عودة مهاتير

لعل عنوان المقال – بقليل من التعديل – يذكرنا باسم الفيلم السينمائي الأمريكي القديم (عودة ديجانقو)عندما كان للسينما دوراً محورياً في توعية وثقافة وإمتاع الكثيرين من روادها وهواتها الذين يحفظون أسماء أبطال الأفلام والخونة عن ظهر قلب، فضلاً عن تداعيات وأحداث الفيلم، بل ربما كانوا يتبارون في التكهن باللقطة القادمة قبل عرضها وصولاً إلى وضع النهايات التي تتسق تماماً مع رؤية المخرج وفقاً لمجريات وأحداث كل فيلم. وحيث أن مضمون الفيلم السينمائي الأمريكي (عودة ديجانقو) يضمر في خلاصته نية الانتقام من الخائن وسدنته، فقد لوحت أخبار الفيلم السياسي الماليزي (عودة مهاتير)، حسب المؤشرات المقروءة وما رشح من أخبار، بما يدل على أن مهاتير سيجري تصحيحاً واصلاحاً لما حدث من انحراف بالتجربة التي ابتدعها حتى صارت مضرب مثل لنجاح النهضة التعليمية والتنموية لبلاده والعالم، قبل أن ينحرف بها خلفه رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق الذي ستتم محاسبته على كل ما ارتكب من فساد وإفساد وخلل وأخطاء.
المعروف أن مهاتير تجاوز التسعين بعامين من العمر إلا أنه حسب مشاهدتي له بالتلفاز قبل أيام، لا زال يتمتع بحيوية وحماس الشباب ويتحدث بوعي ورزانة الشيوخ، وقد ظل – وهو الذي ابتعد عن المنصب مستقيلاً بعد نجاحات باهرة – يتابع من على البعد ثمار ما بذر في أرض ماليزيا، فرصد كل المتغيرات التي أصابت الهيكل البنائي الذي وضع أساسه. ولذا لما فاحت رائحة الفساد وصار ينخر عميقاً في عظام التجربة، انسحب من عضوية الحزب الحاكم وانضم للمعارضة ثم قاد ائتلافها مقدماً نفسه كمنقذ سيعمل على اصلاح ما أفسده الدهر. وما أن أطل لمخاطبة الناخبين بوجهه الصبوح وهدوئه المعهود حتى قلب موازين اللعبة السياسية لصالحه بفوز تحالفه الحزبي بغالبية مقاعد البرلمان. فإذا حقق مهاتير شيئاً من النجاح المنشود وهو في هذا العمر وبعد غياب عن السلطة فاق الخمسة عشر عاماً جرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسر، فقد يحفّز ذلك بعض الساسة في البلدان الأخرى ممن يطمحون في الجلوس على الكراسي الرئاسية أو أولئك الذين لا زالوا جلوساً عليها، لكي يتخذوا من عودة مهاتير مبرراً لتقديم أنفسهم مجدداً، غير أن البون شاسع بين من فشل أو عجز ويريد العودة وذلك الناجح الذي يريد مواصلة العطاء.
ومع ذلك قد نلاحظ في السنوات الأخيرة أنه لم يعد لعامل السن أي أساس في تحديد صلاحية أو أهلية الحاكم سواء كان صغيراً أم كبيراً، لأن دولاب الدولة يدار عادة من الداخل وبماكينات ذات تروس واعية ودقيقة ومتشابكة تفضي للنتائج التي تنسب لقائد الدولة الذي لا يحيد عنها قيد أنملة بل يتبناها مدافعاً عنها أكثر ممن صاغوها. وكمثال لصغر سن الرؤساء فإن إيمانويل ماكرون رئيس جمهورية فرنسا بجلالة قدرها كان عمره أربعين عاما عند فوزه بالانتخابات في العام الماضي وربما أن هناك آخرون من أمثاله، فهل عجزت بلادهم عن تقديم من هم أكثر نضجاً أم لأن المعايير تبدلت كما أشرت هنا. وفي المعادلة الأخرى هناك من بلغوا من العمر عتياً ولا يتحركون إلا بالمعينات الطبية ولا يطلون على شعوبهم إلا لإثبات أنهم على قيد الحياة ولكن تصدر القرارات وتدور عجلة الحياة السياسية بسلاسة في بلادهم دون جلبة أو ضوضاء، وبالطبع هذه الشريحة لا تتوافر إلا في محيطنا الاقليمي والقاري الحافل بالكثير من النماذج.
أتمنى لمهاتير محمد العمر المديد ليتمكن من انجاز مهمة الترميم للصرح الذي بناه بالفكر والجهد والعرق ثم حين ابتعد لم يقبل أن يراه ينهار أمام عينيه فعاد للتصدي والإصلاح.
[email][email protected][/email]