نحن في حاجة لوقفة مع الذات..!ا

نحن في حاجة لوقفة مع الذات..!
الطيب الزين
[email protected]
نعم نحن في حاجة لوقفة مع الذات.. لإجراء عملية جرد وحساب لمسيرة الحياة السياسية في بلادنا التي هبت مرتين ثورة، وإنتفاضة على الدكتاتورية العسكرية في طبعتيها اليمينة التقليدية، بقيادة الفريق إبراهيم عبود في 1958 التي حُسبت على حزب الامة، أو على الأقل، هي ليست، ببعيدة عنه، بأي حال من الأحوال، وتجربة الجبهة القومية الإسلامية،1989 التي “أكملت الناقصة” كتيار سياسي متخلف مثل وما زال يمثل إحتياطي الرجعية في البلاد، والنسخة الثانية من الطبعة، وهي تجربة جعفر نميري 1969، التي حسبت، على اليسار، وتحديداً الشيوعيين، أيام المد الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، ما قبل مرحلة اعادة البناء.
انتهت التجربة المحسوبة على اليسار، بإرتمائها كلياً في احضان اليمين المتخلف، بعد أن عجزت عن تقديم حلول حقيقية على البلاد، باستنفادها كل حيلها وشعاراتها، إذ وجدها التيار الاسلامي المتخلف فرصة، للتغلغل، في كل مفاصل الدولة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، الأمر الذي أدى الى شل مسيرة الأنتفاضة، بعد أن أطاح الشعب بنظام مايو، في 1985، ساعدهم في ذلك تلكؤ الحكومات الحزبية، بين احزاب الامة والاتحادي الديمقراطي، والجبهة الاسلامية، التي لم تعمر أكثر من ثلاثة سنوات حتى وثب التيار الاسلامي المتخلف، الى السلطة عبر انقلاب عسكري بلا زاد من قيم، أو رؤية سياسية، أو منهج علمي، يخاطب القضايا التي تفاقمت وأستفحلت خلال التجربتين الدكتاتوريتين السابقتين.
عملية الجرد والحساب هذه تقتضيها المرحلة، لجهة، أن الاوضاع لم تشهد تطوراً أو تحسناً يذكر على إي صعيد من الاصعدة، بعد وثوب التيار الإسلامي المتخلف إلى السلطة، لا سياسياً، لا اقتصادياً ولا امنياً.. العكس من ذلك تماماً، هو الذي حصل. سياسياً أصبح السودان فاقداً لبوصلة العقلانية، التي من شأنها الاستجابة، بغض النظر عن الاختلاف في المنطلقات النظرية، للمصلحة الوطنية، عبر الانفتاح على القوى السياسية السودانية، سيما ذات البرامج المستجيبة لقضايا وهموم الناس اليومية، المتمثلة في ” حلة المُلاح ” ووسائل المواصلات، من سيارات النقل العام، وقطارات، وبواخر، وطائرات، وطرق، وموانئ ومطارات، ومستشفيات بمستلزماتها الصحية، من كوادر، اطباء وممرضين، وموظفين أكفاء، وهكذا الأمر في قطاع الزراعة والصناعة، ألخ .. إن كنا نريد حقاً إنطلاقة حقيقية لعجلة الحياة والاقتصاد في بلادنا ..
ولعل الفشل الذي لازم تجربة الاسلام السياسي ممثلة، بنسخها المختلفة، سواء التقليدية او المحافظة، قد انعكس على حياة الناس، المعيشية والاجتماعية للشعب. اذن اي محاولة جرد، وحساب يقوم بها المواطن السوداني، على اي مستوى كان، سواء كان على مستوى قريته، أو حيه، أو مدينته ، أو شارعه، أو لكمية السعرات الحرارية في مائدته اليومية، تجعله يصل الى نتيجة مفادها الفشل التام .. الفشل لا يحتاج الى نظارات نظر، لرؤيته، أو مناظرات وطق حنك، لشرحه، بل هو بائن ومسموع حتى للأعمى، والاطرش.. وما حالة الانتظار والترقب الممزوجة بالحزن والاسى واليأس،التي تسيطر على المواطنين هذه الايام، إلا واحدة من علامات الفشل الكثيرة، اذ يعيش الجميع حالة من الضياع، حالة من فقدان الامل، حالة من الخوف، حالة من التساؤل .. ماذا سيحدث بعد اعلان انفصال الجنوب عن السودان القديم..؟ واي علامة فشل اخرى اكثر إثارة للإشئمزاز، والسخرية من هذه النتيجة.. فهي ابتداءً توضح حالة تبلد في ضمائر الساسة، وضمور في عقولهم، هذا اذا افترضنا، أن لهم ثمة ضمائر وعقول .. والأكثر اثارة للسخرية، بل وللشفقة عليهم، هي حالة عدم الأعتراف من جانبهم، بالفشل، وبالتالي البحث عن مخارج حقيقية للازمة التي عصفت بنا اكثر من نصف قرن، ومفارقة منطق الخديعة الذي يقول ان الشارع السوداني، معي، في صفي، بل في جيبي، لأن الشعب وبكل أسف غير متاح له إلا ليصغى لعلماء النظام ، أكثر من فرص التعرف على آراء المفكرين والمثقفين، والعلماء العارفين ببواطن الأمور. وأي علماء أؤلئك الذين يصغي لهم الشعب السوداني المغلوب على امره..؟ هل هم علماء الفتة باللحم، علماء السلطان، الذين لا يهمهم سوى ملء بطونهم وجيوبهم .. العلماء المنافقين الذي يدبجون الخطب العصماء في صلاة كل جمعة، تزويرا ودجلاً، في رجل هم يعرفون اكثر من غيرهم، أنه لا يملك ابسط مقومات القيادة او الزعامة!
واي مستقبل زاهر يحلم به الناس، والساحة يسرح ويمرح فيها هذا النوع من الناس ..؟! بارادة الحاكم الذي يجندهم لتغييب وعي الجماهير،لأنه ليس واثقاً ومقتنعاً بما يقول، ولو كان مقتنعاً ببضاعته السياسية الكاسدة لما استنجد بقوم لا يكادون يفقهون من اسرار الكون إلا ترديد اقوال السابقين.
بعد كل ما وصلنا اليه من تدهور وتراجع في مسيرتنا السياسية، ألا يستدعي الأمر، استخدام منهج جديد ، منهج يوقر العلم والعقل، منهج يستند الى النقد والتحليل والاستنتاج، بغرض الوصول الى بؤر الخلل.. لنسأل انفسنا.. أين الخلل..؟ هل الخلل في المجتمع..؟ أم في الساسة ..؟ أم في العلماء..أم الخلل في بنيتنا الثقافية والفكرية..؟ وفي تقديري المتواضع ان الخلل في كل ما ذكر، وبخاصة بنيتنا الثقافية .. لأنها فرخت لنا كل هؤلاء من الدكتاتوريين.. الذى يحار المرء في أية خانة يضعهم فيها ، هل هم السبب، أم النتيجة في كل ما حل ويحل بنا من كوارث، وما وسيحل مستقبلاً، إن لم نقلع عن هذا النوع من تلك الثقافة الجامدة المرددة لاقوال الماضي، والتي تدعو الناس لطاعة أولي الامر.. أي ثقافة هذه..؟! تدعو الناس للاستكانة، وطاعة الدكتاتوريين..؟! الذين كما قلت يحار المرء في اي خانة يضعهم فيها ! هل هم السبب، أم النتيجة.. نحن بصدق في حاجة لوقفة مع الذات، تمنحنا ثقافة تعيننا على مواجهة تحديات العصر في ساحتنا الوطنية ، قبل أن نجود على العالم باختراع يلفت انظاره إلينا..!
الطيب الزين