العصا لمن عصا: محمد علي.. أحلام مبعثرة بين العكاكيز

سنجة – محمدعبدالباقي

وحده كان يحلم ويصدق أحلامه، ولماذا يحرم نفسه من الحلم؟ والسودان هو البلد الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي تنتقل فيه الأحلام والأماني المؤجلة إلى الورثة، وتظل تتناقل من وريث لآخر، إلى أن يجهز عليها الوريث الخامس عشر على الأقل، ويحولها لنوع آخر من الأحلام مواكبة لعصره دون مراعاة لشعور أسلافه الذين بذروا فيه تلك البذرة الطيبة!!

نعم، كان حلم بائع العكاكيز (محمد علي) الذي تجاوز السبعين عاماً من عمره أن يُعبد الطريق الرابط بين الدالي والمزموم وقرى أخرى استحضر أسماؤها الواحدة تلو الأخرى، وبين مدينة سنجة مذكراً بوعد رئيس الجمهورية الذي قطعه للمواطنين بولاية سنار في يوم تدشين حملته الانتخابية بأن الطريق المذكور سوف تتم سفلتته قريباً، ولهذا قضى (محمد علي) يومه تحت شجرته الأثيرة بوسط سوق سنجة في انتظار سفلتة الطريق المذكور ليتمكن – بحسب وصفه – من بيع العكاكيز التي يمتلكها في أسواق تلك المناطق.

دعاء وابتهال

مواطنون كُثر ذهبوا لسماع خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه في ذلك اليوم داخل أستاد سنجة الأولمبي، الرئيس تحدث بوضوح عن مشاريع سوف تنفذ داخل الولاية خلال الفترة القريبة المقبلة، ضمنها إنشاء طريق أسفلت يربط بين جنوب وغرب الولاية بعاصمتها مدينة سنجة، (محمد علي) وحده لم يذهب للحشد الرئاسي لأسباب لم يسأله عنها أحد وفقاً للقاعدة الذهبية التي تقول “إن الناس أحرار في توجيهاتهم السياسية”، وبما أن الجميع في ذلك اليوم احترم رغبة (محمد علي) بعدم الذهاب للمشاركة في تدشين الحملة الانتخابية لمرشح الموتمر الوطني لكن (محمد علي) لم يحترم إرادة الآخرين وأصر على معرفة ملخص مهم لما حواه الخطاب الرئاسي واشترط على محدثه أن لا يحدثه مطلقاً عن الأشياء التي لا تهمه، وكلما علم (محمد علي) بوعد الرئيس بتنفيذ مشروع بعينه كان يحرك رأسه للأمام وللخلف دلالة على الموافقة والمباركة المسبقة، لكن بمجرد علمه أن هنالك طريق أسفلت يربط بين عدد من المناطق بجنوب وغرب الولاية سوف ينفذ قريباً تهللت أساريره، وانخرط في دعاء مُلح بأن يسهل الله بتشيد الطريق المذكور في أسرع وقت حتى يرتاح من حمل العكاكيز على كتفه أثناء تجواله بين أسواق تلك المنطقة.

فرح حقيقي:

ابتهاج (محمد علي) بوعد الرئيس بتشيد طريق أسفلت لم يكن مصطنعاً كما كان يعتقد عدد من الحضور، إنما كان ابتهاجاً حقيقياً، برره بقوله: أنه ظل يحمل بضاعته المتمثلة في العكاكيز على كتفه أو على عربة تسير على طريق ترابي لمسافات طويلة حتى يستطيع الوصول للأسواق المعينة. وفي الحالتين، فإنه يعاني مصاعب جمة ومتاعب عديدة أقلها تعرضه لعدد من المرات لكسر في أضلعه بسبب الحمولة الثقيلة أو بسبب اهتزاز المركبة التي كان يستغلها على الطريق الترابي، وتوقع أنه سيجلب كميات كبيرة من العكاكيز في المرات القادمة، إذا تم إنشاء طريق الأسفلت لأنه سيقوم بتسويقها في المناطق البعيدة التي لم يكن يستطيع الوصول إليها في الوقت الحالي بسبب وعورة الطريق، وارتفاع تكلفة الترحيل في ذات الوقت. وهمس (محمد علي) في أذن محدثه بأن الرئيس لو أوفى بوعده الذي قطعه ونفذ الطريق المذكور فإن هذا وحده يكفيه لنيل أصوات مواطنو الولاية بأكملها، نسبة لحاجته هو شخصياً وآخرين كثر مثله لا يستطيعون الوصول لجنوب وغرب الولاية في الوقت الحالي لصعوبة وسائل الحركة لشخص في مثل عمره حيث تجاوز السبعين عاماً.

معاناة ضاربة:

عمر مديد أنفقه (محمد علي) القادم من شرق السودان في تجارة العكاكيز، فهو يأتي بها من الحدود الإثيوبية، ليقوم بعرضها في أسواق ولاية سنار وخاصة مدينة سنجة التي يتسوق فيها الرعاة الذين يقطنون في فترة الصيف بالقرب منها. ويصف (محمد علي) معاناة في نقل العكاكيز من الحدود الأثيوبية إلى سنجة المرهقة بالمرة، لأنه يضطر لأكثر من مرة لحملها بنفسه لعدم وجود حمالين وهذا يسبب له جروح غائرة تنتج عن (السرايح) التي تخرج منها وتغور في جسده. وأرجع (محمد علي) فرحته لإنشاء الطريق إلى أن الناس في المدينة لا يقبلون على شراء بضاعته كما يفعل أهل الريف، ولذا يفضل الأسواق الريفية على أسواق المدينة التي كثيراً ما اضطر إلى بيع العكاز فيها بأقل من خمسين جنيهاً في الوقت الذي يبلغ رأس ماله ثمانين جنيهاً

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..