مبادرة المهندس أبى بكر حامد نور ما لها وما عليها (2)

على الرغم من أن المرء لا يستطيع أن يجزم قاطعاً بأن المبادرة التى أطلقها المهندس أبوبكر حامد نور ، بأنها أفضل الخيارات التى أتيحت لحركة العدل والمساواة خلال مسيرتها التفاوضية ولاسيما إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً وأجرينا إحصاء دقيقاً لتلك الخيارات والفرص التاريخية التى سنحت للحركة وأضاعتها فى منابر التفاوض ، عندما كانت الحركة فى أوج قوتها عدة وعتاداً ، بدءاً بتشاد ومروراً بليبيا وأبوجا وإنتهاءً بالدوحة . ولكن فى ذات الوقت الأمر الذى يجب أن يعترف به كل من حباه الله ذرة من العقل ، إن هذه المبادرة وفق معطيات المرحلة الراهنة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية تمثل أفضل الخيارات ، بل الخيار الوحيد المتاح أمام قيادة حركة العدل والمساواة السودانية فى الظرف الراهن لمعالجة القضايا الرئيسية الملحة التى أفرزتها الحرب ، تلك القضايا التى أضحت تهدد مجتمع دارفور فى قيمه وتقاليده ومُثله ، بل فى وجوده أيضاً ، ذلك إن كانت قيادة الحركة تعتبر نفسها حقاً مسئولة أخلاقياً من هذا الشعب الذى ضحى بالغالى والنفيس فى مناصرتها ودعمها لمدة تزيد عن عقد ونصف من الزمن .
وهنا لا أكون مغالياً أن قلت أن هذه المبادرة بمثابة طوق نجاة دفعته عناية السماء إستجابة لدعوة الحيارى والمنكوبين فى مخيمات اللجوء والنزوح الذين تقطعت بهم السبل بعد أن تخلت عنهم قادة الحركات الموقعين منهم والممانعين على حد سواء ، والذين أثبتوا بالدليل القاطع والبرهان الساطع بأنهم ليسوا أكثر من إنتهازيين يلهثون وراء الوظائف والمناصب ، ولعل تجربة الجبهة الثورية وما دارت فى أروقتها بين قادة مكوناتها من صراعات ومماحكات فاضحة من أجل الإستئثار بمفاصل الجبهة دونما أدنى مراعاة لمصلحة القضية التى يناضلون من أجلها ، أضف لذلك ما حدث فى إحدى مؤتمرات حركة التحرير والعدالة حينما تقاتل قادتها لكماً بالأيدى وركلاً بالسوق والأقدام علناً أمام الملأ ، ونقلتها الفضائيات ومواقع التواصل الإجتماعى بسبب إستئثار بعضهم نصيب بعض من قسمة العطايا والهبات التى جادت بها دولة قطر الشقيقة ، وتلك غيضً من فيض .
وتتمثل تلك القضايا الملحة التى تستوجب معالجتها عبر هذه المبادرة فى الآتى :
1- قضية اللاجئين والنازحين :
تعتبر مشكلة مخيمات اللاجئين والنازحين من أخطر إفرازات الحرب التى دارت بين الحركات المسلحة وجيش الحكومة ، تلك المخيمات التى تحولت تماماً إلى قرى مستدامة خارج حدود الوطن أو على هومش مدن الإقليم وتعج بجملة لا حصر لها من المشاكل أهمها على سبيل المثال لاالحصر :
أ‌- ويعيش الناس فى هذه المخيمات بالحد الأدنى من ضروريات الحياة المعيشية التى تقدمها لهم وكالات الإغاثة الدولية بصورة مهينة فيها الكثير من المساس بالكرامة الإنسانية ، بعد أن فقد الناس ثروتهم الحيوانية التى كانت تمثل جزءاً كبيراً من عماد إقتصاد دارفور .
ب‌- فى هذه المخيمات ضاع مستقبل الكثير من الشباب ، بعضهم غررت بهم الحركات المسلحة وزجت بهم فى محارق الموت فمات الكثير ، أما من سلم من الحركات لم يجد فرصة للإلتحاق بمقاعد الدراسة فأصبحوا ضحايا التشرد والجنوح .
ج- أصبحت هذه المخيمات منفذاً تسللت منها أنشطة الكثير من المنظماات الغربية المشبوهة ، فبثت سمومها فى إنسان دارفور ونالت من عقيدته الإسلامية وقيمه وتقاليده التى كانت مفخرة السودان عامة .
2- قضية المقاتلين العالقين فى دولة الجنوب :

بقية أفراد قوات حركة العدل والمساواة بعد كارثة قوز دونقو الذين سلموا من الموت والأسر ، يتواجدون اليوم بدولة جنوب السودان فى ظروف أشبه بالإقامة الجبرية ، ومعظم هؤلاء ظلوا غائبين عن أسرهم لفترات تصل بعضهم لعشرة سنين ، الأمر الذى ترتب من جراء ذلك تعرض أسر بعضهم للتفكك والإنحلال وابناءهم للتشرد والضياع لغياب الوالد لفترة طويلة ، وفى المقابل نجد أن جل سياسى الحركة أن لم يكونوا كلهم يعيشون فى أوربا وأمريكا بأسرهم منعمين كلاجئين سياسيين فى ظروف ربما أفضل بكثير مما لو كانوا فى السودان ، لاتربطهم أدنى صلة بهؤلاء الجنود . إذن أمام هذا المشهد المأساوى والمفارقة البينة بين هؤلاء الذين ضحوا بكل شئ ، وبين هؤلاء الذين لم يفقدوا أى شئ ، ما المبرر الذى يبقي هؤلاء الجنود لمزيد من الوقت فى دولة جنوب السودان أو فى أى مكان آخر إلا إذا قصد المزيد من الإذلال والمعاناة والضياع طالما هناك فرصة سانحة لإيجاد تسوية ممكنة .
علاوة على الكم الهائل من المرضى والجرحى والمعاقين الذين تضرروا فى ميادين القتال هم بحاجة ملحة للعلاج لا أحد يلتفت إليهم أو يقدم لهم أدنى المساعدة فصار بعضهم عالة على ذويهم بينما البعض الآخر يعانى ظروف المرض أو الإعاقة وهم مشردين عالقين فى دول أخرى .
أما القضايا الأخرى وخاصة تلك التى تتعلق بالحكم والهوية ..وهلمجرا فهى قضايا سودانية عامة تخص جميع القوى السياسية والحركات المسلحة والمجتمع المدنى ، لايستطيع طرف كائن من يكون أن يفرض رؤيته أو يكون وصياً على الآخرين .

هنا أنا لا أنكر ولا أحد يستطيع أن ينكر إلا من كان مكابراً ، بأن جل هذه القضايا والمشكلات التى أشرنا إليها ، إن لم تكن كلها مجرد نتائج ومترتبات عابرة أفرزتها الحرب بين الحكومة والحركات المسلحة فى دارفور ، ولا تمثل جوهر القضايا والمطالب الرئيسة التى نادت بها حركة العدل والمساواة والشعارات الرنانة التى هتفت بها مناصروها ، ودغدغت عواطف الجماهير ودفعت فى سبيلها أرتالاً من الشهداء وأسالت أنهراً من الدماء والدموع ، تلك حقيققة لا مراء فيها كما سبق أن أشرت ، ولكن ليس اليوم كالأمس ، ولا كل ما يتمناه المرء مدركه ، فخلال هذه الفترة أى منذ تأسيس الحركة وإطلاق تلك الشعارات إلى تاريخ يومنا هذا ، والتى تصل إلى نحو عقد ونصف عقد من الزمان ، جرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وحدثت متغيرات عدة على الصعيد المحلى والإقليمى والدولى ، وأضاعت القيادة الساسية للحركة كل الفرص النادرة التى تواتت لديها عندما كانت تملك الإرادة وزمام المبادرة فى ميادين القتال ومنابر التفاوض ، بل أكثر من كل ذلك طُراً وهو بيت القصيد! لم تعد حركة العدل والمساواة نفسها كما كانت ، وكما ألفها الجميع ، بتألقها ووهجها وعنفوانها ، فى صلابة مقاتليها وتماسك مؤسساتها السياسية والعسكرية ، وفى إعلامها الذى كان ملء السمع والبصر بحضوره الماثل وضجيجه الذى نشر فى قلوب الخصوم رعباً وهلعاً ، فاليوم قد تغير كل شئ فى الحركة إلا إسمها فقط ، بقى كما هو لم يطاله رياح التغيير( حركة العدل والمساواة السودانية ). عانت إنشقاقات وإنشطارات كبيرة ، دخلت فى تحالفات ومحاور خرجت منها صفر اليدين ، إنشق منها رموز وقيادات عسكرية وسياسية وشعبية مؤسِسة ، جرى فى السودان مؤتمر الحوار الوطنى ، الذى مهما تحفظنا فى شكله وطريقة إعداده وتحضيره ومهما غابت عن مشاركته بعض الكيانات والقوى السياسية التاريخية المعتبرة فى الساحة السودانية ، كحزب الأمة القومى والحزب الشيوعى السودانى ، مهما كان ذلك لايستطيع أحد كائن من يكون أن يهمل مخرجات أجمع عليها هذا الكم الهائل من أهل السودان بأحزابه ومؤسسات المجمتع المدنى فيه مهما كانت مقاصدهم المبطنة .
إذن أمام كل هذه التغيرات والتحولات التى حدثت فى محيط الحركة وفى بنيتها وتركيبتها وأدائها ، أليس حرياً بها أن تقف وقفة تأمل وتقييم لمجمل القضايا ، وإجراء مراجعات شاملة فى سياساتها ومقاصدها ومن ثم النظر إلى تلك القضايا والسياسات مجدداً بصورتها الحقيقية وبحجمها الطبيعى بعقلية الحاضر لا التعلق بأهداب الماضى أو التخفى بأستار التاريخ . فالتاريخ والأمجاد الغابرة لا تقاتل عدواً ولا تحقق نصراً ، ومن ثم لا تصنع حاضراً ولا تبنى مستقبلاً ، مهما كانت تلك الأمجاد الغابرة أو ذلك التاريخ .
أما عن إختيار الرئيس إدريس ديبى كضامن لهذه المبادرة ووسيط بين الطرفين ، كان قمة التوفيق والعقلانية ، لقربه اللصيق للطرفين ، ولحضوره الفاعل وفهمه العميق لجذور المشكلة وتفاصيلها الدقيقة ، فقد إحتضنت بلاده أولى مبادرات الحل فى أبشه وإنجمينا ، وحتى بعد إنتقال منبر التفاوض خارج تشاد ظل حاضراً بفعالية ، كما أن بلاده ظلت تأوى نحو ثلاثمائة ألف لاجئ من دارفور فى إثنى عشر مخيم فى الأراضى التشادية منذ أكثر من عقد ونصف عقد من الزمان يتقاسمون مع الشعب التشادى أسباب الحياة وسبل العيش ، إذا أضفنا لكل هذا وذاك تجربة الرئيس ديبى وخبرته التراكمية فى التعاطى مع هكذا القضايا . كل هذه العوامل والأسباب مجتمعة علاوة على تأثر بلاده المباشر بمشكلة دارفور فى أمنه وإستقراره للتجاور الجغرافى والتداخل الإثنى ، تجعله أكثر القادة أهلية وكفاءة للتوسط فى هذه القضية لإيجاد صيغة حل منصف يرضى الطرفين .
أما هؤلاء المتفرجون القابعون فوق بروج عاجية ، وينعتون هذه المبادرة بأنها إستسلام وردة عن مبادئ الحركة ، وعن مبادرها بالخيانة والتخاذل أسألهم برب السماء مالبديل الممكن الذى يقدمونه لحل المشكلة فى الظرف الراهن أفضل من هذه المبادرة ، أجزم قاطعاً بأنهم لايملكون بديلاً ، ولو أنهم تكرمو وإقتطعوا جزءا يسيرا من وقتهم الغالى وزاروا واحدا من مخيمات اللجوء فى شرقى تشاد لمرة واحدة فقط ، وشاهدوا ما ظللت أشاهده بأم عينى فى زياراتى المتكررة لما ترددوا لحظة واحدة فى تبنى هذه المبادرة بل وبصموا عليها بالعشر وعضوا عليها بالنواجز .
وأخيراً أعود أقول أن السياسة فن التعاطى مع الممكن ، وليس التخندق خلف متاريس التاريخ والبكاء على اللبن المسكوب .
ألا هل بلغت اللهم فأشهد . ألا هل بلغّت اللهم فأشهد .
نورين مناوى برشم

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..