مقالات سياسية

بين تهويلات الرزيقي وتهديدات الناجي: أين تكمن الحقيقة؟

دكتور الوليد آدم مادبو

“مَّن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا” (سورة النساء: 123).

في لقاءٍ له في الجزيرة مباشر ذرف الأستاذ/ الصادق إبراهيم (الرزيقي)، رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين في أواخر عهد الإنقاذ الشمولي، دمعاً سخيناً على قتلى الرزيقات الذين تجاوزوا خمسة وثلاثين ألف شهيدٍ غير الجرحى والمعاقين وزعم بأنها معركة خاسرة إذ لا يمكن لقبيلة أن تكون في مواجهة “الدولة”. قبل التكفل بالرد على هذا الحديث أود أن أتساءل أين هي الدولة؟ متى كان أعضاء المؤتمر الوطني يرعون بالاً لضحايا شعوب الريف من الحروب العبثية التي كانت تديرها الاستخبارات العسكرية؟

إن استخبارات الكيزان لم تكتف بتعبئة الشباب للمواجهات الميدانية لكنها عمدت أيضاً إلى تصفية “الغرابة” (زرقة وعرب) المنضمين تحت لواء الجيش والشرطة لأنها لا تأمن شرهم، بمعنى أنها تخشى من صحوة ضميرهم ورجوعهم إلى رشدهم الذي يستوجب انضمامهم إلى الثورة التي انتظمت ربوع الريف السوداني منذ أمدٍ بعيد متجاوزةً السقوف الفكرية المتدنية للدعم السريع. إن المشروعية الأخلاقية والسياسية للمنتصر أو بالأصح “صاحب الغلبة” تتطلب حفاظه دوماً على أعراض الناس وممتلكاتهم، فأي محاولة للتعدي أو الثأر تقدح في هذه المشروعية وتجعل من ساحة الجاني عرضة لغضب العزيز الجبار.

والآن توجب الرد على استدراك الصحفي “المخضرم” الذي نسي أن هذه ليست المرة الأولى التي تفتدي فيها الشعوب الدارفورية الوطن بالمهج، فقد كان جل الشهداء في كرري من الرزيقات والبني هلبة والفلاتة وذلك نسبة لكثرتهم وتشوقهم للشهادة. تلك مزية تمتلكها فئة من الشباب اليوم هم الأشجع والأعظم جسارة والذين يجدر بهم مقاومة الظلم في هذا الظرف التاريخي العصيب. إذ لابد من التضحية كي تعيش الأجيال القادمة بحرية وتنعم بالكرامة والإباء.

بالرغم عن الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ظلت السمة الرئيسية للدولة المركزية فإنها ما زالت تائهةً مكابرةً تتهم كل من خرج عن طوعها بالتمرد عِلماً بأن قادة الثوار في الحقب كافة لم يدعوا لغير الاتفاق على نهج جديد في التفكير (new paradigm) ينأى بالكل عن العصبية ويؤدي للناس حقوقهم دون تمييز في اللون او العرق أو الطبقة.

إن شعوباً عزمت على اقتلاع عصابة المركز والتخلص من الرجس والدنس الذي علق بالدولة السودانية جراء الاستكانة لهذه العصابة فترة من الزمن لهي شعوبٌ تستحق الإشادة والتقدير والاحترام لأنها علَّقت على جِدارية الأمة السودانية أنواط شرفٍ تستحقه إذ رفضت الدّنية وعزمت على مواصلة سيرها كي ترِد بكبرياء وشمم مورد الحرية. لقد حمل الغرب الكبير على عاتقه منذ الأزل مهمة تحرير البلاد من العملاء والتصدي لجيران السوء الذين باتوا يستثمرون في محنة السودان وهم يتظاهرون بالتخوف على مستقبله.

لن تستجدي الشعوب السودانية حقها بعد اليوم من النخب المركزية (إمّا نصر وإمّا شهادة) ولن تُطأطئ رأسها لقادة هم بمثابة قوادين اعتمدتهم الاستخبارات المصرية أو الإرترية وكلاء لها في السودان. يجب أن يعي عمسيب ومعشره — الذين جعلوا من أزمتهم الهوياتية أزمة للوطن — أن الريف السوداني قادم وأنه متحفزٌ ومستحقٌ لحكم السودان بحدوده القديمة التي ورثها عن الدولة المهدية كآخر دولة وطنية وليست تلك التي انطبعت في مخيلته الشائهة والمريضة.

بلغ التوحش مبلغه حين اجترأ أحد المهووسين، ويدعى “الناجي عبدالله”، مطالباً جهاراً نهاراً بذبح قبائل الرزيقات والمسيرية، في مشهد يعيد إلى الأذهان فظائع رواندا والتيغراي والبوسنة. ورغم فداحة التصريح، لم نشهد إدانة رسمية من الدولة أو من الجهات القضائية التي لطالما سارعت يومًا لإنزال عقوبة الإعدام على من اتهمتهم بمجرد التعاطف مع الدعم السريع. هذا التواطؤ المخزي مع دعوات الإبادة هو تعبير عن منتهى الانحطاط الذي وصلت إليه النخب المركزية، مما يضع القارئ في صورة العنف اللفظي والخطابي الذي يوازي القتل المادي، إن لم يكن ممهِّدًا له.

في أعقاب سقوط نظام البشير في أبريل 2019، وأثناء الاضطرابات السياسية التي أعقبت الثورة، اجتمع عدد من رموز النظام البائد سرًا في إحدى صالات الخرطوم في محاولة يائسة لإعادة تنظيم صفوفهم، لكن الثوار سرعان ما كشفوا الأمر وحاصروا الموقع، في مشهد كاد يتحول إلى تصفية شعبية مباشرة. لم يُنقذ هؤلاء إلا تدخل عاجل من قوة يقودها عبدالرحيم دقلو، التي أخرجتهم واحدًا تلو الآخر “كالخراف” على متن دفار (حافلة مدنية).

وما زلت أذكر وجه الناجي عبد الله، جالسًا على الأرض في مؤخرة الحافلة، مرعوبًا وذليلاً كمن ينتظر نهايته. واليوم، بعد كل هذا الهوان، يجرؤ هذا الجرذ على تهديد عيال الجنيد بوقاحة لا يفهمها سوى من فقد الإحساس بالواقع. لكنها لحظة كشفت عُري الجلاد، وسحبت من الدولة العميقة آخر أقنعتها، حين اضطرت يومها إلى الفرار لا القتال.

تُمَثِل النخب الإنقاذية نسخة متردية (degenerative form) من “دولة الجلابة” التي لم تتوخَ العدل يوماً لكنها كانت بين الفينة والأخرى تعتمد على السبل الناعمة في تطويعها للريف السوداني وتحترس قدر الإمكان من استخدام القوة المجرّدة التي قد تجعلها في مواجهة عسكرية مع جموع الريف السوداني الغاضبة.

إن مجرد تحييد الجيش عن المعترك السياسي وتصميم نظام انتخابي جديد كفيلٌ بجعل الريف السوداني، شرقه وغربه، في المقدمة عوضاً عن المؤخرة التي احتجزتها له النخب المركزية طيلة العقود الماضية. كما إن النظام الرئاسي سيحرم الأقليات المجرمة والمتواطئة مع بعضها من صدارة العمل السياسي وسيجعلها تخضع لموجهات العمل الفيدرالي الديمقراطي الذي يرفض الوصاية في دولة علمانية تجعل من السياسة ممارسة بشرية وتنزع عنها صفة القدسية.

ختاماً، وإذ ظلت هذه الدولة العنصرية تتستر على نواياها حيناً من الدهر فقد دفعتها ثورة دارفور ومن قبلها حرب الجنوب للتخلص من عباءة المؤسسية والقومية فلجأت إلى الإبادة الجماعية وسيلة للانتقام من المواطنين الوادعين في قراهم الحالمين بقيام دولة راشدة تقيهم شر الفتن ولا تترصد على الأقل بواديهم ومدنهم بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية المحرمة دوليًا والمجرمة إنسانيًا.

يقول لزلي تيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة فلوريدا وواحد من أميز المفكرين الكنديين، أنّ القوة المجرّدة من أي محمول فكري أو أخلاقي لا تفقد فاعليتها فقط لكنها أيضاً تستدعي المقاومة من الجهة المعادلة. لا غرو، فقد استمدت الحركات المسلحة في السودان مشروعيتها من بسالتها ومن عدالة قضيتها التي أكسبتها قوة دفع ذاتية ومجتمعية اصبح من الصعب إذا لم يكن من المستحيل مقاومتها، فمن الأحرى مجابتها اليوم قبل الغد بالحسنى والانصياع لصوت العقل ومن ثمّ التداعي الأخوي بين السودانيين أنفسهم تمهيداً لتشييد دولة المواطنة العادلة.

May 29, 2025

‫12 تعليقات

  1. الرجاء من هذا الكاتب أن يقرأ هذا المقالة بعد ان كتبه حتي يعرف انه يعيش في الوهم في عالم اليوم اصبح أي مرض له علاج حتي السرطان لكنّ الوهم ليس له علاجا.
    عندما تتحدث عن الريف يجب تحدد من هم البشر الذين يمثلون الريف ماذا يجمعهم و ماذا يفرقهم و عندما تتحدث عن الغرب او الشرق ايضا لابد تتحدث عن البشر الذين يعشون في الغرب و الشرق ماذا يجمعهم و يفرقهم.
    أما الذي حصل من قوات الدعم السريع لم يمس شندي او مروي انما مس الانسان السوداني البسيط الذي يعيش فقيرا في الخرطوم و الجزيرة و النيل الأبيض و كردفان و دارفور.
    الدعم السريع هو الكوز الذي يسرق و يغتصب و يقتل هو حسبو و مسار و الرزيقي و وليد مادبو و طبيق و هم اغلبهم رزيقات و مسيرية و أغلب الشعب السوداني اليوم يكره الكيزان و الدعم السريع و صمود و عملاء و المرتزقة.

    1. يا حسن أحمد و الجيش كبيرهم، لاحقاق الحق و لو على أنفسكم!! و لا يجرمنكم شنئان قوم الا تعدلوا. فهمت و لا صاحب هوى؟

  2. في الحقيقة ان ممارسات الناجي عبدالله و من سار في خطه بينت تماما أن ما يسمى بالحركة الاسلامية في السودان هي حسب معايير الاسلام عبارة عن حركة جاهلية عنصرية بكل وضوح

  3. والله يا سيد وليد كتاباتكم هذه عن التهميش والاساءات المغلفة ضد اهل الشمال والوسط أصبحت لا تهز شعرة فينا بعد تماهيكم مع اعتصام الموز ووقوفكم ضد ثورة ديسمبر المجيدة وان شاء الله الكيزان ديل يركبوكم الي يوم الدين ونحن نجلس بجانب الحيطة ونسمع الزمبريطة ،،،،اللهم خلصنا من اهل الهامش والكيزان معا….

  4. الناجى عبد الله دعا لذبح الرزيقات

    وانت دعوت لابادة الشوايقة

    ما الفرق بينكما ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!

  5. ماذا يلتحف دكتور الوليد مادبو الجلابيه و العمة والشال ،زي الجلابة العنصريين ،بدلا من الكدومول ؟؟…

    وهل الكدومول زي وطني في دارفور وغرب إفريقيا ام هو عسكري مثل الكاب والبرنيطة.؟؟.

    .وهل نظار العطاوة ،وقادة حركات الارتزاق الدارفورية المسلحه، يلبسون زي الجلابه في سعيهم الحثيث للتشبه بهم، ام انهم يتفادون لبس الكدومول لقبح منظره، وارتباطه باللصوصيه والنهب المسلح والاغتصاب والقتل؟.

    …افيدونا يا اهل العلم ان كنتم تدركون..

    1. يا جاهل العمة او العمامة زي اسلامي يتم لبسها من شرق العالم الاسلامي في اسيا الوسطى ( مثل افغانستان و اوزبكستان و تركستان ) مرورا بالكثير من الدول و وصولا الى غرب افريقيا ( مثل موريتانيا و مالي و السنغال ) و هي ليست خاصة بالجلابة او غيرهم .

      أما الكدمول فهو نفس العمة و لكن في المناطق الصحراوية لاتقاء حر الشمس و العواصف الرملية

    2. دا واحد من مخازي جهلكم المميت مفتكرين انو دولة الجلابه هي من صنعت كل شيء، الجلابه والعمه يا الكويز الشويقي عرفتها شعوب السودان قبل ما حبوبتك المشلخه الفولانيه يجيبوها من نيجيريا وان كان هناك زي خاص بدولة 56 فيجب ان يكون هو الطربوش الذي اورثكم له اجدادكم مصريين واتراك حملات الدفتردار واسماعيل باشا وبقية المستعمرين الذين دجنوكم تماما وجعلوكم مسوخا بين العرب والمصرين والاتراك وتحتقرون الاافارقه!
      لا يوجد في بقاع السودان كافه سوداني له جد يلبس الطربوش وصورته معلقه في صالون البيت سوي عند نخب اللعنه الثلاثه الشايقيه والجعليين والدناقه لأنهم منبتين قبليا

  6. أولا المقال كأنه أعد ليتم نشره غدا الخميس 29 مايو
    ثانيا بالرغم من حقيقة أن الدولة المركزية في السودان باستثناء لحد ما حقبة مايو كانت ولازالت بها تشوهات عميقة ساهمت في انحراف ميزان العدالة في السودان، ولكم أعيب على د الوليد مادبو أنه يفكر وينتقد من منظور قبلي وجهوي ضيق الأمر لا يسهم في حل مشاكل السودان المستعصية والتي تتطلب قادة يفكرون من منظور قومي وإلا رجعنا لنفس الدائرة الخبيثة إذا نجح مشروع الدعم السريع
    إذا أردتم وطنا معافا فانبذوا القبلية والجهوية

  7. اصبت الحقيقة يا جمال الهادي، ،،،مشكلة الوليد مأدبة يريد أن يصحح الخطأ بخطأ آخر، ،مشكلته انه ينتقد من منظور جهوي وعنصري وليس بنظرة قومية يريد استبدال المتاسلمين بال دقلو….!!!!

  8. اقتباس:

    (لن تستجدي الشعوب السودانية حقها بعد اليوم من النخب المركزية (إمّا نصر وإمّا شهادة) ولن تُطأطئ رأسها لقادة هم بمثابة قوادين .)…

    فخامة الدكتور الوليد هل سيكون ابنائك من ضمن طالبي النصر او الشهادة؟؟. ام سيكونوا تحت الحفظ والصون في قطر او اوروبا ،بعيدا عن لعلعة الرصاص ،ودوي المدافع، ؟؟..

    …يا دكتور لن ترسل ابنائك للمحرقه ،فهم ولدوا ليحكموا ، ويأتمر العامة بأمرهم ،كما هو حال والدهم واجدادهم. بل ستعمل جاهدا علي إرسال الغلابه والمغيبين من قبيلة الريزيقات الي محرقة حرب طي الخرطوم ،فهم رهن اشارتكم…!!…

    ..ما يقوم به ال مادبو هو عبارة عن استغلال ونفاق، وتدليس يفوق الخيال.

    …ولكن سيأتي يوم يفيق فيه هولاء المغيبين وينقلبوا علي اسيادهم نظارات و عمد قبائلهم.
    يوم ترونه بعيدا ونراه قريبا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..