي من حالة الحرب الى حالة السلم ، لان فترات الحرب والديكتاتوريات عادةً ما يتعرض فيها الشعوب الى انتهاكات لحقوق الإنسان ، وبالتالي لابد من تصريف العدالة في هذه الفترة Administration of Justice during transition.
ولكن المعضلة التي تواجة منظمات المجتمع المدني للدفع بملف العدالة الانتقالية والسير قدماً لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا ، هي محاولة الجهات السياسية والحزبية إختطاف هذا الملف وجعله احد اجندتها للتفاوض حوله مع العسكر وإخضاعه للمساومة السياسية.
في مارس 2023م ، قبيل اندلاع الحرب بشهر صاغت قوى الحرية والتغيير اعلان مبادئ لعملية العدالة الإنتقالية إحتوى على سبعة عشر بنداً كنموذج عام وتم إعتماده في مؤتمر اديس بابا الاخير لتحالف تقدم ، البنود التي إحتواه الاعلان ممتازة ويمكن ان يتقبلها كل الضحايا، لكن ينقصه اليات التنفيذ والمصفوفة الزمنية لتشكيل هياكل العدالة الإنتقالية ، وفي تقديري ان الشيطان الحقيقي يكمن في تفاصيل اليات التنفيذ والإطار الزمني الذي ينفذ فيه هذا الاعلان ، هذا الاعلان يصطدم بجملة من المعوقات اثناء مرحلة المفاوضات ، حيث يخضع هذا الاعلان للمساومة السياسية من خلال اعتماد اليات تنفيذ ضعيفة واطار زمني يتيح للماسكين بزمام ملف العدالة الفرصة للمراوغة والتقاعس كما فعلت لجنة نبيل اديب في ملف تحقيق فض اعتصام القيادة العامة.
ان عملية العدالة الإنتقالية لا يمكن ان تطبق بمعزل عن العملية السياسية الكلية وعملية السلام بعد وقف الحرب، وبالتالي فان قضية العدالة الإنتقالية يجب ان لا تكون في أيدي الاحزاب السياسية التي تسعى للوصول الى السلطة ، هذا الملف هو صميم عمل منظمات المجتمع المدني والتي هي الاخرى لديها عدة مشكلات جوهرية متعلقة بهياكلها التنظيمية وسيطرة بعض الاحزاب عليها ، الامر الذي يعيقها من القيام بمناصرة قوية وفعالة لملف العدالة. لذلك لابد من بروز حركة إجتماعية جديدة من الضحايا المتواجدين في المدن ومعسكرات اللاجئيين والنازحين معنية بالمناصرة والدفع بقضية العدالة الانتقالية مع المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية كما يجب ان تكون هذه الحركة جزءً اصيلاً من اية منبر للتفاوض لاحقاً.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..