مسرحية ‘الحادثة’ لسوسن دروزة: مُعاينة بالألوان لواقع الإنسان العربيّ وإسقاطات ربيعه!

هيفاء أبو النادي
المسرحيّة الأردنية ‘الحادثة’ للمخرجة سوسن دروزة مُعايشة ومُحاكاة حقيقيّة لما يشهده الإنسان العربيّ في واقعه من اضطرابٍ، وذهول، وتباين في الشخصية، وانغلاق على الذات، وصعوبة في الانعتاق من المأساة وشكل المُعاناة المُطّرد؛ الذي يعيشه هذا الإنسانُ بشكل روتيني فرديّ وجماعيّ.
لكنها أيضاً ليست بهذه السوداوية، فالمسرحية تصف بحنكة، وتشي بمهارة العارف، كيف أنّ الحياة للبعض ما هي إلا فرصة، وللبعض الآخر خيار ومتابعة.
أما بالنسبة لـ ‘سلمى’ (التي أدّت دورها الفنانة الأردنية صبا مبارك)، وهي الشخصية التي تدور حولها أحداث المسرحية، فالمسألة مختلفة نوعاً ما. ‘سلمى’ ممثلة في الخامسة والثلاثين من العمر، ملونة بكل ما ترتديه من ملابس، لمّاحة ومعطاءة لفنّها وناجحة، عليها أن تحضّر نفسها للسفر سريعاً جدّاً من أجل تكريمها في بلد أجنبي، ثم يحدث أن تتعرّض ‘سلمى’ لحادث ما، وتتعب وتتأزم، إلى أن تكتشف بعد ذلك من خلال سائقها ومُساعدها الشخصي ‘أبو فادي’ أنّ كلّ أوراقها وهوياتها قد ضاعت!
تحتفي المسرحية بالرموز، وبإسقاطات ‘الرّبيع العربيّ’ بكل ما فيها من أبيض وأسود. سلمى تبحث عن سلمى، فضياع جواز سفرها لم يكن صدفة أبداً! حتى منتصف ثلاثينها الذي وصلت إليه كان بمثابة وقفة طويلة لها مع النفس. تطرح ‘الحادثة’ ثيمات كثيرة، منها ما تناول شكل الحرية ومفهومها في بعدها الثلاثي، عبر تسليط الضوء على ثلاثة أنماط من البشر الموجودين في المجتمع، والمُشاركين بشكلٍ مباشر وغير مباشر في الحياة السياسية والاجتماعية أيضاً، فمنهم المُتديّن الذي لا يسير إلا ضمن قالب الدين والعقيدة كمنهج وطريق، ومنهم المُنادي بالعلمانية كحلّ يضمن سلامة العيش، ويصرّح علانية بفصل الدين عن الدولة، ومنهم أيضاً المرأة التي تنادي بالدولة المدنية، لضمان حقوقها ومكانتها في المجتمع، كعضو فاعل ومساوٍ للرجل في الحقوق والواجبات. وكلّهم يختلفون في الطريقة، لكنهم يتفقون على المُعاينة ومُحاولة إيجاد الحُلول والإصلاح.
صبا مبارك بأدائها المُذهل لشخصية ‘سلمى’ أثبتت لنفسها أولاً، وللحضور ثانياً، ولـ ‘سلمى’ أيضاً، أنّها على صعيد التمثيل والبطولة ممثلة استعراضيّة بامتياز، أمّا على صعيد الثيمات والمضامين، فقد أثبت هذا العملُ المسرحيّ الاستعراضيّ الجادّ أنّ الإنسان، في مسيرته الحياتية الطويلة، مازال يتعلّم بأشكالٍ وصور مختلفة، وأنّ الحياة ومواقفها وطرائفها أيضاً يمكن لها أن تُجبرنا على اختيارٍ واحدٍ فقط، بغضّ النظر عن قوته أو ضعفه أو تداعياته وإسقاطاته الواعية واللاواعية علينا! الحياة بالمجمل صورة ذهنية وادعة وواعية، يرسمها من كان له باعٌ طويل في الرسم، لأنه يأبى أن ينتظر شيئاً لم يكن في الحُسبان، لذلك كلّه، كانت ‘سلمى’ عكس ما آلت إليه، فمازالت تستغرب وتستهجن وتستنكر وتتعجّب وتتساءل: ‘لم أنا بالذات؟’.. هي طبيعية على أي حال، لكنّ مُصابها الجلل الذي نتج عن فقدانها لجواز سفرها، الذي يمثل في الحقيقة هويتها الشخصية أو بالأحرى ‘هويتها الوطنية’ (كما أشارت ضمن مونولوج يتسم بالوضوح والجزالة والبلاغة والصدق)، مُصابها الجلل ذاك ساهم في أن تفقد ‘سلمى’ رباطة جأشها لبعض الوقت فقط. وهُنا، في الحقيقة، يتجلى الواقع بكل ما فيه من إحداثيات وتقاطعات، ليأتي على شكل رسالة مبطّنة لا تقولها البطلة أبداً، ولكن يستشعرها المُشاهِد؛ فلا بأس إن اختلّ توازننا قليلاً، ولا بُدّ من عدّة وقفات مع الذات الحريصة على إبقاء جذوتها مشتعلة، ولا غضاضة من أن يستبق ويتخلّل كلّ ذلك نظرةُ مُعايَنَةٍ مُقرّبة على الشكل الاجتماعيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ الذي ننضوي كلنا تحت مظلته رغم اختلافنا. ‘سلمى’ التي لطالما حلمت في أن تكون ممثلة شهيرة، حقّقت حُلمها بكلّ تأكيد، لكنّ شيئاً ما لديها، في باطن إحساسها، يشير لها بإصبع الشّك والرّيبة، بأنّ شيئاً ما فيها وفي مُحيطها ليس صحيحاً. ‘سلمى’، شأنها شأن نساء كثيرات في هذا المُجتمع الذي يرفض بمجمله نجاحات الآخرين، خاصّة إن كانت تلك نجاحات النساء، تخترقها الهُمومُ من كلّ حدب وصوب. ‘سلمى’، وعلى الرّغم من وصولها لمنتصف ثلاثينها، لا تعرف بعد ما المشكلة، وتقف حائرة على المرآة كلّما حاولت ‘إدراك صورة وجهها فيها’. ‘سلمى’ تحاول الصّعود، وتُجيد طرح الأسئلة، لكنّها أبداً لا تحسنُ إيجاد أي إجابة عن تلك الأسئلة، وهُنا تكمن قمّة الحكمة في هذا العرض المسرحيّ الواعي، أي أن تطرح الأسئلة الصحيحة أو الخاطئة، وتحاول أن تقف عليها خائفاً أو معلّلاً أو وادعاً أو مستكيناً أو صاعداً أو منتشياً، لا فرق! المهمّ أن تعبُرَ حديقتك بكلّ ما فيها من أزهار وأشواك أيضاً.
جريئة هذه الـ ‘سلمى’ وهي تحاول التماثل للشفاء بأقلّ الخسائر، حتى وهي تبدّل ملابسها على خشبة المسرح في ظلّ عتمة دامسة، كانت وكأنها بفعلها ذاك ترمز إلى صراخ داخليّ فيها يريد أن يقول لنا جميعاً: ‘نعم، أنا أمارس حرّيّتي كما أشتهي، وأبدّل ألواني وملابسي ووجوهي أيضاً، لا أبدّل وجوهي التمثيلية، بل وجوهي الإنسانية’. كانت ‘سلمى’ ومع كلّ لون جديد ترتديه وتتألق فيه تقول لنا جميعاً: ‘أنا إنسان، ألا ترون أني كذلك؟’، متجاهلة التاء المربوطة فيها كامرأة! وأنّ فكرة تبديل الملابس أشبه وأقرب ما يكون لفكرة تبديل الوجوه!
المسرحية عبارة عن توليفة مدهشة حقاً لمَشاهدَ عدّة متلاحقة واقعيّاً، وخياليّاً فانتازيّاً، في عقل ‘سلمى’. فلم تكن هناك أي حاجة إلى اقتراف ذنب الزخرفة المبالَغ بها على المسرح، لا على صعيد أزياء الممثلين، ولا على صعيد الديكور. حتى أن الممثلين أنفسهم ساهموا في نقل وإدخال وإخراج أثاث المسرح بكلّ سلاسة ودون أيّ إجحاف لمضمون المسرحية، بل على العكس، كانت تلك لفتة رائعة لفكرة أنّ الإنسان قادرٌ على أن يكون قادراً إن أراد هو ذلك!
لعبت الموسيقى والأغاني دوراً لافتاً في تحقيق المتعة لدى الجُمهور، وفي إبراز شكل ومضمون اللوحة التي يراها المُشاهِد ضمن أقلّ كمّ ممكن من الديكور. كما أن اللوحات الرّاقصة التي أنعشت العرض كانت مُكمّلة له، بالقدر الذي أعان المُشاهِد على الاستمتاع والتفاعل مع تداعيات الأحداث في آنٍ واحد.
ثيمات أخرى طرحها هذا العرض المسرحيّ من خلال شخصية ‘سلمى’، مثل الوجود واللاوجود، تماماً عندما أصبحت ‘سلمى’ غير موجودة وغير مرئية أيضاً كونها فقدت كلّ ما يثبتُ شخصيّتها من أوراق، وفي هذا مفارقة كبيرة، فما عادت آثارها كافية لتدلّ عليها أو تثبت وجودها على هذه الأرض، لذلك كلّه، وجب عليها أن تستصدر بدل فاقد عن كلّ ما فقدته من أوراق وهويّات. وكأنّ الواهم فقط هو من يدّعي فهماً صريحاً لواقعه، وأنّ الآثار وحدها هي التي تدلّ على وجود الإنسان، رغم أن الحضارات كلّها لم نعرفها إلا من خلال آثارها ومبانيها. الغريب في الأمر، هو هذا التناقض غامق اللون، تماماً كالكدمة التي حصلت عليها ‘سلمى’ إثر حادث السيارة الذي تعرّضت له، ما يجعلنا نقف على هويّاتنا لنتفقدها ونتأكد إن كانت حقاً تعبّر عنّا أو تثبت وجودنا الإنسانيّ أم لا! لنجد في النّهاية أنها مجرّد أوراق لا تسمن ولا تغني من جوع! لكن المفارقة الجديدة في الأمر تكمن في أن استصدار بدل فاقد عنها سيكون مجرّد مسألة وقت لا أكثر، حيث أن ‘سلمى’ حصلت على أوراقها وهوياتها بعد أسبوعين تقريباً، لكن من يموت من البشر من أجل أسبابٍ واعية ومدروسة كأن يكون ثائراً مثلاً من أجل الحرية والكرامة والعيش الكريم، لن يكون بوسع أهله أن يستصدروا في حقّه بدل فاقد أو ميت، فالأموات لا يعودون بعد أن يكونوا قد بذلوا أرواحهم في سبيل أوطانهم، وهذا ما أشارت له ‘سلمى’ في نهاية العرض، قبيل التقائها بالفراشة، التي تشبه إلى حدّ كبير بصيص النّور في نهاية النفق المظلم.
تُعدّ مسرحية ‘الحادثة’ ارتجالاً جماعيّاً واعياً، تأليف وسينوغرافيا وإخراج سوسن دروزة، صياغة وبطولة صبا مبارك، تمثيل: أحمد سرور، وسليمان الزواهرة، وهالة شقير، وحسن لافي، ومروان عايش، بمشاركة الرّاقص: مكسيم عيّاد، أزياء وديكور هالة شهاب، ومساهمة فنية لـ إيهاب الخطيب من المعمل 612 للأفكار.
كاتبة وأكاديمية من الأردن
القدس العربي