باعة السباق مع الزمن

باعة السباق مع الزمن

صلاح يوسف
[email protected]

قال الشاعر الفذ محمد المكي إبراهيم في قصيدته، قطار الغرب وهو يرسم بريشته الدقيقة وقائع الرحلة: (والباعة ملحاحون وحلاقون ولهم آذان تسمع رنة قرش في المريخ)، فما أصدق وأعمق وأبلغ قوله الذي لا يتخيله إلا من سافر بالقطار في أيام مجده السالفة0 أما الآن وقد تنوعت وسائل السفر حتى صار القطار نسياً منسياً، كما أن سفر الكثيرين منا صار داخل المدن وبالعربات، فقد أضحت محطات التوقف بالنسبة لنا هي إشارات المرور0 لذلك أبى الباعة إلا أن ينقلوا لنا عادة الإلحاح من محطات القطار إلى إشارات المرور لتقريب الصورة ولتذكيرنا بروائع ود المكي0 ورغم قصر الثواني التي يتوقف عندها السائق مجبراً تجري عمليات البيع والشراء العاجلة لسلع هامشية وربما أخرى ضرورية نعلم أماكن تواجدها لكننا نتقبلها كسلاً ومجاملة0 وفيما يبدو أن هناك من يتكسبون من ورائها وإلا ما كان في مقدور هؤلاء الباعة الصمود والانتشار تحت قيظ الظهيرة وزمهرير البرد يتنقلون جيئة وذهاباً بين العربات بكل الاتجاهات وفقاً لتقلبات ألوان الإشارة بلا كلل أو ملل دون أن ندري حجم عائدهم بحسبان أن المعروض سلعاً بخسة الأثمان0
من الملاحظ أن هؤلاء الباعة يعرضون كل يوم سلعاً متنوعة مع وجود القاسم المشترك وهو مناديل الورق وحافظات البطاقات وعلكة اللبان، ولكن ما أن يلوح عيد الأضحى مثلاً حتى ينتشر الجميع وهم يحملون أدوات الذبح والسلخ والقطع من خلاف، ثم ما أن يتناهى إلى أسماعهم منازلة فرق القمة في المنافسات الخارجية حتى يرفعون أعلامها بغرض البيع إلى أن صار ذلك التقليد نذير شؤم نتجرع بسببه الهزيمة في عقر دارنا0 ومهما تنوعت السلع لا يتخيل المرء أن يجد أحد الباعة وهو يحمل (عتوت *)0 كان ذلك ما صادفني ذات يوم عند تقاطع المشتل مع شارع عبيد ختم فلم أترك الحدث يمر عابراً إذ سألت عن سعره فقيل لي مائتا ألف جنية علماً بأن ذلك كان قبل موجة الغلاء الأخيرة0 ولو افترضنا معقولية السعر هل يعقل أن يتم الشراء في هذه الحالة دون جس وفي تلك الثواني المحدودة0

إن هذه الظاهرة تدل على إصرار الممارسين لها على هزيمة التعطل قبل البحث عن الكسب لأنه يسير، ولا شك أن هناك من يمول ويدفع بهؤلاء الباعة لأن البعض يحملون سلعاً تفوق إمكاناتهم التمويلية وإذا تحريت الدقة ستجد أن بين الباعة شباب مؤهلون مثل أولئك الذين يزرعون الطرقات بضجيج الركشات0 ولكي لا يتحول شبابنا إلى باعة هامشيين أو مستسلمين لوسائل الكسب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، أليس من الأجدى توجيههم لأعمال إنتاجية كالزراعة التي رغم عراقيلها ستعود عليهم بالكثير وعلى البلاد بما يعينها على سد فجوة الميزانية؟

? العتوت هو صغير التيس في العامية السودانية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..