تلك أيامٌ زاهيات: إلى الصديق العزيز السفير علي حمد إبراهيم .

في تذكر الفنان الراحل هاشم ميرغني وددت أن أعيد نشر مقالٍ قديم نشر بتاريخ 2005 وقبيل وفاته، لا أكف عن الحزن على ذلك الصديق، وكأنه رحل البارحة.
جمال
(1)
تلك أيام زاهيات مشرقات، قبالة شواطيء فيكتوريا.. عند كمبالا، حين عمدنا تآخينا، أيها الصديق البعيد. تكتسب البقاع الساحرة الخلابة، مثل كمبالا، خلوداً قدسياً في الذاكرة، لا تبرحها وإن توالت عليها عاديات الدهر، أو أنشبت هزّات السياسة أظفارها، حتى ليكاد الذي بين السودان ويوغندا، أن يكون الظِهار الذي يقطع الخيط بين الزوجين، لا يلتقيان. لكمبالا جرْس قوي، وعندي لحضورها دويّ في الوجدان، حاضر وباهر. كان القرن يودع سبعيناته في تؤدة ودِعة، وكنا أيفاعاً، نحيا اللحظة بطولٍ لا يقاس، وباندفاع دونه دفق السيول في أودية البطانة..

(2)
ثم جئت إلينا أيّها الصديق، مرتفقا عروسك المحروسة بالخفر، وأجنحة الفرح ترفرف جزلى حولكما ، ملبياً دعوة صديقنا المشترك هاشم عثمان أبورنات، المقيم معنا في لؤلؤة القارة: كمبالا. جئتما إلينا منحدرين من أم درماننا الحبيبة، و أنت ابنها البار.. بساكنيها، من القلعة إلى الفتيحاب. سبحتما عكس تيار “النيل الأبيض”، طيراناً عبر البحيرات الصغيرة. إقليم السدود. الأنهار والوديان. سفراً طويلا بأجنحة مشتاقة إلى “عنتيبي ?.. إلى النيل في أصوله وينابيعه. إلى القداسة المجلوّة عند “جبال القمر” ومرتفعات ” راونزوري”، والرّحم القدسيّ عند “جينجا”.
هاشم ميرغني. جئت إلينا، فكنتَ وعد الفرح السخيّ، وكنت ريحانة أيامنا المشبعة برحيق الغابة وبوح الاستواء. توضأنا جميعنا واغتسلنا بمياه البحيرات القدسية.. يوم أن صدحتَ بالطرب الحقيق، وصوتك النديّ، ينسرب في ليل كمبالا، انسراب الضوء رويداً إلى أحيائها الوادعة.. إلى تلالها العشرة، ما بين “نكاسيرو” و” بوقولوبي” و”ناميريمبي” و “مينقو”، وتلك الحدائق الغنّاء المُترعة ببذخِ الغابات الاستوائية، المفروشة بسجاجيد العشب البهيّ، المأهولة بأكواخ الموز وأثواب البرتقال الندي، وثمر الباباي في أكمل نضوجه.
(3)
هاشم ميرغني. .
جئتنا، تحمل في حناياك الودّ رقيقا، والعود البغدادي بأوتاره الدامعة، أسير أصابعك المبدعة، وأنت المعماريّ الذّرب الذي ينجز التصاميم ويبرع في الرّسم وتلوين الخط وتزيينه.. حماك المولى من أعين الحاسديك. قلة هم من يعرفون عنك هذا الحذق الإضافي. أقول: “إضافي”، لأن الأصل فيك هو الصوت الصادح، صوت زرياب: قويّ و حاني، صخّاب مُرعد وهامس ودود، لكنه صوت بالحزن الممضّ مشحون.. وبالطرب الدامع ..
قال الصديق السفير علي حمد ابراهيم -وكان شيخاً علينا، مجازاً، فقد كان في شرخ شبابه-أن نقتسمك أيها الصديق بيننا، قسمة غير ضيزى.. فتفرق الطرب منك بيننا، و انداح في أحياء كمبالا جميعها ..
(4)
في ضاحية “بوقولوبي” ، في دار هاشم أبو رنّات، كانت جلستنا ذات مساء مضمخ بالطيب و الندى، وفي الحديقة الزاهية المطلة على الوادي، أطربتنا أيها الرائع. قضينا سهرة عربية فُصحى .. كاملة، أنشدتنا فيها من عيون الشعر العربي ممّا انتقيتَ بحسّ الفنان وذوق المحبّ من: المتنبي. ابن زيدون. والكثيرين ممّن هربوا من ذاكرتي الآفلة. عطّـرت بصوتك أشعارهم، ونثرتها درراً تتلألأ بين أشجار الأكاسيا والسرو، وقد تكاثرت حولنا وأورقت أغصانها واشرأبتْ إلى صوتك البديع، فارتوتْ ونمتْ.. وصحا الوردُ في أكمامه ..
ثم عدنا بعد يومين، إلى أمسية غائمة، والغيم في كمبالا بهرجٌ وسلطان. كنا مع السفير علي حمد ابراهيم، في بيت السودان الرّحب المعلق فــوق تلّ “كولولو”. كان الدفء أم درمانياً، زيّنته بحنوّها ورعايتها الرائعة عواطف -أم حافظ -زوج السفير علي حمد ابراهيم، فطرب الصالون العامر كله والحاضرون، بأشعار الحقيبة، بِـ”عتيقها “، بِـ”سيدها”، و بـ”عبّاديها”.. وبـ “أبي صلاحها”، وبـِ” مسّاحها “..
(5)
أيّها الصديق . . تلك ليلة تساقينا فيها على يديك، ما جادتْ به دنان “الحقيبة” من :..
” زاد أذاي يا صــاحي .. ”
فمن ارتوى . . . ؟
يطرب هاشم أبورنات، ثم عبد الله سعيد، على خجل ٍ وتردّد. أما عبدالله “شايقي” الأمدرماني العتيد، القادم من” شارع الفيل”، فقد دلف إلى عالم آخر، أفلتت فيه رصانته وغادره الصبر، وتملكه خدر “الحقيبة”، حتى سكنت روحه، مثل صوفي متبتل هائم، في سماءٍ بعيدة . .
الليلة الثالثة لهاشم ميرغني، كانت من نصيبي، في ” نكاسيرو” وسط كمبالا. ابتعنا “كوندورو” – والـ” كوندورو” في لغة الباقندا، هو الحَمَل- وأولمنا بالشواءات في حديقة منزلي المتواضع في تلك البناية الوادعة خلف مبنى المؤتمرات، في قلب كمبــالا. طربنا بكَ ومعك أيها الصديق، وحلقنا عالياً في سموات بعيدة من الغناء الحقيقي بغزليات عزمي أحمد خليل، حبيبك في الغربة البعيدة. عندها يهلك صديقي عبدالله “شايقي” هلاكاً كاملا، ويفنى مع:
“في زول هناك.. قولة سلام تبقالو روح. . .”

(6)
يا للذكرى التي علقتْ بالذاكرة ، ويا لليالي الناصعات بالبراءة والدفء وصادق الشدو، ونحن نغتسل بالمطر الاستوائي ، وبمياه البحيرات القدسية عند الينابيع ، عند الرحم الذي يخرج منه النيل ، قبل أن ينسرب شمالا إلينا.. لا يسقى الأرض البكر فحسب، بل هو سقاية للوجدان البكر أيضا، وريا للقلوب وإشباع للروح المعنّى بزخّات من دفق الخلود.
البقاء لطيب الذكريات، أيها الصديق، فإن توزّعتنا البقاع شمالاً وجنوبا، شرقاً وغربا، ستظلّ أبدا، هي الخيط الذي يشدّنا ويعطي التآخي قيمته التي لا تبلى، ويعطي الانتماء إلى هذه الأرض الحانية، تجذّراً مستداما ..
أيّها الشفيف الفنان: هاشم ميرغني.. ندعو الله أن يتقبلك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. ولقد رحلت عنا وعن دنيانا، لكن صوتك باقٍ هنا بدفئه وصدقه وإطرابه.
++++
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا سعادة السفير امتعتني متعة فارقتها سنين عددا الا من شذراتك ارجعتني لام در أمان وعهد الصبا الزاخر فيها والباذخ بالالق المستدام من تهاجن الوطن شكرا فقد اعت الي وجداننا ما تساقط من ورقه والقه فانسبت شلالا من الدموع من غير ما تحس بيا ) شكرا لك ارجعتني للوطن وام در وانا الغريب منذ 4عقود طردنا بليل المسغبات لوطن لا يستحق ما يحدث انها محنة لا اعرف وطنا مثل وطننا بما يملك من موارد وبشر قد عاشها كيف الخلاص من هذا القفر والفقر الوجداني الذي لازمنا قرابة 3عقود وما بقي في العمر شيئا الا من امراض وكهولة تتمني التوسد نعم التوسد فقط هناك وهو اقل ما يمكن وفيما اري هيهات !!!

  2. شكرا سعادة السفير امتعتني متعة فارقتها سنين عددا الا من شذراتك ارجعتني لام در أمان وعهد الصبا الزاخر فيها والباذخ بالالق المستدام من تهاجن الوطن شكرا فقد اعت الي وجداننا ما تساقط من ورقه والقه فانسبت شلالا من الدموع من غير ما تحس بيا ) شكرا لك ارجعتني للوطن وام در وانا الغريب منذ 4عقود طردنا بليل المسغبات لوطن لا يستحق ما يحدث انها محنة لا اعرف وطنا مثل وطننا بما يملك من موارد وبشر قد عاشها كيف الخلاص من هذا القفر والفقر الوجداني الذي لازمنا قرابة 3عقود وما بقي في العمر شيئا الا من امراض وكهولة تتمني التوسد نعم التوسد فقط هناك وهو اقل ما يمكن وفيما اري هيهات !!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..