مقالات سياسية

الأمير سليمان بن إنقر عبد الله

الأمير سليمان بن إنقر عبد الله
Emir Suleyman ibn Inger Abduallah
أندرو بروكت Andrew Brocket
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقال نشر بمجلة “السودان في مذكرات ومدونات Sudan Notes and Records ” في عددها رقم 51 الصادر في عام 1970م، عن الأمير المجري الأصل سليمان بن إنقر عبد الله.
وقد نشر باحثان قبل هذا المقال مقالين في نفس المجلة عن ذات الرجل (الذي يسمى أيضا سليمان إنقر وسليمان حريقة) ، وذهب أحداهما إلى أن ذلك “الأمير” لا يعدو أن يكون محتالا دجالا ليس إلا، ولم يسبق له العمل في جيش المهدية قط.
انظر
Wells, G. W. Sudan Notes & Records, 20, 1937.
Sanderson, G. N. Sudan Notes & Records, 35, 1954
الشكر موصول لبروفيسور عبد الله جلاب لمدي بالمقال.
_______ _______ _____________ _____________

لقد سبق لهذه المجلة أن نشرت من قبل مقالين عن مغامر مجري استثنائي زعم أنه أمير مهدوي. وفي أحد هذين المقالين، والذي نشر عام 1937م بعنوان “سليمان حريقة”، وصف كاتب المقال (جي. دبليو. ويلز) الرجل بأنه أمير وقائد من قواد جيش الخليفة عبد الله. وبعد 17 عاما على صدور ذلك المقال، نشر جي . ان. ساندرسون مقالا آخر عنه وصفه فيه بأنه “لا يعدو أن يكون محتالا دجالا ليس إلا، ولم يسبق له العمل في جيش المهدية بأي صفة، ولم يقابل الخليفة قط”، رغم أنه أقر بأن الرجل قد أعلن إسلامه في أيام شبابه عندما كان مقيما بالمغرب. وكان مقال ساندرسون يدور أساسا حول محاولة هذا السليمان إنقر للوصول لبربر في عام 1896م. فقد قبضت السلطات البريطانية على الرجل في سواكن مرتديا جبة الدراويش المرقعة، وتبين لها أن اسم الرجل الحقيقي هو كارل إنقر. وزعم أنقر أنه كان ينوي السفر إلى الخليفة عبد الله ليفاوضه في شأن عقد اتفاقية سلام مع الخديوي، على أن يوافق الخليفة على أن يحكم السودان باسم الحكومة الفرنسية! وقرر اللورد كرومر (أول معتمد بريطاني في مصر) بأن إنقر هو “رجل مفرط الرومانسية، ويحلم بأحلام غير قابلة للتحقيق، ومغامر أبله معدم ليس إلا. لقد كان الأجدر أن يخضع هذا الأفاك لمحكمة عسكرية لا أن يعاد لأوربا دون سؤال”.
وفي العام التالي (1897م) حاول إنقر دخول زيلع في أرض الصومال (والتي كانت تحت الإستعمار البريطاني)، ثم حاول الدخول إليها مرة أخرى عبر جيبوتي. غير أنه، ولسوء حظه، قابل مصادفة وهو يحاول الخروج من الميناء البريطاني رينيل رود مساعد اللورد كرومر، والذي كان عائدا من مقابلة الملك مينليك. وتعرف رود فورا على ذلك “الرجل الأبيض الملتحي في اللباس الشرقي” فطلب من المسئولين إعادته من حيث أتى. ويزعم ساندرسون (كاتب المقال الثاني عن إنقر) أن تلك الزيارة القصيرة كانت هي آخر مرة له يطأ فيها أرض ساحل البحر الأحمر، وأنه آب بعدها إلى المجر، حيث شرع في تأسيس شركة تجارية تخصصت في التعامل مع أرض الصومال، وأقام له قلعة في تراسيلفانيين بالقرب من أوراديا ? ماري ، ولم يغادرها إلا لفترات قصيرة حين زار طرابلس في عامي 1911 ? 1912م، والقسطنطينية في عام 1914م. غير أني أكتشفت من مراجعتي لوثائق وزارة الخارجية البريطانية المتعلقة بأرض الصومال بأن محاولة إنقر الفاشلة لدخول لإثيوبيا في عام 1897م لم تكن مغامرته الأخيرة في شمال ? شرق أفريقيا.
وقدم إنقر في العام التالي مباشرة (1898م) إلى شاطيء أرض الصومال (البريطاني) على ظهر باخرة نمساوية في رفقة خمسين رجلا أوربيا وعربيا، وزعم لمسئول الميناء أنه أتى إلى الصومال قائدا لحملة علمية. غير أن نائب القنصل البريطاني رفض السماح له ولمن معه بالنزول إلى البر. وسرعان ما أتضح أن إنقر كان يعد العدة لإعلان نفسه أميرا للصوماليين، إذ أن باخرته تلك كانت معبأة بالأسلحة النارية، وكان من معه يخاطبونه بقولهم “معاليك”. ولما منعت السلطات إنقر ومن معه من الدخول، توجه بباخرته نحو عدن ومنها إلى جيبوتي. وتخوف البريطانيون من أن يرسل إنقر ، وهو في جيبوتي، أسلحة لمحميتهم. ولكن كان من حسن حظهم أن بدأ أتباع إنقر يحسون بالضجر والملل من كثرة الترحال معه دون فائدة، فهجره معظمهم. وما أن أتى عام 1899م حتى ظهر إنقر مجددا في أوروبا، وفي لندن تحديدا.
وفي العاصمة البريطانية بدأ إنقر في عرض خدماته على رجال الحكومة وزعماء الأحزاب. فشرع في الاتصال بالسير إيليس آشميد بارتلت، العضو البرلماني المحافظ، وصاحب المصالح الإمبريالية، معرفا نفسه بأنه “أمير أوقادين الصومالية”، وذكر له بأن بمقدوره إجهاض محاولات المغامر الروسي ليونتيف في أعالي النيل. وكتب إنقر في ذات الأمر إلى السير جون برودرك، وكيل وزارة الخارجية البريطانية لشئون البرلمان، وإلى هارينغنتون، القنصل البريطاني في إثيوبيا، مؤكدا على أنه حاكم للصوماليين الذين يعيشون في خارج المحمية البريطانية.، ومفصلا خطة للتعاون التجاري بين إمارته وأرض الصومال تقضي بمنح بريطانيا امتيازات تجارية عديدة. ودبج أيضا خطابا إلى اللورد ساليسبوري رئيس الوزارة ووزير الخارجية البريطانية (بعد أن خاطبه بـ “الزعيم الأشهر للسياسة الخارجية البريطانية”) أوضح له فيه تفاصيل خططه التجارية، وأبان بأنه يهدف إلى “إنقاذ ذلك الشعب المحمدي المغلوب على أمره من وهدة التخلف عن ركب الحضارة” وأنه “يأمل في أن تمد له الحكومة البريطانية يد التشجيع والتعاضد في هدفه النبيل هذا”. غير أن الحكومة البريطانية لم تستجب لطلبات الرجل، فقد اعتذرت الخارجية البريطانية عن لقائه بدعوى الإنشغال، وذكرت تقارير المخابرات الحربية أن إنقر “شخص غير مرغوب في بقائه، فهو رجل كذوب، ومعدوم الضمير، وغير جدير بالثقة، ولا ينبغي أن يسمح له أن يقرب محمية أرض الصومال أبدا”.
وبسبب ما تقدم حاول إنقر طرقا أخرى. فعرض على الحكومة البريطانية في سبتمبر من عام 1899م تقديمه لوحدة مكونة من 15000 صومالي للقتال في الحرب في جنوب أفريقيا، وبعد ثلاثة أشهر عرض الرجل أن يجلب 11000 من المقاتلين الصوماليين للاشتراك في الحرب الدائرة في جنوب أفريقيا. وقوبل العرضان بالرفض التام من الحكومة البريطانية، ونصحت قنصلها العام في أرض الصومال بعدم السماح لإنقر من أن يقرب من تلك المحمية البريطانية. غير أن تلك النصيحة لم تكن ذات فائدة واقعية، إذ أن إنقر صرح للصحافة في ذات الشهر (سبتمبر من عام 1899م) أن السيد محمد عبد الله حسن (والمعروف في سجلات التاريخ البريطانية بـ “الملا المجنون”) والذي كان قد بدأ معركته التي تواصلت لعقدين من الزمان ضد البريطانيين في أرض الصومال، هو أحد شيوخه. وكان ذلك سببا كافيا للحكومة البريطانية لمنعه من دخول أرض الصومال، لا سيما وأن هييز سادلر، القنصل العام البريطاني بأرض الصومال، كان موقنا بصحة زعم إنقر من أنه يقف وراء الإنتفاضة الصومالية التي كانت قد بدأت للتو. وبعد أسابيع قليلة من تصريح إنقر المذكور، كتب إلى لورد ساليسبوري خطابا من بروكسل يطلب فيه (عدم؟) اتخاذ أي إجراء عسكري ضد السيد محمد عبد الله حسن. ولسنا بحاجة للقول بأن الخارجية البريطانية لم تلق بالا لذلك الخطاب.
ويجدر بنا أن نذكر أن إنقر، وقبيل رحيله عن إنجلترا في نهاية عام 1899م، كان قد أقام في غضون أيامه في لندن علاقة من نوع ما مع امرأة بريطانية من سيدات المجتمع الراقي تصادف أن كانت تقيم في نفس الفندق الذي كان يقيم فيه، وتتطلب الأمر تدخل شرطة اسكوتلاند يارد لمنع حدوث “كارثة إجتماعية” لتلك السيدة. وكذلك اتصل إنقر بالنائب البرلماني الليبرالي الفريد بييز، والذي كان قد جاب أطراف بلاد الصومال، وعرض عليه القيام برحلة مشتركة لتلك البلاد. غير أن النائب الليبرالي رفض ذلك العرض أيضا. غير أن الأمر الأكثر أهمية هو ما ورد في دعوة إنقر لذلك النائب من آراء حول أرض الصومال وأهلها، إذ أنه زعم له في تلك الرسالة أنه أمير الصومال (المستقلة)، وأن سكانها يعدونه أكبر زعمائهم، وأشدهم إخلاصا، وأكثرهم صدقا. وذكر له أيضا أن ما أحد استطاع هزيمة الصوماليين من قبل، وأن بريطانيا لا تسيطر إلا على شريط ضيق من سواحل الصومال. وبالطبع لم تكن تلك الآراء تتوافق مع الرأي الرسمي للحكومة البريطانية، والتي استولت على جزء من أرض الصومال يمتد لمائة ميل من الساحل، وأعلنته “محمية” بريطانية. وكانت آراء إنقر تلك تتطابق لحد بعيد مع آراء السيد محمد (الملا “المجنون”). وكان ذلك الملا قد وطد موقفه شيخا دينيا وزعيما سياسيا على مناطق الصومال الداخلية، والتي لم يكن لبريطانيا من سيطرة حقيقية عليها، بل وأرسل خطابا إلى حكومة بريطانيا (عن طريق هـ. أي. كوردس نائب القنصل البريطاني في بربرة) في 4/5/1889م جاء فيه: “نحن حكومة (مستقلة) ولدينا سلطان (أمير) وقادة وزعماء ومواطنين”. وكان إنقر يشارك السيد محمد في آراء أخرى منها وصفه لسكان الساحل الصومالي الذين تعاونوا مع البريطانيين بالمجرمين والمارقين عن قبائلهم. ومن المثير للاهتمام النظر في إمكانية أن يكون إنقر قد تعاون عمليا مع السيد محمد في ثورته ضد البريطانيين. وكان سادلر، القنصل العام البريطاني بأرض الصومال، شديد الإيمان بأن ذلك هو ما حدث بالفعل.
لذا لم يكن مستغربا إن أصيب سادلر برعب عظيم عندما علم أن إنقر ظهر فجأة في جيبوتي في يونيو من عام 1900م، وشك في أنه قد يكون قد نجح في تهريب أسلحة للشيخ محمد. وأوشك الفرنسيون في جيبوتي على اعتقال إنقر فور وصوله لجيبوتي بتهمة الإحتيال وذلك إبان رحلته “العلمية” الاستكشافية للبلاد في عام 1898م، بالفعل صدر ضده حكم بالسجن لعامين، غير أن الحكم خفف وأكتفي بطرده من البلاد، وإرساله مخفورا إلى أوروبا. وواصل إنقر في أوروبا في إدعائه أمارة الصومال، وفي تسويق مشاريعه التجارية.
وفي عام 1901م نجح مجندون صوماليون، بقيادة وتوجيه من السلطات البريطانية، في طرد قوات السيد محمد من محمية أرض الصومال. غير أن أنصار السيد محمد عادوا في العام التالي للهجوم على القبائل والفصائل التي كانت على وفاق وصداقة مع البريطانيين. ولذا أمرت السلطات البريطانية ? دون كبير حماس – بتجهيز حملة أخرى ضد قوات ذلك “الملا المجنون”. وبينما كان البريطانيون يحضرون لتلك الحملة بلغتهم رسالة وصلت لبربرة يوم 9/4/1902م من إنقر المقيم ببورسعيد تفيد بأنه يعرض خدماته للقتال ضد السيد محمد. وأرسل إنقر خطابا ثانيا في الشهر التالي عرض فيها القيام بوساطة بين البريطانيين والسيد محمد، والعمل على تهدئة الأوضاع وإحلال السلام بالمنطقة، وذكر لهم أن دعوته للسلم “تجعل من قيام البريطانيين بحملة أخرى ضد السيد أمرا غير ضروري”. ومهر إنقر رسالتيه بـ “الأمير سليمان إنقر”، ولم يستخدم اسمه الأصلي “كارل إنقر”. وعلى الرغم من رسالتي الرجل، ظل قنصل بريطانيا في أرض الصومال ونائبه على رأيهما في ضرورة إبعاده من أرض الصومال بكل الوسائل الممكنة لأنه ? بحسب قتاعتهم- كان هو المحرض الرئيس لذلك “الملا المجنون” على الثورة ضد بريطانيا، وظل يسيطر عليه ويعضد مساعيه لإخراج البريطانيين من المحمية التي أقاموها على ساحل الصومال.
ولما لم يتلق إنقر أي رد على رسالتيه، غادر بورسعيد في بدايات يونيو من عام 1902م على ظهر سفنية متجهة جنوبا عبر البحر الأحمر. ولم يسمع منه أوعنه بعد ذلك أحد شيئا حتى حل الرجل ببودابست في أكتوبر من ذات العام. وفي غضون تلك الأيام توالت الأنباء عن أن السيد محمد أوقع بجنود الحملة البريطانية هزيمة كبيرة في معركة إريقو Erego(وقعت تلك المعركة بين ثوار السيد محمد وحلفاء بريطانيا في “أرض الصومال” بغابة كثيفة الأشجار في 6/10/ 1902م. ويوجد وصف لتلك المعركة في كتاب بعنوان “The King?s African Rifles” لمؤلفه مويس بارتلت. المترجم). وكتب إنقر على إثر تلك المعركة خطابا في صحيفة مجرية هي Pester Lloyd أكد فيه أن السيد محمد ليس بـ “ملا مجنون” كما يزعم البريطانيون، بل هو خادمه الأول والأشد إخلاصا لقيادته، وأنه أكبر مدافع عن ممتلكات إنقر وشعبه، وأن السيد قد أتقن فنون القتال بفضل ما جاء في “فن الحرب عند النمساويين والمجريين” بحسب قوله. وأضاف أن للصوماليين “مبدأ واحدا ? إما إقامة صلة وثيقة بالنمسا والمجر، أو القتال حتى الموت ضد البريطانيين. ولم تنجح الحملات البريطانية – حتى الآن- في هزيمة الصوماليين الثائرين. وأدعو الله أن تلاقي حملتهم الرابعة (هكذا) ذات المصير في العام القادم”.
وظل إنقر يجوب شوارع بودابست منتشيا ومفتخرا بمعاداته لبريطانيا ووقوفه إلى جانب عدوها اللدود في أرض الصومال. غير أنه قام بعيد ذلك بإرسال رسالة إلى صحيفة “التايمز” تختلف بالكلية عما كان يقوله في بودابست. فقد عبر في رسالته تلك عن أسفه وندمه على وقوفه ضد بريطانيا، وأكد أنه مخلص لها، وإنه سيعمل على وقف العدائيات في أرض الصومال حقنا للدماء. وكتب أيضا بأنه لا يطلب غير ” أن تحسن الخارجية البريطانية من نواياها تجاهي وتجاه قبائل الصومال”. غير أن الخارجية البريطانية رفضت ذلك العرض بكل ازدراء، ولا عجب، فقد ظلت وزارة الحرب وقسم المخابرات يصران على أن إنقر كذاب أشر ورجل مغامر عديم الضمير يجب إبعاده بكل وسيلة ممكنة عن أرض الصومال. وعوضا عن الاستجابة لعرض إنقر المذكور، قرر البريطانيون القيام بحملة عسكرية ثالثة ضد “الملا المجنون” في بدايات عام 1903م.
وورد في بعض التقارير أن إنقر كان ملازما للسيد محمد في أثناء تلك الحملة. وعزز من صدقية تلك التقارير وصول خطاب غير عادي لوزارة الخارجية البريطانية في مارس من عام 1903م من شخص يدعى كورنليس بيلا ليبتاي في المجر يزعم فيها أن إنقر يقود عمليات السيد محمد في الصومال. وزعم ذلك الشخص أيضا أن إنقر سبق له أن ناقش مع رئيس الوزارة المجري إمكانية تصدير غجر المجر للعيش في أرض الصومال والإقامة فيها في مستوطنات زراعية، إذ أن من شأن ذلك تعضيد قوة السيد محمد ? بطريق غير مباشر- ، إذ سيعمل عدد معين من اولئك الغجر تحت إمرته.
غير أن إنقر كان في الواقع ببودابست في الثالث من أبريل من ذلك العام، إذ أن برودك (والذي غدا أمينا لوزارة الحربية) تلقى منه خطابا ينفي فيه وجوده في أرض الصومال، ويجدد عزمه على إقامة السلام واشاعة الأمن في ربوع ذلك البلد، ويطلب مباركة الحكومة البريطانية على جهوده في ذلك المنحى. ودبج إنقر خطابا مماثلا لجوزيف شمبرلين (المسئول عن شئون المستعمرات) في 9/4/ 1903م يؤكد فيه بأنه سيقوم بتحطيم سلطة “الملا المجنون” حال وصوله لأرض الصومال، ويطلب مباركة الحكومة البريطانية له في هذا الشأن. وقد يعتقد القاريء بأن تلك الرسائل المتتالية من إنقر لرجال الحكومة البريطانية، والحافلة بالانتهازية والتخليط والمزاعم العريضة لم تجديه نفعا بل ساهمت في إذكاء روح العداء له. غير أن تلك الرسائل كانت ? للغرابة ? هي ما دعت السير كليمنت هيل (المسئول عن شئون المحميات في الخارجية البريطانية) للتفكير في إمكانية الاستفادة من هذا الرجل الإستثنائي، فكتب لعقيد في وزارة الحربية اسمه التهام رسالة بتاريخ 21 / 4/ 1903م جاء فيها:
“إن بمقدور هذا الرجل… إنقر…أن يصل إلى أرض الصومال عن طريق جيبوتي إن أراد. يبقى السؤال هو: هل لهذا الرجل أي نفوذ في المنطقة أم لا؟ إن كانت الإجابة بنعم، أليس من الأفضل أن نلجم لسانه، رغم أنه وغد زنيم، وندعه يأتي لأرض الصومال شريطة أن يلتحق بصفوف جيشنا هنالك، وأن لا يتصرف بمفرده دون موافقتنا، ودون مرافقة أفراد من قواتنا هنالك، وأن يحمل دوما نسخا من رسائله التي سطرها من قبل للحكومة البريطانية ليريها للضابط البريطاني الذي سيعمل تحت إمرته. يجب أن نستغل الرجل ليعمل في صالحنا … رغم أن الإجراء الطبيعي بلا شك هو رفض التعامل معه…”.
ولكن قبل أن يرد العقيد التهام على رسالة السير هيل أتت الأخبار المحزنة عن هزيمة الحملة الثالثة في يوم 15/4/1903 في معركة قمبورو Gumburru ، حيث أباد دراويش السيد محمد طابورا كاملا من مجندي الحكومة عن بكرة أبيهم، وقتلوا 9 ضباط بريطانيين و187 من الجنود الأفارقة والهنود. وضاعف ذلك بالطبع من حنق العقيد اليهام على إنقر، فرد على خطاب السير هيل بكلمات غاضبة جاء فيها: “إن كنا محظوظين فسيشفي صدورنا أن نردي إنقر برصاصة جَزَاءً وفاقا لخيانته لنا … غير أني لست متأكدا إن كان الرجل يستحق حتى ثمن تلك الرصاصة” ،وأورد في رسالته الغاضبة المثل الغربي Game is not worth the candle.
غير أن رأي وزارة الخارجية وبعض نواب البرلمان كان مختلفا جدا عن رأي العقيد التهام، فقد كانوا جميعا يرغبون في تحاشي القيام بحملة رابعة ضد ذلك “الملا المجنون” بكل الوسائل الممكنة. وأبرقت الخارجية البريطانية قنصلها العام في أرض الصومال مستفسرة عن إمكانية قيام إنقر بدور الوسيط بينها وبين السيد محمد. غير أن القنصل كان يرى أن تلك ستكون خطوة خطيرة، إذ أن أي اتفاق يصل إليه إنقر لن يدوم إلا لفترة قصيرة جدا، وسوف يطالب الرجل بلا ريب ببعض أراضي الصومال نظير خدماته. وشكك نائب القنصل في مزاعم إنقر الكثيرة، وجزم بأن إنقر لم يطأ بقدميه أرض الصومال قط، ولم يسبق له أن رأى السيد محمد كفاحا.
غير أن بعض السياسيين في لندن لم يكونوا على اقتناع مثل المسئولين البريطانيين في لندن وأرض الصومال بأن إنقر رجل عديم النفع لبريطانيا. ونشرت صحيفة التايمز في 7/5/1903م خبرا عن نشر إنقر لرسالة طويلة يلح فيها على الحكومة البريطانية أن توقف العدائيات ضد السيد محمد وأتباعه في غضون عشرة أيام. وفي اليوم التالي لنشر الخبر إجتمع بعض رجال الأعمال والمغامرين البريطانيين، وكان بعضهم من المؤمنين بأن إنقر زار الخرطوم وعمل مستشارا حربيا للخليفة عبد الله (وشيرلوك هومز كان أيضا من القائلين بذلك الزعم!) وعبروا جميعا عن تصديقهم لإنقر وامتنانهم له لعرضه التوسط بين بريطانيا والسيد محمد، وإيمانهم بأن الرجل سيقنع ذلك السيد ليرضى بالسيادة البريطانية على الصومال. بل وكانوا يعتقدون بأن منح بريطانيا بعض المناطق في الصومال لإنقر ليحكمها عوضا عن السيد محمد قد يكون أمرا حكيما، فإنقرعلى الأقل يدرك قوة بريطانيا ويحترمها، وليس مثل ذلك “الملا المجنون”، الذي كان يجهل قدرات البريطانيين الحقيقية. وطالب بعض النواب بتكليف الملحق العسكري لبريطانيا في فينا بعمل مقابلة شخصية غير رسمية لإنقر للنظر في أمر تعيينه في خدمة الحكومة البريطانية، ولمعرفة ما يتوقع أن يناله نظير خدماته، وللتأكد من نفوذه عند السيد محمد. وكان ذلك انعاكسا حقيقيا مؤلما للحالة الحرجة التي أوصل إليها ذلك الثائر الصومالي الحكومة البريطانية.
غير أن إنقر استبق الأحداث وزار السفير البريطاني في فينا قبل أن يسمع بأن هنالك نوابا يطالبون بعمل مقابلة شخصية معه في السفارة البريطانية. وطلب السفير البريطاني من الملحق العسكري بسفارة بلاده في فينا أن يلتقي بإنقر من أجل عمل مقابلة شخصية. وبالفعل عقد ذلك القنصل ثلاثة جلسات مع إنقر بين يومي 16 و 21 مايو. وكرر إنقر في تلك المقابلات على أنه سبق أن قدم العون للخليفة عبد الله، وحث الضابط الفرنسي مارشان Jean-Baptiste Marchand على القيام بحملته في شمال أفريقيا، وأنه التقى بالسيد محمد في أرض الصومال في عام 1901م، وأسدى له فيما بعد نصائح عسكرية بالغة الأهمية في برقيات زعم أنه ظل يرسلها للرجل بصورة مستمرة. وتنبأ إنقر بأن الحملة البريطانية الموجهة ضد السيد ستلاقي الفشل الذريع، وستهزم شر هزيمة إن لم يستمع البريطانيون لنصحه، ويوقفوا حملتهم قبل نهاية مايو. وطمأن إنقر الملحق العسكري البريطاني بالقول بأن السيد سيطيع أوامره دون تردد (باعتباره قائده الأعلى في جيش الدراويش) ويوقف القتال. وزعم إنقر أن شعب الصومال ليس له مطلب من البريطانيين سوى تقديم الحماية الفعالة لهم، ومنحهم حرية التجارة عبر موانئ الصومال. أما مطلبه هو شخصيا فكان أن يمنح أراضي الصومال الداخلية ليحكمها. ورفض في إباء وغضب (مصطنع) أي مكافأة شخصية مقابلة خدماته!
ووجد الملحق العسكري البريطاني (والذي لم يكن يثق بإنقر أصلا) العرض الذي قدمه الرجل معيبا بما يكفي لإلغاء كل المحاولات للاستفادة منه. غير أن كثيرا من الوزراء النافذين في الحكومة البريطانية كانوا يرون أن بإمكانهم الاستفادة من إنقر رغم كل مثالبه المشهورة، وقاموا باستشارة السلطات البريطانية في أرض الصومال حول إمكانية تعيينه مفاوضا، وجاء الرد بالإيجاب. وكان إنقر متحمسا للسفر إلى أرض الصومال لدرجة أنه كان مستعدا لتحمل تكاليف سفره بمفرده ودون عون من الحكومة البريطانية.
وقامت الحكومة البريطانية باستدعاء قنصلها في أرض الصومال ليعطيها تقييمه الشخصي لإنقر. وكان ذلك القنصل من الذين يرون أن بإمكان بريطانيا الاستفادة من نفوذ الرجل في أرض الصومال رغم عيوبه الكثيرة. وتقرر أخيرا ألا تتفاوض الحكومة البريطانية مع إنقر مباشرة، بل عبر وسيط اسمه طومسون ليون. وكان على ليون هذا أن ينقل لإنقر هذا ما تريد الحكومة البريطانية أن توصله للملا من طلبات. وصمت رئيس الوازرة البريطانية عن التصريح برأي علني في شأن التفاوض مع إنقر. غير أن الأمر حسم في خاتمة المطاف عندما نصح اللورد كرومر (قنصل بريطانيا العام في القاهرة) بعدم الاتصال بأي شكل من الأشكال مع إنقر، وذلك لما أشيع عنه من مساندته للخليفة عبد الله في عام 1896م. وتقبلت الحكومة البريطانية نصيحة كرومر بسبب سابق معرفته وخبرته بالعالم الإسلامي وبالدراويش وبإنقر. وأتصل كرومر بسلاطين وونجت في عام 1909م لمعرفة رأيهما في ما يدور في أرض الصومال من حرب ضد الثوار. وكان سلاطين يؤمن بأن إنقر يضلل الحكومة البريطانية، فكيف لرجل حديث العهد بالإسلام أن يجد كل تلك الحظوة التي يدعيها عند السيد محمد. بينما كان رأي ونجت أكثر صرامة وتشددا. فقد قال بإن إنقر رجل مخادع كذوب يجدر بالحكومة البريطانية أن تبتعد عنه بقدر ما تستطيع. ونصح ونجت بضرورة الإسراع بتجهيز حملة أخرى للقضاء على تمرد السيد محمد، وإن تعذر ذلك فيجب أن تسعى الحكومة البريطانية على حمل أحد شيوخ السودان للقيام بدور الوساطة مع السيد محمد.
ولما علم إنقر بأن الحكومة البريطانية أخذت برأي من نصح برفض التعامل معه كتب لرئيس الحكومة البريطانية ليؤكد له على مواصلة سعيه لإحلال السلام في الصومال رغم عدم رغبة بريطانيا في التعاون معه. ولم يكف إنقر عن الكتابة لقادة الأحزاب السياسية البريطانية ودعوتهم لمرافقته للصومال دون أن يلقى أدنى استجابة أو تشجيع من أي واحد منهم. ثم وصلت للحكومة البريطانية في نهاية ديسمبر أنباء تفيد بأن إنقر حل بميناء الحديدة اليمني على ساحل البحر الأحمر. غير أن الحملة الرابعة التي سيرها البريطانيون ضد السيد محمد في ذات الأيام كانت قد حققت بعض النجاحات، مما ضاعف من رغبة الحكومة البريطانية في إبعاد إنقر من الصومال بكل الوسائل. وقامت السلطات التركية الحاكمة في الحديدة بطرد إنقر من المدينة حتى قبل أن تطالب الحكومة البريطانية بذلك. وعند وصول إنقر لميناء جدة تم تسليمه للقنصل البريطاني بالمدينة، والذي أمر بوضعه في أول باخرة متجهة للسويس. واكتفى كرومر في مصر بوضعه تحت المراقبة اللصيقة ولم يأمر باعتقاله كما نصحت وزارة الحربية البريطانية بذلك. ووافقت الحكومة الإثيوبية على عدم استقباله في أي جزء من أراضيها، وكذلك فعل الفرنسيون في ميناء جيبوتي. وتم إقناع القنصل النمساوي في القاهرة بالاحتفاظ بجواز سفر إنقر من أجل ضمان عدم مغادرته لمصر والسفر جنوبا. ولما لم يجد إنقر مخرجا إلى أي مكان في العالم غير موطنه آب إلى بودابست وقلعته في تراسليفانين وشرع في تأليف كتاب صغير باللغتين الألمانية والمجرية يحتوي على كل مكاتباته بخصوص أرض الصومال. وكانت تلك هي آخر صلة للرجل بالصومال. غير أنه عاد للشرق مجددا، وظهر في شمال أفريقيا (خاصة طرابلس) بين عامي 1911 ? 1912م.
يبقي السؤال المحير قائما حول حقيقة علاقة إنقر بالصومال وبالسيد محمد. لقد كان البريطانيون، وبتأثير قوي من سلاطين وونجت وكرومر، لا يصدقون بأن للرجل أدنى علاقة بالصومال أو بزعيمه الثائر. بينما كان لبريطانيين آخرين بعض المواقف المتباينة عنه. فقد وصفه أحدهم بأنه “مغامر رومانسي”، بينما وصفه آخر بأنه “سمكة ميتة “dead fish” أي أنه رجل عديم المبادئ يسبح دوما مع التيار. وقال آخر بأنه رجل فشل في تحقيق أحلامه العريضة في عالم السياسية والعسكرية، فآثر أن يخترع له بطولات في هذين المجالين، وصدق ما أخترعه من توهمات.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. من قاريء
    ——
    عجيب هذا السليمان حريقة الذى لم تأت مصادر تاريخنا على ذكره ! أترى الامر لعبة للمخابرات أم ان المغامر استهواه ماصنع مواطنه النمساوى – المجرى سلاطين باشا؟!! والغريب ان سلاطين اوفد الى الصومال لكتابة تقرير عن ثورة الملا محمد عبد الله ولم يأت على ذكر حريقة فيما عرض هولت من تقريره فى كتابه عن سلاطين!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..