المحارب.. رواية.. 14

***
احد عشر كوكبا..
طافت بخيال اشرف تلك الذكريات وهو يطوف ارجاء المعسكر الى ان غربت الشمس، فقفل راجعا الى خيمتهم وعند مدخلها وجد صلاح وهو يهم بالخروج بعد ان سمع المؤذن يرفع عقيرته مناديا ان حى على الصلاة.
ذهبا سويا واديا صلاة المغرب، وبعدها غادرا المسجد وتوجها الى رفاقهما الذين تحلقوا فى حلقة كبيرة استعدادا لتناول العشاء.
تتكون مجموعتهم من احد عشر فردا من مختلف انحاء البلاد، من الشرق والغرب والوسط والشمال والجنوب، وهى تقريبا المجموعة الوحيدة بالمعسكر التى تضم احد عشر شخصا، فبقية المجموعات لا يزيد عدد افرادها عن العشرة، تم ترتيبها منذ اليوم الاول لوصولهم، تعارفوا هنا إذ ضمهم المعسكر فاصبحوا اصدقاء، يخرجون الى التمارين سويا ويقفون فى الصفوف بعضهم بجانب بعض.. يتناولون وجباتهم فى اناء واحد، ويُغسلون ملابسهم فى آن واحد، لا يفرقهم الا النوم إذ يسكنون فى عنابر مختلفة.. تشابهت ظروفهم فتآلفت ارواحهم، وكل واحد منهم كان مثالا صارخا للظلم الذى حاق بالشباب فى تلك الفترة التى شهدت تحرير مدن الجنوب الواقعة فى قبضة الحركة الشعبية، وكلهم ضحايا السياسات التعسفية التى كان ينتهجها النظام، ولكل واحد من هؤلاء التعساء قصة تتمزق لها نياط القلوب، وعلى قاعدة ان المصائب يجمعن المصابين فقد اجتمع هؤلاء الفتية على الالفة والمودة.. زبدة القول انهم اصبحوا كالجسد الواحد الذى اذا اشتكى منه عضو، تداعت له بقية اعضاء الجسد بالسهر والحمى.
وصل اشرف وصلاح الى حيث جلس الرفاق واخذا مكانهما بعد ان القيا بتحيتهما على الجمع .. جلسا صامتين كغير العادة، فصلاح الممراح لا زالت تداعيات الحلم الذى رآه فى منامه تمسك بتلابيب روحه المرحة، فقد كان ملح الثلة التى اعتادت على قفشاته الطريفة التى طالما انستهم واقع وجودهم بالمعسكر، ومسحت عنهم الم البعد عن الديار، اما اشرف فقد عرفنا ما كان يعانيه من الم وهم وهو يستعيد ذكرياته بذلك الحنين.
كان الرفاق يتحدثون عن محاولات الهروب التى يقوم بها البعض على الدوام، وكيفية ضبطهم والعقوبات القاسية التى يتعرضون لها.
قال ( دينق ) بلكنته المعهوده: تجربة مريرة عشتها البارحة، فقد امضيت ليلى كله منتصبا تحت وابل المطر وقصف الرعود، واردف ابن الجنوب الذى اجبرته ويلات الحرب على النزوح الى الخرطوم: كنا ثلاثة (مستجدين ) تسللنا مع حلول الظلام والتقينا دون سابق موعد عند المكان الاشد ظلاما خلف مكاتب الادارة فى الجهة الغربية من المعسكر.. بدأنا فى التسلق وقبل ان نصل الى قمة السور تناهى الى اسماعنا صوت يصرخ بنا قائلا : (ثابت ) واستطرد صاحب الصوت بلهجة حادة: اى حركة ساطلق النار بلا هوادة.. تيقنا ان الرجل صادق فى ما يقول، فتسمرنا فى اماكننا جرّاء الرعب الذى تملكنا الى ان امرنا بالنزول.. نزلنا رافعى الايدى، فما كان من الحارس الذى ظهر فجأة كانما انشقت عنه الارض، الا ان اقتادنا امامه وبندقيته تكاد تلامس رؤوسنا ثم ذهب بنا الى حكمدار المعسكر فكان ما كان.
سأل (بدر الدين ) باستنكار: لماذا العبث؟ الم توكنوا على علم بعقوبة الهروب من المعسكر؟
– اعلم تماما، وقد رايت من قبل كيف فعلوا بمن حاول ذلك، ولكن احساسى بحوجة ابنىَّ الذين تركتهما يتضوران جوعا الى وجودى بجانبهما هو ما جعلنى افكر فى تلك المغامرة.
تذكر اشرف ان كم من بالمعسكر من ترك ابناء له لا عائل لهم غيره، وكم من ابنٍ غاب عن والدته المسنة التى ليس لها ابنا سواه، وكم من اب فى هذا المعسكر خرج وبنوه يتلهفون لعودته، وكم احدا مثله ترك مريضا له بالمستشفى، والكثير الكثير من المظاليم الذين جيىء بهم دون النظر الى ظروفهم، تنهد فى الم وهو يقول فى محاولة لتعزية نفسه ورفيقه: كلنا فى الهم شرق.
قال صلاح موجها حديثة الى دينق وقد انساه انس الرفاق بعض ما علق فى نفسه من كآبة: يبدو انكم لم تخططوا جيدا ولم تحترسوا، فمن يريد الهروب لابد ان يمهد لكل خطوة يخطوها نحو هذا الهدف، والافضل لمن اراد ان يغامر ان يتحسب لصحوة الحراس والا فلا يجازف حتى يضمن غفلتهم.
– كل ذلك فعلناه، فعندما حانت لحظة الصفر لم يكن هنالك ولا حارسا واحدا، ولا ادرى كيف رآنا ذلك الحارس الذى قلت لكم انما ظهر فجأة كانما انشقت عنه الارض، قالها دينق ضاحكا رغم المرارة التى كان يتحدث بها.
– رد صلاح بسخرية: ربما لديه قرنا استشعار!!
ضج مجلسهم بالضحك.. وقال بدر الدين ابن بورتسودان الذى جاء الى الخرطوم بحثا عن العمل: قرنا استشعار، ام عينان مركبتان؟
تواصل الضحك فقال دينق: كلاهما لدى ذلك الدعى والا لما رآنا فى ظلام مثل ظلام ليلة البارحة الحالك ..
– تحدث احمد لاول مرة، وهو من ابناء الشمال جاء الى ام درمان ليبيع ما جادت به نخلاته من محصول التمر، وقد كان ينوى الزواج بعد العائد المجزى الذى تحصل عليه واسعار التمر ترتفع الى اعلى معدل لها فى الآونة الاخيرة، الّا ان حملة من الحملات اياها لم تمهله حتى يرجع الى موطنه، فقد وقع فى قبضتها ثم جيئ به الى المعسكر، قال فى اسى: زخات المطر ارحم من الجحيم الذى ترسله شمس الظهيرة.. اربعة ساعات وانا منتصب كالعمود تحت حرارة الشمس الحارقة، وكل ذلك لمجرد التفاتة بدرت منى اثناء (رفع التمام ).
– عقوبتهم قاسية، وفيها شيء من التعسف والتشفى، قالها بدر الدين وهو يتحسس كدمة فى جبينه اصيب بها جراء عقوبة لم تحتملها بنيته الضعيفة فخر على الارض مكبا على وجهه.
– رد صلاح بجدية لم يعهدها اعضاء مجموعته من قبل: ليس تشفيا، تنهد قليلا قبل ان يواصل فى حديثه الجاد: فى اعتقادى أن ما نحسه من قسوة فى التدريب والعقوبات وغيرها انما هى صقل لشخصية الجندى حتى يستطيع مجابهه اقسى الظروف التى قد تصادفه.. فالمعارك والحروب مثلا تتطلب شخصية فولاذية لا تعرف اليأس، ولاتقهرها الظروف كيفما كانت قسوتها، ولا تستسلم للهزيمة مهما ادلهمت الخطوب.
– تذكروا يا رفاق اننا هنا لسنا فى نزهة خلوية.. سوف تكونون حماة للوطن، فإذن لابد ان تخشوشنوا ، ففى ميادين الحرب ما هو اشد واقسى مما نعيشه الآن، قالها (آدم ) ابن الجنينة الذى عادة ما يميل الى الصمت، واصل حديثه وهو يلوح بيديه المعروقتان: ليقارن كل واحد منكم شخصيته قبل وبعد مجيئه هنا ستجدوا ان تغيرا كثيرا طرأ علينا، لقد صرنا اكثر صبرا، واشد عزيمة، واقوى شكيمة.
– لم يكن بارادتنا، بل أُرغمنا على ذلك، فالكثير منا غير مقتنع بهذا الوضع، قالها اشرف بحسرة، وهمّ بان يضيف شيئا الا انه عدل عن ذلك، خشية ان يسمعه احد خارج (الثلة ) فيشيء به، كان يريد ان يتحدث عن سياسة الحكومة وقهرها للمواطن ولكنه راى من الحكمة ان يمسك لسانه.
تحدث (خالد ) الذى خلع عليه الرفاق لقب المدير، لتدبيره امور المجموعة، فقد اختير بالاجماع ليمثل المجموعة فى ادراة شئونهم، وهو من ابناء شرق سنار، فى العقد الثالث من عمره، وفد الى الخرطوم بحثا عن تاشيرة خروج يهرب بها خارج البلاد، وقبل ان يحصل عليها تم قبضه وجيئ به الى المعسكر، قال فى ضجر محاولا تغيير دفة الحديث: فى اعتقادكم متى سنخرج من هنا؟.
– وما الفرق؟ هل تعتقد انك سترجع الى اهلك؟ رد صلاح متهكما، ثم مضيفا: ستخرج من هنا الى احراش الجنوب.
– على الاقل سننال قسطا من الحرية..
– وما طعم الحرية مع قعقعة السلاح؟!!.
– نعم ليس هناك حرية وامان مع قعقعة السلاح.. لقد شهدت ويلات الحروب بنفسى ورايت كم هو حجم الدمار والخراب الذى تخلفه تلك الحروب، والاشد مضاءة هو ما تتركه من دمار فى النفوس، قالها دينق بمرارة شديدة وهو يتجول بعينيه الضيقتين فى وجوه الاصدقاء التى حجبت معالمها استار الظلام.
– حتما سترفرف حمائم السلام فى سماء الوطن، وستخضر اغصان الزيتون اذا ما قدم الطرفان بعض التنازلات، فقط هل ستصدق نوايا اؤلئك الذين يقتاتون على جماجم الضحايا ؟ قال اشرف ذلك واتبعه بقوله وهو ينظر مليا الى الافق الممتد الى ما لا نهاية: لا زال هناك مزيدا من الضحايا.
جيئ بالعشاء ووضع بينهم فتحلقوا حوله وبدأوا يتناولونه بنهم رغم رداءته، قال صلاح فى سخرية لا تخلو من مرح وهو يرفع بيده الى فمه: رغيف محروق مع عدس مسلوق ومع ذلك تقبلون عليه بشراهة.
رد بدر الدين ضاحكا: نحن فى عرفهم ليس الا قطيع من البهائم !!.
– ليس الى هذه الدرجة، قالها (احمد ) وهو يلفظ حجرا كان قد التقمه مع الطعام ..
– انهم يقولونها صراحة، وكثيرا ما رددوها على اسماعنا.. وكل ذلك بدواعى التعود على الصبر وتهذيب النفس وما الى ذلك.. قالها (المدير ) بامتعاض شديد وهو يجاهد فى ابتلاع الطعام الذى وقف فى بلعومه..
تدخل صلاح متهكما وقد عادت اليه روحه المرحة: كلوا من غير ما تعليق، فليس بالخبز وحده يحيا (العسكر ).
– بل بالبندقية والراجمات.. قالها اشرف رافعا يده عن الطعام وهو يشعر بالامتلاء رغم قلة اللقيمات التى تناولها.
تدخل احمد موجها حديثه الى صلاح: كيف لا نعلق واضراسنا عجزت عن المضغ بعد ان (اضرسها ) طحن هذا (الحصرم ) اقصد الحجارة؟
– قال بدر الدين ضاحكا واللقمة فى فيه؛ الحجارة التى هرستها ضروسى تشيد بيتا..
– رد صلاح بسخرية وهو يلعق اصابعه؛ الا اذا كان بيت نمل!!
ضحك الشباب وتواصلت تعليقاتهم الساخرة الى ان فرغوا من الطعام.. كانوا يحسون بمتعة حقيقية فى جلستهم اليومية تلك، والتى عادة ما تكون بعد غروب الشمس وتستمر حتى قرب موعد الطابور المسائى.. فكانوا يستعرضون ما كان فى يومهم من مفارقات درجوا على مشاهدتها ومعايشتها منذ قدومهم، ويناقشون المستجدات فى المعسكر، ويطرحون رؤاهم وافكارهم ويحكى كل منهم عن ماضيه وبلده واهله حتى اضحى كل واحد منهم كتابا مفتوحا للآخرين.
بلغت الساعة الثامنة والنصف مساء، ويعنى هذا ان موعد الطابور المسائى قد ازف، ولم يبق على ساعة الصفر- كما يحلو لهم ان يسمونها – الا نصف ساعة فقط، هب رفاق السلاح وذهبوا فى اتجاه صهريج المياه، فغسلوا ايديهم وتوضأ منهم من توضأ ثم ذهب كل الى مقره ليستعد الى طابور المساء.
فى الطريق الى مقرهما قال اشرف لصلاح؛ اننى احس باعياء وغثيان شديدين حتى لاكاد ان اتقيأ، وقبل ان يتم حديثه تاخر عن صاحبه قليلا وبدأ يستفرغ ما فى جوفه حتى تقيأ عشاءه كله.. جلس على الارض الرطبة وهو يشعر بدوار وثقل فى راسه فقال لصلاح الذى وقف ينظر اليه باشفاق: يبدو انها مبادئ ملاريا.
– لا اظن ذلك.. فانت منذ يومين لم تاخذ كفايتك من النوم، واضاف صلاح وهو يمد بيده ليساعده على النهوض: انه مجرد ارهاق.. هيا انهض..
نهض اشرف بمساعدة صاحبه واستأنفا سيرهما الى ان وصلا مقرهما، قال صلاح: يجب ان تاخذ قسطا من الراحة، فانت بلا شك مرهق، وان لم تكف عن كثرة التفكير فستسوء حالتك اكثر.
– سأحاول ما استطعت الى ذلك سبيلا.
استلقى اشرف على فراشه ويديه على بطنه واغمض عينيه مسترخيا فى محاولة للاحتفاظ ببعض قوته الخائرة استعدادا لبرنامج الطابور المسائى.
ظل على حالته تلك الى ان سمع صافرة النداء، فهب واقفا وارتدى ملابس التدريب وخرج الى حيث تراصت الصفوف وبدأ البرنامج المسائى الذى استمر حتى منتصف الليل.
انطلقت الجموع وعادت الى مقارها وبدا السكون يعم ارجاء المعسكر إذ أوى الكل الى مخدعه، خلت ساحة المعسكر الا من بعض التعساء الذين اوجبت اخطاءهم ان يؤدبوا بعقوبة حرمتهم نعمة ان يأووا الى فرشهم .
مرت الايام تباعا حتى بلغوا اسبوعهم الخامس فى المعسكر، واثناء هذه الفتره كان احمد وعلى قد زارا اشرف مرتين وزفا اليه فى احداها نبأ خروج حنان من المستشفى، وجاء خلالها ايضا (الباش ) مهندس (مهدى ) يبحث عن شقيقه صلاح فحاول تخليصه واخراجه من المعسكر الا ان صلاحا رفض الرجوع مع اخيه رغم الحاح الاخير، ويذكر اشرف انه سأل صلاح باستغراب عن سبب رفضه ترك المعسكر، لا سيما وان مهدى قد قدم ما يشفع لاعفائه من الخدمة العسكرية حين اثبت بالدليل القاطع انه مقيم بالسعودية، فكان رد صلاح الاكثر غرابة : لقد احببت حياة المعسكر، واقولها بكل صدق عز على ان افارقكم، خصوصا وانه لم يتبق على تخريجنا سوى بضعة ايام.
[email][email protected][/email]