مقالات سياسية

تجربة أمدرمان

The Omdurman Experience
Robert S. Kramerروبرت كرامر
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في الفصل السادس من كتاب بروفيسور روبرت كرامر المعنون: “مدينة مقدسة على النيل: أمدرمان في المهدية 1885 ? 1898م Holy City on the Nile”، والصادر عن دار نشر ماركوس فينير بيرينستون بأمريكا عام 2010م. ويعمل مؤلف الكتاب (المجيد للعربية) روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر -منفردا وبالاشتراك – عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا. وهذا الكتاب مستل من رسالة الدكتوراه التي أنجزها من جامعة نورثويستن الأمريكية في عام 1987م. وفي مقدمته أشاد المؤلف بجهود من ساعدوه في إنجاز عمله، ومنهم أستاذه جون هينويك، والبروفسيور أوفاهي، وآخرين منهم الأساتذة محمد إبراهيم أبو سليم (والذي وصفه بأنه “شيخ دراسات المهدية”) وسيد حامد حريز ومحمد عمر بشير والتيجاني عامر وأحمد أبو شوك وبعض آل المهدي وآل الخليفة.
والشكر موصول للمؤلف الذي تكرم بإهدائي نسخة من كتابه، ووافق – مع ناشره- على ترجمته للعربية إن وجد ناشر سوداني يتولى طباعة ونشر الترجمة.
المترجم
********** ********** **********

لم يجد المراسلون الحربيون البريطانيون الذين رافقوا جيش كتشنر الظافر شيئا يبعث على الاعجاب في أمدرمان. فقد كانت بالنسبة لهم متاهة من الأكواخ والعشش الواهنة الفجة البناء. وكان أكثر من اِشتَطَّ في هجاء أمدرمان الصحافي بالديلي ميل جي دبليو استيفنس والذي شبه المدينة بأنها “بيت للقرود تمارس فيه الشهوات الأفريقية”، وبأنها “حظيرة للحيوانات المتوحشة”، وشبه مساكنها بجحور الأرانب، وبخلايا النحل التي تعج بالسكان… (ووصف بيوتها الطينية بأوصاف مستقبحة أخرى. المترجم). وكان هنالك أيضا من هؤلاء المراسلين من هجا أمدرمان، ولكن بدرجة أقل فظاظة. ومن هؤلاء ف. موريس، والذي أشاد ببطولة السودانيين، غير أنه وصف بطولتهم بأنها تحاكي “بطولة الوحوش الكاسرة” وأنهم “أكثر الطغاة الذين سودوا وجه هذه الأرض وحشية”. وتسأل آخر (هو آر. دبليو. فلنكن) عما إذا كان بالإمكان جعل موقع الخرطوم السابق “سكنا صحيا يليق بالأوربيين، إذ أن إبقاء وادي النيل بأكمله تحت السيطرة المصرية أو بريطانيا العظمى هو أمر في غاية الأهمية”. ولكن، في المقابل، أثار أرنست بينيت مراسل “جريدة ويستمينستر” عاصفة من الجدال المحتدم لشجبه واستنكاره لمعاملة رجال الجيش البريطاني ? المصري لجرحى جيش الخليفة، ولاستخدامه تعابير مثيرة للمشاعر مثل القتل الجماعي (أو بالجملة)، وسفك الدماء غير المبرر. ولام ذلك المراسل الصحافي الجنود البريطانيين والمصريين والسودانيين الحكوميين لقيامهم بأعمال وحشية ضد المدنيين وسلبهم ونهبهم إياهم ممتلكاتهم، مما يعد مخالفا للقوانين الدولية، وقرع كتشنر لقيامه بقصف قبة المهدي ونبش قبره وقطع رأسه (ودفنه لاحقا في وادي حلفا)، ووصف كل ذلك بأنه “لا يعدو أن يكون عملا من أعمال بربرية القرون الوسطى الهمجية”. ورفض الجيش البريطاني كلمات الصحافي المهاجم لرجاله، ونفاها جملة وتفصيلا، وصدقه في ذلك ? فيما يبدو- رجال الحكومة البريطانية وقطاعات واسعة من شعبها.
وبعد أن وضعت “حرب النهر” أوزارها، كان على السلطات البريطانية أن تحدد كيف ستحكم الأراضي الشاسعة التي استولت عليها لتوها. وكان أول معضلة أمامها هي: ماذا ستفعل بأمدرمان وسكانها الكثر من عرب غرب السودان، والذين ليست لديهم وسيلة أو مورد معلوم للعيش؟ فبدأت بتسوية نزاعات الأراضي، وتفريغ أمدرمان والجزيرة من “الأفواه عديمة الفائدة” كما جاء في تعبير للورد كرومر، وإعادة المدنية للسودان بفتح الباب أمام التجار ورجال الأعمال الأجانب. ونشرت أول صحيفة ناطقة بلسان الحكومة (وهي (Sudan Gazette في 7/3/1899م إعلانا حكوميا رسميا للراغبين في إنشاء أربع مخازن تجارية لتقوم بتموين المحلات الصغيرة بالمشروبات الروحية والنبيذ والبضائع الأخرى بأمدرمان، اثنان منها في منطقة العرضة، والآخر في منطقة السوق. وبعد خمسة شهور على ذلك الإعلان نشرت تلك الصحيفة نبأ التصديق بفتح محلات لبيع الخمور لستة تجار في الخرطوم، ليلحقوا بمن صدق لهم بفتح محلات مشابهة في بربر وكسلا ودنقلا وحلفا. ولم يجد الأمر أي اعتراض علني من أي سوداني (على الأقل في ذلك الوقت).
وفي الأيام الثلاث التي أعقبت سقوط دولة الخليفة، عاشت أمدرمان أياما عصبية وسكانها يتعرضون للسلب والنهب وتصفية الحسابات، خاصة من قبل “الجهادية” الذين سبق لهم العمل في الجيش المصري. فبعد أن عادت الأمور لطبيعتها، وجد الأهالي عسرا شديدا في استعادة كثير من مسترقيهم الآبقين، والذين التحق بعضهم بجيش المستعمر الجديد، وفر البعض الآخر لمكان غير معلوم (نشر المؤلف مقالا بعنوان “استسلام وجهاء أمدرمان” فيه بعض التفصيل لهذا الأمر، وتجد ترجمته مبذولة في الشبكة الإسفيرية. المترجم). وأخذ نعوم شقير وغيره من رجال المخابرات يجوسون خلال بيوت الأهالي في أمدرمان بيتا بيتا بحثا عن أي وثيقة مكتوبة عن المهدية، بينما أسرع أتباع الخليفة بحرق كل ما له صلة بالمهدي من منشورات أو جبب مرقعة، حتى ينفوا عنهم أي اتهام محتمل بالتبعية لذلك النظام الذي أيقنوا تمام اليقين بأنه قد هزم تماما. وبعد أيام قليلة غادر معظمهم أمدرمان وآبوا لقراهم ومدنهم التي أتوا منها، وأستقر كثير منهم في الجزيرة، ولم يبق منهم في أمدرمان سوى نحو خمسين ألفا. ولم يفكر أحد من هؤلاء المهاجرين أن يستقر في الخرطوم بشوارعها الفسيحة ذات الأشجار الظليلة، وبدا ذلك للبعض أمرا غريبا بعض الشيء. غير أن القس الأمريكي جي. كيلي قيفن يفسر الأمر بأن ?البيوت في أمدرمان ? بعكس الخرطوم- كانت أرخص، والعيش فيها أقل تكلفة. وكانت بلدية الخرطوم تضع قوانين وتشريعات أشد صرامة من تلك التي كانت تطبق في أمدرمان، والذين كان أهلها يعشقون “حريتهم الفردية المتوحشة”. ولا بد أن العامل المالي الاقتصادي هو من حسم أمر الهجرة من أمدرمان للخرطوم. وإن لم يكن الأمر كذلك، فلم ظل غالب المصريين والمسالمة في أمدرمان، وقد عاد بعضهم للمسيحية أو اليهودية. وكان القس الأمريكي قيفن يأمل بالفعل في أن تزول أمدرمان من الوجود، وكان يظن بأن عوامل الطبيعة (من مطر وريح) ستقوم بمسح أمدرمان حتى لا تذر لها أثرا. وكتب في مؤلف له بعنوان “الاستسلام Capitulation ” صدر في عام 1905م في نيويورك يقول “فلتزل أمدرمان نهائيا عن وجه الأرض بعد أن زال المهدي ودعوته”. ولاحظ في كتابه أيضا أن السكان في أمدرمان “لا يتنافسون على الحصول على قطع سكنية ذات زوايا /ناصية corner lots إذ لا توجد زوايا أصلا. فعقول الغربيين وحدها هي التي تعمل على شكل زوايا وخطوط مستقيمة. بينما تعمل عقول أهل الشرق والمتوحشين على شكل منحنيات”. وغاب عن تفكير ذلك القس أن أمدرمان (مدينة المهدي) مثلت لكثير من السودانيين أكثر من مجرد مكان للعيش، فقد كانت تمثل تاريخهم وفكرهم أيضا.
وشيدت أمدرمان على ذات الفلسفة والطراز والنسق الذي بنت به سلطنة الفونج سنار. ومثلما كانت سنار هي “المحروسة المحمية” فقد كانت أدرمان هي “البقعة الطاهرة”. إذ كان الناس في سنار (وفي أمدرمان أيضا) يؤمنون بأن لدى حكامهم القدرة (البركة؟) على الشفاء وبث الحياة، فهم من يتحكمون في حركة السكان بالمنع أو السماح، واحتكار التجارة، وإصدار القوانين وغير ذلك. وورثت أمدرمان أيضا الكثير مما خلفه الحكم المصري ? التركي للبلاد من صناعات بدائية ونظم وتقاليد. وبنيت كثير من مباني أمدرمان بمواد (مثل الطوب والأخشاب) أخذت من الخرطوم، والتي كانت مواد بنائها قد أخذت من قبل مما وجد في بقايا مملكتي سوبا أو سنار.
وسجل علي المهدي في مذكراته ما قاله أنصاري رافق وفدا سودانيا ذهب لمصر في 1888م: “عندما سألوني ما جنسي قلت لهم: ?أنا أحد رفقاء المهدي” فقالوا لي: وما هي قبيلتك قبل ظهور المهدي؟ هل أنت شايقي أم جعلي أم ماذا؟ أجبتهم بأني لا أعرف ما هي قبيلتي قبل ظهور المهدي. فسألوني عن بلدي، فقلت لهم بأن بلدي هي أمدرمان بقعة المهدي”.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يقصد القس كىلي بالقطع ذات الزوايا مايعرف. بالتخطيط الشبكي grid iron والذي كان سائدا في أوروبا أو آنذاك ، ثم. برزت في أوائل القرن العشرين مدرسة مدن الحداءق

    Garden. City وأسقطت. التخطيط الشبكي واعتمدت المربعات المنحنية. ، من. ناحية أخري فقد اتفق. مخططى الحضر علي ان المدن. ذات النمو التلقائي ( كما امدرمان ) أكثر إنسانية

    وحميمية من المدن المصنوعه مسبقا. ،ولعل المقارنة. بين امدرمان والخرطوم تدعم. هذا الرأي .

  2. والشكر موصول للمؤلف الذي تكرم بإهدائي نسخة من كتابه، ووافق – مع ناشره- على ترجمته للعربية إن وجد ناشر سوداني يتولى طباعة ونشر الترجمة.

    هذا كلام مبشر ومحبط في نفس الآن، أتمنى أن “يجازف” أحد ناشرينا بطباعته “لو أتيح لك الوقت لترجمته”، وأعتقد أن بعض المراكز المؤودة كمركز الدراسات السودانية “د. حيدر” قد تتمكن من نشره فهو لا يزال يعمل من القاهرة … ماذا ننشر إن كنا لا ننشر تاريخنا الذي يكتبه الأجانب “جزاهم الله كل خير” فهذا أضعف الإيمان

  3. يقصد القس كىلي بالقطع ذات الزوايا مايعرف. بالتخطيط الشبكي grid iron والذي كان سائدا في أوروبا أو آنذاك ، ثم. برزت في أوائل القرن العشرين مدرسة مدن الحداءق

    Garden. City وأسقطت. التخطيط الشبكي واعتمدت المربعات المنحنية. ، من. ناحية أخري فقد اتفق. مخططى الحضر علي ان المدن. ذات النمو التلقائي ( كما امدرمان ) أكثر إنسانية

    وحميمية من المدن المصنوعه مسبقا. ،ولعل المقارنة. بين امدرمان والخرطوم تدعم. هذا الرأي .

  4. والشكر موصول للمؤلف الذي تكرم بإهدائي نسخة من كتابه، ووافق – مع ناشره- على ترجمته للعربية إن وجد ناشر سوداني يتولى طباعة ونشر الترجمة.

    هذا كلام مبشر ومحبط في نفس الآن، أتمنى أن “يجازف” أحد ناشرينا بطباعته “لو أتيح لك الوقت لترجمته”، وأعتقد أن بعض المراكز المؤودة كمركز الدراسات السودانية “د. حيدر” قد تتمكن من نشره فهو لا يزال يعمل من القاهرة … ماذا ننشر إن كنا لا ننشر تاريخنا الذي يكتبه الأجانب “جزاهم الله كل خير” فهذا أضعف الإيمان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..