أخبار السودان

مَوْتُ الفيتوري: الوَردُ فـي فجيْعـةِ الرَّحيْـل ..

جمَال مُحمّد إبراهيْـم

أقرب إلى القلب:

(1) حين انطلقتْ شائعة موته في العام الماضي، ابتسم والعلة قد ضاعفت حصارها لبدنه القصير الناحل، واكتفى بقوله : إن الشاعر لا يموت..
لم يكن يقلقه إن حلتْ ساعة رحيله عن دنيانا، فقد تملكته طمأنينة الخلود الذي حققه لشعره الباذخ، واستوى شعره راسخاً في ساحة الأدب العربي، وما بقي في الساحة التي أسست لشعر التفعيلة بدواوين شعر صدرت في خمسينات القرن الماضي، سوى اللبناني شوقي أبي شقرا والسوري أحمد علي سعيد (أدونيس).
أصدر محمد الفيتوري ديوانه الأول “أغاني افريقيا” قبل نحو ستين عاماً في القاهرة، وهو طالب في عامه الثاني بدار العلوم. احتفتْ القاهرة بشاعرٍ موهوب، برز متفرّداً متميزاً بتسليط الضوء على انتمائه الأفريقي، وبلغة ناصعة عفوية ولسان عربي مبين. قصيدته الرائعة “الحوذي”، جرى اعتمادها ضمن المناهج المدرسية في مصر، منتصف خمسينات القرن الماضي، والثورة المصرية تتطلع في زهو أحلامها بوحدة عربية تستلهم القواسم المشتركة .
(2)
لقد برزت موهبة الشاعر الفيتوري في العقد الذي تلى انطواء معاناة البشرية بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وتوافقت البشرية إذاك على حقوق الشعوب الثابتة في امتلاك مصائرها وحريتها، والحصول على استقلالها على قدم المساواة مع البلدان التي تولت تشكيل أوضاع العالم بعد تلك الحرب المدمّرة. كانت صرخة الحرية داوية تلكم السنوات طالبت فيها معظم شعوب العالم بحقها في تقرير مصائرها، ولم تكن القارة الأفريقية استثناءا.. لقد ارتفع صوت شعراء السنغال “ديوب” و”سنغور” وأضرابهما، وكُتاب الرواية الأفريقية الكبار، مثل “شنوا أشيبي” في نيجيريا و”واثيونقو” في كينيا و”روباديري ” في يوغندا و”تعبان لوليونق” من جنوب السودان، يساندون ذلك الحراك نحو نيل الحرية والاستقلال لشعوبهم التي قهرها الاستعمار. إثر اليقظة الأفريقية، كسبت معظم البلدان استقلالها، خلال وبعد سنوات الخمسينات: السودان، تونس ، كينيا، يوغندا ، الجزائر…والقائمة تطول. في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ماطلت قوى استعمارية في منح الحقوق لأهليها. هبت الثورات في الكونغو وفي معظم بلدان الجنوب الأفريقي، ووجدت حركات التحرر السند والدعم من البلدان التي استقلت قبلها، فكان السودان في الطليعة مع مصر. ولم يغب صوت الفيتوري، يدافع وينافخ.
(3)
كان صوت الفيتوري هو الصوت العربي الأفريقي الذي عبّر عن تطلعات الشعوب العربية الأفريقية نحو الخروج من ربقة الاستعمار، ورافقته أصوات سودانية شعرية مُميزة : تاج السر الحسن ، ومحي الدين فارس وجيلي عبدالرحمن .. لم تكن أصواتهم غريبة على الساحة الأفريقية، فقد سبقهم وزاملهم في تأجيج وجدان القارة لنيل استقلالها وحريتها، كبار من القارة الأفريقية ممن ذكرت لك أول كلامي هنا.
لو نظرت إلى الشاعر الفيتوري، وما حمل شعره من مضامين في تلكم السنوات، ستراه يتمثل الهوية العربية الأفريقية للسودان، ذلك الذي أعيته منذ مسيرته بعد الاستقلال، معضلة الانتماء والتباسات الهوية، وتشاكُس أبنائه حولها. ومثلما شكّل تشكيليون بينهم إبراهيم الصلحي وشبرين وابراهيم العوام وأضرابهم، مدرسة تستنطق الهوية والوجدان السوداني، فيما أسماه الغرباء “مدرسة الخرطوم” في فنون الرسم ، فإن الفيتوري كان سباقاً في الإفصاح عن ذلك الوجدان، وتلك الهوية الملتبسة، بما نظم من فصيح الشعر، مدافعاً عن الرجل الأفريقي في القارة السوداء.
نظر بعض النقاد في مصر بغضب إلى ما حسبوه شططاً من الشاعر الفيتوري. لم يكن اللون مما يعدونه معياراً للتمايز، بل كانت العبرة عند بعض “الماركسيين” منهم، هي معيار الظلم الواقع على الطبقة العاملة- أبيضهم وأسودهم- من طرف طبقة رأسمالية قحة. في آخر انعطافاته الفكرية، ضجت أشعاره بصوفية عميقة وإيقاع إنساني حميم. .
(4)
وقف د.”أمين العالم” في مصر منتقداً توجهات الفيتوري تلك، غير أن الفيتوري لم يقف عند محطة اللون فحسب، بل تجاوزها إلى ساحات الوجدان العميق، إلى النزعات الروحانية في القارة السمراء، كما أوضحنا. ذلك ما قرّبه من تيارات التصوّف، تلك التي عهِـدها صبياً في الاسكندرية، وتشرّبها من أبويه ، فكانت معزوفاته “لدرويش متجول”، آية من آيات الشعر الحديث المتدثر بلباس الصوفي الغارق في أذكارهم وطبولهم وآفاقهم.. ولعلّ هذه التحولات في شعره الباهر، هي انعكاس لذلك التنوع العميق الذي تخلقت خلاله موهبته، وحفزه انتماؤه لدارفور ولليبيا لأن يتصل بانتماء قومي أوسع مساحةً، وأعمق معنىً . لم تكن بيروت عند الفيتوري محض محطة لعمل دبلوماسي مما كلفته به الحكومة الليبية ، مثلما لم تكن “الرباط” عنده بعثة دبلوماسية يمثل فيها انتماءه الواسع. ثمة ما هو أكثر وأبعد وأعمق مما قد لا يبين في النظر المعجل. .
(5)
أكتب هذه السطور وأنا ممتليء حزناً، والدمع يشرق بي ، لمّا بلغني نبأ رحيل شاعرنا، تلكم الجمعة التي هيَ أبركَ يومٍ يرحل فيه صوفيّ متبتل. ظللتُ أتابع مع زوجه، السيدة الصابرة “رجات الفيتوري”، والتي رأيت في التزامها وصحبتها للشاعر في السنوات الأخيرة ، ما يرمز لعمق الأواصر التي تربط المغرب العربي مع أهلنا في “دارفور”، بل تحدث عن روابط التاريخ وعن قواسم مشتركة في العقيدة واللسان والعادات ومكونات الثقافة مثل صياغات الشعر الشعبي وإيقاعات الموسيقى، مما يرصده الدارسون، مشتركاً بين أهل السودان وأهل المغرب .
ولقد جلستُ في فضائية سودانية، بعيد رحيله بيوم أحدّث عن رحيل الشاعر، فراعني ما تناهى إلى مسمعي عن جدلٍ نشب بين السفارة السودانية في الرباط وأسرة الشاعر الراحل. مالت السفارة السودانية، في مسلك “شوفيني” لا يماثل مسلك الراحل الانفتاحي، إلى مقترح نقل جثمانه بطائرة رئاسية من الخرطوم ودفنه في السودان، فيما رأت الأرملة المكلومة، وهي التي رافقته لقرابة العشرين عاما، ومن ورائها أهلها الأقربون، أن يوارى الثرى المغربي في مقبرة “الشهداء” في العاصمة الرباط، حسبما أوصى الراحل. أحمد لوزارة الخارجية السودانية منحها جواز سفر دبلوماسي للشاعر الكبير، قالت لي السيدة “رجات الفيتوري” أن عينيه أدمعتا وهو يرى جواز هويته السودانية ويتحسسه بيديه. من لا يُقدّر ذلك..؟ ولكني عجبتُ أن لا تتبيّن السفارة حق أسرته في تحديد أينَ وكيفَ يوارى جثمانه الطاهر، وكل أركان السفارة من مرافقي السفير السوداني، يعلمون رغبة المملكة المغربية في تكريم ستر جثمانه بما يليق، تشييعاً رسمياً تتولاه المملكة لابن من أبنائها ولشاعرٍ من شعراء العربية الأفريقية المتفردين. والأدهى أن لا تستبين السفارة ذلك الوجدان الفسيفسائي عند الشاعر الراحل، وكيف توزّعت هوية الشاعر الفيتوري في أنحاء الوطن الأمّة.
(6)
ذلك أمر يستدعي الأسف والحسرة، ولكن دعني عزيزي القاريء، أستحضِر هنا قول الراحل الشاعر الفطحل اللبناني “سعيد عقل” عن الفيتوري، أنه أصلح من يكون سفيراً للنوايا الحسنة بين كامل بلدان الوطن. ذلك قول يعزّز ميلنا لأن نستصحب في تلك اللحظة المحزنة التي رحل فيها الشاعر، كيف حمل في مسيرته الطويلة، وفي وجدانه تنوّع الأمة، وكيف استبقى ألوانها القزحية في دواخله. عاش الشاعر أعباء انتمائه بجسده الناحل في أرجاء وطنه العربي الأفريقي، شرقاً وغرباً وبكل اتجاهات الأقمار التي زيّن بها شعره ونطقت بها قصائده . لن يعيينا أن نرى في تراب الأمة كلها، قبراً لشاعرٍ اختار أن يتجاوز الحدود الشكلية التي فصلت وجدان الأمة، مثلما اختار أن يتجاوز تأشيرات الدخول إلى كل البلدان، وهو المقيم إقامة المالك أقداره في الوجدان، أميراً للشعر العربي الأفريقي في وطنه القومي .
رحم الله شاعراً سعى لاستنطاق وحدة أمته، وهي في عمق شتاتها، فكادوا يتنازعون حول ترابه الذي سيواريه…
+++++
[email][email protected][/email]

نقلا عن “الوطن” القطرية
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا لك سعادة السفير واشكاس مواراته تعري الذين اشكسوا وما ادركوا الفيتوري لا شعرا ولا فلسفه ذلك ان الملكية صارت مادية ولو جسدا انها محنة مجسدة في السودان وللاسف ان اجيالا ستاتي علي هذا النسق من ضيق الوعي والفكر وهكذا تضيق الامه زمانا ومكانا في الرخم الداعشي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..