حرائق النخيل.. اتهام سابق لأوانه

محمد لطيف
فى شمال السودان للنخلة صورة ذهنية يصعب الوصف عن الإحاطة بها.. حيث تعتبر النخيل ثروة ذات وزن.. كما تعتبر فى ذات الوقت قيمة اجتماعية تعطي صاحبها بعداً آخر.. بجانب قيمتها الغذائية العالية.. علاوة على قيمتها الروحية باعتبارها الشجرة التي ورد ذكرها في القرآن مرتبطة بميلاد أحد الأنبياء.. وهو نبي الله عيسى .. بل وباعتبارها من مهدئات الطلق.. بحسبانه أصعب لحظات المخاض.. ثم ارتباط النخيل بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إذن فى الشمال النخلة هى كل هذا.. لذا فلأخبار النخيل وقع خاص عند أهل الشمال.. كانت مبشرة تلك الأخبار أو مكدرة.. ولعل المؤسف أن أخبار الأشهر الأخيرة عن النخيل لم تكن مما يسر.. فقد ظلت الأخبار تتواتر عن حرائق هائلة تشتعل فى غابات النخيل .. أو جناين النخيل كما يحلو لأهل الشمال تسميتها.. والحرائق تلك بات مألوفا أن تتجاوز النخيل إلى المنازل.. فبدا مشاعاً أن مجموعة من أهل المنطقة يدفعون الثمن من مساكنهم ومحتوياتها.. كلما أشعل شاعل النار في النخيل.!
كان آخرها نهاية الأسبوع حين حملت أنباء صواردة حريق ثلاثة ألف نخلة وخمسة عشر منزلاً.. وفقا للزميلة السوداني بعدد الأمس.. كما بات مألوفا كذلك تقييد الأمر ضد مجهول.. وهذا بالضرورة يكفل للضحايا الحق في ملاحقة السلطات لوضع يدها على الجاني أو الجناة.. لينالوا عقابهم أولاً.. ثم ليعلم الضحايا.. من اعتدى عليهم وتسبب فى كل تلك الخسائر.!
ولكن قاطنون فى المنطقة.. وخبراء بحكم تقادم سن معايشتهم للمنطقة ومسار الأحداث فيها.. يدفعون بشدة لرفض نظرية المؤامرة.. أو فرضية وجود جريمة من أصلها.. وهم حين يقولون ذلك يؤسسون لفرضية جديدة بحيثيات تبدو منطقية ومتماسكة.. حتى يتوفر ما يفندها ويثبت خطأها.. ويبدأ الخبراء بإشارات مهمة.. أولاها .. أن أشجار النخيل من أكثر الأشجار كثافة فى أغصانها.. الجريد.. وفي لحاها .. وفي عرجونها.. ثم إشارة أخرى.. أن كل هذه الملحقات من شجرة النخيل.. كانت يوما ما مصادر مهمة في تلك المنطقة لاستخدامات عدة.. تبدأ من أسقف المنازل .. ولا تنهي عند الوقود المنزلي والحبال.. إلى آخر الاستخدامات المحلية في المنطقة.. وحينذاك.. كان طالبو هذه المنتجات يدفعون نقداً مقابل الحصول عليها.. وبالنتيجة كانت أشجار النخيل تحصل على نظافة موسمية منتظمة .. مقابل حصول طالبي تلك الملحقات على ما يحتاجون من جريد ووقود ..!
ثم جاء زمان على المنطقة.. تطورت فيه المباني واصبحت أسطح المنازل تتمتع بمواد صناعية.. كما تقدم الفحم.. ثم تلاه الغاز.. ليحل محل.. الواقود .. وبالنتيجة أيضاً.. لم يعد أحد يطلب من النخلة غير ثمارها.. أى البلح .. وأصبح كل ما عداه.. من جريد وعرجون وعويش.. غير مرغوب فيه.. والأسوأ من هذا.. لم يعد هناك من هو على استعداد ليصرف على النخلة كل عام لنظافتها.. إذن لك أن تتصور أن أى شجرة من أشجار النخيل باتت محاطة بهذا الكم الهائل من (المواد الجافة) سريعة الاشتعال.. ثم مقروءا مع هذا تقارب مواقع تلك الأشجار حد الاحتكاك أحيانا.. ومع حركة الرياح الدائمة فى منطقة مفتوحة.. فغني عن القول.. أن أية شرارة تنطلق من أي موقع.. كفيلة بأن تخلف كارثة ماحقة.. !
إذن.. التوعية ضرورة مقدمة على ما عداها.. ونظافة أشجار النخيل مسألة ملحة.. فإن فعلنا هذا.. وتكرر اشتعال الحرائق.. يمكن حينها أن نوجه أصابع الاتهام.. ونبحث عن جناة
اليوم التالي