دفاعا عن الشطرنج وغاندي والنقد وشعبنا

انتهينا في المقال السابق إلى سؤال شائك وغير بسيط على الرغم من أنه يتزيا ظاهريا بصيغة أسئلة اللا- نعم . ولعمرك عزيزي القارئ الكريم، لو كان في مقدورنا أن نجيب على أي سؤال يبدأ بـ (هل) بإحدى الإجابتين القاطعتين نعم أو لا لهان الكثير جدا من الشئون الفادحة.
انتهينا في المقال السابق إلى السؤال الصعب : هل يليق أن نصب على هذا المكون السياسي العريض لحزب عبد العزيز العميري والمتمثل في فسيفساء الكيانات السياسية والثورية المعارضة والمجموعات الشبابية وحتى المسلحة وإلخ والتي افترضنا فيها وفي مجمل المنتمين إليها الدخول في إطار وأجواء (لو أعيش زول ليهو قيمة أسعد الناس بي وجودي) شيئا من بهار المحبة الناقدة أو النقد الودود؟
بداية يمكن لقائل أن يقول أن لا شيء ولا أحد ولا فعل ولا نشاط يرتفع فوق النقد وهذا صحيح مائة بالمائة بيد أن رادّا ً قد يرد بأنه لا يليق ولا يصح ولا يفيد نقد الطبيب مثلا ً أثناء قيامه بعمليته الجراحية وهذا صحيح مائة بالمائة أيضا ً.
وربما يحتج الأول ماذا لو لوحظ أن الطبيب يقوم بهذه العملية وهو ثمل أو نصف نائم أو إلخ ؟ وعندئذ قد يذهب الرادُّ إلى أن ليست دوافع النقد موضوعية في كل الأحوال بداهة أننا في حقل يعج ? بطبيعته – بالاستقطاب والاستقطاب المضاد وأن ظروف وملابسات العمل الثوري تقتضي أن ليس كل ما يعرف يقال في أي لحظة وبأي طريقة وأمام أي ملأ وإلخ.
وفي حالتنا هذه فإن الأمر أشد تعقيدا من ذلك بكثير بحيث تظل دعاوي النقد الموضوعي البريء محفوفة بمخاطر ومزالق جمة إرسالا واستقبالا. بحيث يصبح من العسير أن تضمن سلامة نية استقبال النقد حتى وإن ضمنت سلامة نية إرساله وكلاهما يكاد يكون أعز من بيضة الديك والله المستعان.
إزاء ذلك التعقيد الماثل فإننا مضطرون للبحث عن مفهوم ديناميكي لنقدنا للكيانات والأنشطة الثورية والسياسية السودانية بدلا من ذلك المفهوم الساكن الجامد الذي يتمحرك بنا في هذه المستنقعات البعيدة عن الفعل والانتاج السياسي والثوري المباشر إن جازت التسمية شبه المرتجلة هذه.
ينسب للمهاتما غاندي قوله أنه لم يلعب الشطرنج قط ، أو أنه يدين هذه اللعبة لأنها تكرس للطغيان بحكم أن كل الجنود ومن فوقهم يتعين عليهم أن يموتوا فداء ملك واحد. وغاندي الذي أرسى بسلوكه ونظرياته وحياته كلها أسس حرب اللاعنف والمقاومة السلمية كما لم يفعل أحد قبله ولا بعده يقول قوله هذا باتساق مع مجمل فلسفته التي تدين الحرب والطغيان كليهما. على أننا ربما نستطيع عقد مصالحة بين الشطرنج وغاندي لو أعدنا تعريف الملك بأنه تجسيد لمصالح ومطالب وحقوق الجماهير في الحرية والكفاية والعدل والكرامة بينما تمثل قطع الرقعة الأخرى مجموعات المدافعين والمقاومين.
لكننا سنصطدم مرة أخرى بتناقض يتمثل في أن أهداف المقاومة الذكية والمخلصة عادة ما تكون تحقيق هذه المطالب والمصالح والحقوق بأقل خسارة ممكنة. النزوع إلى تضحيات كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة، فضلا عن الأرواح، يناقض جوهر فلسفة التغيير باستخدام الوسائل اللاعنفية على وجه المحبة والخصوص.
صحيح أنه يتعين على المقاومين السلميين أن يواجهوا الموت باستمرار أثناء عملهم المفضي إلى تلك الانتصارات، لكن هذا العمل يفرض عليهم أيضا السعي الحثيث لتقليل الخسائر في الأرواح وفي غيرها قدر الإمكان. وإن كنت ستضحي فعلا بأعداد كبيرة من البشر فلأجل من تقاتل أصلا؟ وهذا يتناقض بدوره مع كثير من تكتيكات واستراتيجيات لعبة الشطرنج التي تفضل التضحية بأكبر عدد ممكن من القطع لتحقيق النصر وتجنب الهزيمة .
وسواء كان بمقدورنا المضي قدما في تحرير التناقضات بين فلسفة وتكتيكات واستراتيجيات الشطرنج وفلسفة وتكتيكات واستراتيجيات المقاومة والتغيير اللاعنفيين أو لم يكن، فإننا لن نستطيع التغافل عن سمات في لعبة الشطرنج يفيد تشربها والاهتداء بها كثيرا في إنجاح أي تجربة لمقاومة سلمية أو تغيير لاعنفي.
من أهم هذه السمات ? موضوعنا؛ عودا على بدء – ما أشار إليه بعض المحللين الذين شددوا في المطالبة بتعميم تدريس الشطرنج للأطفال في مراحل التعليم الأساسية وعززوا مطالبهم هذه بالدراسات والتجارب التي أكدت أن هذا التدريس ينمي لدى التلاميذ ملكة التفكير النقدي البنّاء. والمقصود هنا – كما عساه يقودنا التامل المتوسط ? ليس ذلك النقد الذي يكتفي بالمدح والذم والتوصيف بقدر ما يقصد به نقد وتحليل البدائل التكتيكية والاستراتيجية والمفاضلة بينها لاختيار أكثرها اختصارا للطريق المضمون نحو الهدف المنشود.
هذا هو بالضبط النقد الذي نريده حيال كياناتنا وأنشطتنا المدنية والسياسية والثورية وهو نقد لا يكون أكبر همه ولا مبلغ علمه (مَن ؟) بقدر ما يكون (ماذا) وليس يعنيه إدانة أو اتهام أو تبرئة أو إلخ بقدر ما يعنيه نظريا وعمليا معا ً (ماذا لدينا وماذا يمكننا وماذا يلزمنا أفضل ” وأقصر وأضمن ” من هذه الكينونة وهذا الترتيب وهذا السلوك وهذا النهج لإقامة دولة يستحقها شعبنا وتتحقق عندها مصالحه ومطالبه الحقيقية الملموسة المباشرة؟)
……. نواصل
[email][email protected][/email]