أخبار السودان

رسائل من كجبار

د. عثمان حسن عثمان

كان يوم الثاني من يونيو الأسبوع المنصرم يوما استثنائياً في منطقة كجبار إذ استنفر النوبيون جموعهم مستصحبين معهم تأييد جموع الشعب السوداني الأبي متمثلاً في الأحزاب القومية التي شاركت في التأبين و اصطفوا صفاً واحداً و سداً منيعاً ضد السد المزمع قيامه على أنقاض حضارة بشرية تمتد في التاريخ لآلاف السنين. كثيراً ما نسمع أحدهم يتساءل لماذا لا نأخذ برأي الفئة المستهدفة بالإغراق و نستفتيهم عن رأيهم و أتت الإجابة داوية من الجموع الذين هبوا لتلبية نداء لجان المناهضة و زحفوا زرافاتٍ و وحداناً و من كل فجٍ و هم يهتفون لا للسدود و بلغة نوبية مبينة “إركونقا فجامو” و التي تعني بلغة القرآن لن نبيع أرضنا فهل بعد هذا البيان العملي و الصورة الصادقة من يشك في صمود أهلنا و تقديسهم لأرض الأجداد و استعدادهم للموت دفاعاً عنها؟ ألا يكفي هذا المهرجان الرافض للسدود للتفكير في صرف النظر عنها و البحث عن البدائل المتاحة دون إضاعة الوقت و دون السعي لإشعال نار الحرب في منطقة عُرفت عبر تاريخها الضارب في عمق الزمن بالهدوء و عُرف أهلها بالحلم و المثل العربي يحذرنا من غضبة الحليم؟
بعث المجتمعون في كجبار تأبيناً لشهدائهم رسائل عديدة. أولها أن دماء شهداء كجبار لن تذهب هدراً و أن يوم القصاص لآت إن عاجلاً أو آجلاً و أن لا بديل للقصاص إلا القصاص. ثانياٌ و كما جاء في خطاب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ النوبة و مناهضة السدود “قضية سدود الدمار هي قضية الوطن و إن كان النوبيون يسعون إلى منع إقامتها الآن بجهد كل فرد منهم، فإنها ليست قضية نوبية فحسب، بل هي قضية كل سوداني حر لم تتلوث يده بدماء الأبرياء و لا نبت جسده من سحت الفساد.” و الرسالة الثالثة أن النوبيين أجمعوا كلمتهم إلا من شذ منهم أن لا سدود ستقام في أرض النوبة و هم على استعداد لدفع أغلى ما يملكون و هي أرواحهم فداءاً و إحتفاؤهم بشهدائهم للسنة التاسعة على التوالي يؤكد ما أقول.
التظاهرة التي قامت في كجبار و التي تداعى لها سائر النوبيين من جميع أنحاء السودان و متابعة كل النوبيين و الوطنيين لها عبر أثير إذاعة “كدنتكار” تؤكد أن النوبيين الذين وُلدوا خارج الديار النوبية أكثر تمسكاً بأرض النوبة ربما أكثر ممن وُلدوا فيها كيف لا و نوبيو المهجر كانوا أكثر حضوراً و متابعة ودموعهم على مآقيهم ليس خوفاً أو رهبة بل حباً و شوقاً لأمهم النوبة أرض الأجداد و التراث.
الرسالة الأخيرة هي أننا لا نمل التكرار و القول أن رفضنا للسدود مسألة حياة أو موت و ليس غطاءاً أو مناورة سياسية كما تزعم الأقلام المأجورة التي تارة تتهم هذا الحزب أو ذاك بالوقوف خلف النوبيين لدفعهم للعصيان أو للرفض السياسي تحت غطاء السدود. أصحاب تلك الأقلام لعمري لا يعلمون عن السودانيين شيئاً. فلسنا من يسير خلف من يخدعنا دون تفكبر لا لسبب سوى أننا شعب تمتد جذوره في عمق التاريخ و لا عاش من يستخدمنا لتحقيق مآربه الحزبية بل و لن يتجرأ حزب أن يفعل ذلك. الأحزاب التي وقفت معنا مشكورة فعلت ذلك لأنها آمنت بقضيتنا ووقفت خلفنا لتساندنا و تسير من خلفنا و ليس لتقودنا فنحن من نقود و لن ننقاد. نحن ندافع عن أرضنا دفاعاً عن سوداننا و دفاعا عن التراث السوداني و عن الحضارة السودانية لأننا نؤمن إيماناً لا يشوبه شك أن الحضارة النوبية حضارة سودانية نبتت في التربة السودانية وواجب كل سوداني حر أن يتداعى للدفاع عنها و طمر هذه الحضارة بمياه السدود ضياع لتاريخنا و عندئذ سنكون كالمنبت لا أرضاً قطع و لاظهراً أبقى. و نكرر دون ملل أيضاً أن لا فائدة تُرتجى من هذه السدود من الناحية الإقتصادية و لم نسمع لا في حديث الأولين و لا في أساطيرهم أن حكومة أغرقت منطقة بغرض تنميتها فالإغراق عقوبة و ليس تنمية كما تحدثنا بذلك قصص القرآن التي وُصفت بأحسن القصص فهل تمت تنمية النوبة المصرية بعد السد العالي و هل قامت تنمية في منطقة الحماداب بعد السد. و سؤال آخر بديهي هل سد “مروي” حل مشكلة الكهرباء في السودان؟ و هل حل السد العالي مشكلة الكهرباء في مصر؟ إن كنا عرباً كما أُريد لنا أن نكون فالعرب تقول “العاقل من اتعظ بغيره” فها نحن نريد أن نتعظ بغيرنا و نرفض السدود.
من كل ما سبق نستخلص أن كجبار أرسلت رسائل لا لبس فيها و لا غموض أن سدود دال و كجبار و شريك لن تقوم و أن على ولاة الأمر التفكير في بدائل أخرى نظيفة كالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح.
التحية لكل من تكبد مشاق السفر لحضور تأبين شهداء كدنتكار و الرحمة و المغفرة للشهداء الذين استرخصوا دماءهم فداءاً لأرض الأجداد و التجلة و الإحترام للجان المناهضة التي تساهر دفاعاً عن التراث و عن العِرض و الأرض و التحية لكل سوداني حرٍ أبي يرفض الظلم و يقاوم الطغاة.

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..