فى مقام الوحشة وسفر التكوين

الى الصوفي المعذب صاحب ” الإشراقة ” :
فى مقام الوحشة وسفر التكوين

حان الوقت لننضمَّ إلى مجانينك
المكبّلين معاً بالسلاسل
حان الوقت لنكون أحراراً تماماً، ومنبوذين
حان الوقت لنهب أرواحنا
لنشعل النار في الهياكل ونركض في الشوارع

” جلال الدين الرومى”

– [ ] تخرج الى الحياة وحدك عاريا ملتحفا القدر تحيط بك الوحشة لا يستشيرك احد فى سفر التكوين ولاتملك حق ان تختار اسمك واهلك ووطنك . تفاجئك الحياة بالالم المبرح فى اول لحظة الميلاد فتستنشق الأكسجين يخترق صدرك كسيف بتار إيذانا بطئ حقبة الحماية فى رحم الام وبدء مشقة العمر على محفة الانتظار . وهكذا يكون مبتدأ العمر .. الأرق والتوتر والآلام تولد مع الانسان وترافقه أينما كان .. يحاصره المرض وحمى التسنين والخوف وفراق الاحبة والهزائم وخيبة الأمل وصراع البقاء وخشية الزوال والموت . هى رحلة بين دفتى كتاب ينهض الاخر لرسم حياتك واختيارتك تحت عباءة الحنين او الوصاية او التعليم او النظام والحضارة .. وهكذا تمضى سنوات الدرس قسوة تروض عذوبة الطفولة ومشاغبات ومغامرات صغيرة هى الانضر فى كل هذا البرزخ هى موؤنتك من ذكريات وخيالات وتصور للمستقبل فى خصوبة الأحلام .
ولا تلبث ان ترفع هامتك فى سنوات انطلاق الوهج والنضج حتى يلاحقك طاغية اكبر يتسلط على كل العباد فى تلكم البلاد ليكمل دورة السيطرة والتحكم ووضع قواعد حياتك ومساحات تمدد حريتك . يتحكم بجراءة مستفزة فى ماذا وكيف تلبس وتشرب وتآكل وكيف تحتفل بمباهج حياتك . يحدد نسمات وموعد إسدال الستار على نهاية حفل زفافك بغير وجه حق غير رغبة التحكم و وعجزنا وخوفنا من المواجهة ام ان هذا هو الاستئناس والركون الى القوة الغاشمة للحفاظ على الذات الخانعة ؟ او كما قال صاحب المقدمة -ابن خلدون – بان الحضارة وخلق الانقياد تفسد البأس فى نفوس الناس .
ذكر عباس العقاد ان الوظيفة هى رق القرن العشرين فماذا عساه ان يقول اذا تراءى له هذا القرن من قيود الوظيفة وهاجسنا الأكبر من فقدان هذا القيد اى اننا بتنا نخشى التحرر من سلاسل هذه العبودية الماكرة اى تدجين هذا! .. يا لهول الفجيعة ! فلقد صرنا صرعى لإدمان القيود من رب العمل والتقاليد العتيقة والعيب والواجب والسترة والفضيحة متباريات . وهناك الطاغية شلال تنحدر منه امواج التسلط والطغيان بدواعي النظام يغرس رمحه الصدئة ليقتل الأحلام كل الأحلام ويصادر باسم السلطة كل الامال يسعى بلا رهق لقطف فاكهة الحياة وتلويث طعم الماء . ينشر الخوف لتخيم الكابة على الناس ويسود الاحباط فتلك دوما حاضنته . لكى ينمو طاغية لابد ان يزرع الحزن فى الطرقات يحتطب الكراهية والحروب ليحصد أمة منهزمة وإنسانا مازوما من المهد الى اللحد .
و الظلم من شيم النفوس فان تجد ذَا عفة فلعلة لا يظلم
ووثقت الأديان السماوية لشيمة الظلم هذه منذ الجريمة الاولى على الارض بين أبكار بنى آدم فى النزاع بين هابيل وقابيل وكان ان قتل الشقيق شقيقه من اجل الانانية وشح النفس وسطوة الشهوة . وعبّر العالم فى النفس البشرية – فرويد- عن ذلك بان العدوان والعنف والجنس هو من يدفع لانسان فى سلوكه . وهكذا صار تاريخ البشرية ملطخ بالدماء والجماجم وسطوة القياصرة .
وفى زمان الناس هذا تسيد العنف والعدوان فى الارض فكل نشرات الاخبار حروب ونزاعات وقتال ودماء تسيل بين الإخوة وبين الشعوب . وكل الملاحم الشعرية منذ الإلياذة والأوديسة فى الغرب وملحمة كلكامش فى الشرق تمجد الحروب والنزاع والقتل . ومازلنا فى بلاد السودان فى وقت الناس هذا نرقص ويهتاج الفرح فينا على إيقاع القتل وازهاق الأرواح ” دخولها وصقيرا حام سم أب قرع البصقع جدرى القيعة البفقع ” . وهكذا هى بواعث النفس البشرية عنف وتعنيف وتربص باخطاء ونواقص الاخر بدون تدبر عن اعرف نفسك ؟ حيثما سعى الفيلسوف المؤسس سقراط .
فى عتمة هذى الحياة تتناش النفس شغف متنامي بسبر أغوار البرزخ الاخر وتفكيك شفرة الأسئلة الوجودية وانهاء حالة الخوف الابدي من المجهول فى الرحلة المنتظرة وفك طلاسم البدايات الجديدة . والمحاورة كفاحا مع من صنعوا التاريخ وصاغوا هندسة القيم لحياتنا بين الحق والشر والخير ووضعوا رمانة الميزان لنسير على الخيط القيمى طوال مسيرتنا فوق الارض . لنتعرف اذا كان ذاك فى الإمكان على سر الانسان وكيمياء الروح والجسد فى الجانب الاخر من النهر ونجيب على فرضية الجدات العتيقات ” الراحة يوم المناحة ” .
رحلة شاقة هى الحياة للانتقال من الكثافة الى اللطافة وادراك غايات الإشراق فى غابة الشهوات فهل نحن فى مرتقى الانسان الكامل عند ابن عربى او الانسان الأصيل عند الاستاذ محمود ؟ ام ان الوجود يسبق ألجوهر كما ذكر سارتر ؟ وماهية الحياة وزاد الروح فيها ؟ ام ان الحياة مجرد عبء وتزيد حيثما قال الحلاج ” سئمت نفسى حياتى فى الرسوم الباليات” فهو يراهن على حياة الجسد الجديد والنظر الحديد فى ارض الروح وسماء الحقيقة وحلول المحبة فى جبة الحق .
الهواجس والحيرة تستعر فى الروح والعقل البشرى عن كنه الحياة حول ماذا نريد من تلكم الحياة وماهى مباهج الانسان ؟ وهل هى محسوسة ام معنوية؟ مادية ام روحية ؟ وكيف لنا تحقيق تلكم الأهداف .. أفتى المجذوب شاعر الحكمة والجمال بان المقصود الذى يسعى اليه الانسان هو ” السلام الداخلى” . وهذا هو زاد الرحلة وكل يبحث عن ذلك او يهرب من عدم توفره فى داخل ذاته الفانية .
اجتهد الفلاسفة والحكماء والشعراء للتنقيب عن الكمال البشرى منذ افتراع أفلاطون لمدينته الفاضلة وعالم المُثُل . ومن بعد كان ذاك سعى الأديان القديمة منذ بوذا المتيقظ وجواهره الثلاث والطوطم والهة التجلي والقربان . ومن ثم تنزلت الأديان السماوية والرسل لتشذيب ذاك العدوان بحثا عن سمو الروح والبدن .. وصوبت معظم الأديان غاياتها نحو الزهد والتصوف والمحبة .
من بعد كل ذاك مازلت الارض مكانا متوحشا بعنف الانسان ورحلة مرهقة للبحث عن الذات وأحيانا تمرد على سطوة أهل الوقت فهل وجدنا أنفسنا ؟ وهل لنا ان نتساءل لماذا نعيش ؟ وكيف نعيش ؟ وكيف نتحرر ؟ وماهى السعادة التى نبتغيها والامان الذى ننشد ؟ واى الطرق نسلك ؟
هى أسئلة حائرة أرهقت نفوس مرهفة وأروح معذبة باحثة عن الحقيقة واثبة نحو الخلاص الإنسانى ومنها كان فيض “الصوفي المعذب” الذى قذفه الزمان بقناة شروره وبعداء الانسان لكل ما هو مختلف وشفاف يحزم عصاة الترحال فى عالم الاسئلة وعلى قول المتنبئ ” ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم ” فكانت وضاءة وتساؤلات وحيرة وأشراقة وعذابات الشاعر الناهض بالجمال التجانى يوسف بشير قيثارة الصفاء الإنسانى :
‎الوجودُ الحقُّ ما أوسع في النفس مداهْ
‎والكونُ المحضُ ما أوثق بالروح عُراهُ

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..