أزمة العقل السياسِي السُوداني

نضال عبدالوهاب
إنجاز ثورة بكل هذا الكم من التضحيات المُتراكمة مُنذ بداية عهد ديكتاتورية الإسلاميين وإنقلابهم في 1989 وحتي سقوط نظامهم في 2019 أمر لا يتكرر بسهولة ويُسر ..
فلنجاح الثورات شروط مُحددة ..
وهو الأمر الذي حدث في ثورة ديسمبر العظيمة رُغم الستار الأمني والعسكري الباطش الذي كان يُغلف النظام السابق ..
ما هي شروط نجاح الثورات إذن:
1/ توحد الشعب علي هدف التغيير وإسقاط الأنظمة
2/ سلمية الثورة
3/ وجود قيادة فاعلة لتنظيم حركة الشارع
4/ الإستمرارية للحركة الثورية حتي الوصول للهدف بكافة أشكال العمل الثوري المُنظم
5/ إنحياز المؤسسة العسكرية ( الجيش ) لمطالب الجماهير بتسليم السُلطة لهم ..
و لعل من أهمّ شروط نجاح الثورة هو الشرط الأخير .. لأنه في حال عدم إنحياز الجيش للشارع ومطالبه لا يتم أي تغيير في إتجاه إسقاط الأنظمة المُستبدة والعسكرية .. لأن الحلول الأمنية وآلة القمع تقوم بتعطيل الخط الثوري .. حدث هذا في ثورة سبتمبر 2013 كمثال .. عدم إنحياز الجيش و تخاذل بعض القوي السياسية في دعم الثورة .. وعدم وجود قيادة فاعلة و عدم الإستمرارية .. برغم تحقق شرط السلمية و توحد الشعب لحد كبير لإسقاط النظام وقتها .. ففشلت وإستعادت السُلطة العسكرية الفاشية المُستبدة زمام الأمور لسنوات خمس بعدها حتي تحركت الثورة من جديد في ديسمبر 2018 ..
نجحت ثورة ديسمبر لأنها إستكملت شروط نجاح التغيير في إسقاط الأنظمة ..
فشروط توحد الشعب ، السلمية ، وجود قيادة فاعلة لحركة الشارع ، الإستمرارية ، ثم أخيراً إنحياز الجيش ..
ماذا حدث بعد وصول ثورة ديسمبر لمرحلة الإنتقال علي الوجه الذي إرتضته كُل القوي السياسية والشارع بعد التوقيع علي الوثيقة الدستورية كمرحلة لازمة وفارقة من أجل البناء ومواصلة التغيير بأدوات جديدة يُفترض ومهام مُحددة حتي الوصول للمدنية الكاملة والديمقراطية ومرحلة الإنتخابات ؟؟ ..
الذي حدث هو:
1/ تنصل بعض القوي السياسية عن مطالب الثورة نفسها التي يجب إستكمالها
2/ محاولة بعض القوي السياسية فرض قرارها وبرامجها الأيدولوجية علي بقية مكونات السُلطة الأنتقالية و لعب دور الحاكم الفعلي متناسية أنها جزء من تحالف له رؤية قد تختلف عنها و أن الذي يجمع الجميع هو الحد الأدني للمهام المتفق عليها وللأجندة الوطنية في هذه المرحلة الإنتقالية
3/ عدم فهم الواقع السوداني الحالي وهشاشته إجتماعياً وأمنياً من قبل معظم الذين يتعاطون مع الشأن السياسي الحالي وينتظمون داخل المشهد ويتسيدونه
4/ عدم القراءة الجيدة والواقعية أيضاً للمجتمع الأقليمي والدولي و إتجاهات موازين القوي في العالم حولنا التي تأتي أهميتها بوجوب التعامل مع هذا الواقع دون السقوط في عوامل الأيدولوجيا والمصالح الخاصة للكيانات والاشخاص ، والذي يجب أن يتعداها لمصالح السودان العُليا فقط ..
5/ عدم النزول للأجندة الوطنية وغياب تفاهمات القوي السياسية وتشاكسها وصراعها المُستمر وتناحُرها خلق تسيد للقوي العسكرية المُستبدة وبقايا النظام السابق وحلفاء الثورة المُضادة والذين كانوا في أضعف أوضاعهم وقت التوقيع علي الوثيقة برغم وجودهم كشركاء للفترة الإنتقالية .. لكن توحد القوي السياسية وإتفاقها مع قوي الشارع كان هو الضامن الأساسي لإستمرار حالة التغيير وإستكمال مهام الثورة ..
الذي أظهره واقع ما بعد نجاح الثورة هو عُمق أزمة العقل السياسِي السُوداني .. فالمكون العسكري وحلقاته الأمنية خارج حساباتنا نسبة لأنهم لا يمثلون العقل الذي نتحدث عنه في إدارة البلد والمُضي به في عمليتي التغيير والبناء ..
فشل القوي السياسية هو نتيجة مُباشرة لحجم الأزمة في التفكير والتخطيط السياسي والعقل الذي يُحركها ..
مُحاولات الرجوع بالبلاد للوراء وعدم المُحافظة علي مُكتسبات الثورة والمُحاولات المُستمرة لفرض الأجندة الحزبية والأيدولوجية لن تُقدم البلاد خطوة واحدة في إتجاه عمليتي التغيير والبناء وبالتالي الوصول للسلام والإستقرار والديمقراطية الحقيقية ونموذج الدولة الحديثة في وطن يُعاني من الحرب والإنقسام والتشظي و الفقر والجهل والمرض .. فُرصة الثورة فُرصة عظيمة صنعها جيل لا يؤمن في معظمه بالأيدولوجيا ولا ينتمي لأحزاب سياسية ولكنه عظيم الإرادة وكثيف الحُب للوطن ولا يؤمن بغير الرغبة في التغيير نحو الأفضل دائماً ويبذل من أجل ذلك كُل التضحيات ..
من الإنصاف لهذا الشعب و أجيال الثورة أن تُعيد القوي السياسية حساباتها .. عملية البناء والتغيير تستلزم عقلية للأسف غير متوفرة في معظم من يديرون هذه القوي السياسية ومن هم في قيادتها .. العقل القديم الذي ينتج أفكار هذه الأحزاب والقوي السياسية ويُشكل خطها السياسي يجب أن تدركه الثورة أولاً والتغيير قبل أن يُفكر هو نفسه في إستمرار الثورة وصولاً للتغيير ! ..
في الحقيقة كان الأولى والأجدى والأنسب أن تكتب لنا عن أزمة الضمير السوداني وعن الزيف والازدواج الأخلاقي الذي لن يجد الشرفاء الأمناء الصادقين من أبناء هذا الشعب طريقاً يسلكونه لتخليص الشعب منه مهما قدموا من تضحيات وشهداء.
هذا الزيف والنفاق والازدواج الأخلاقي “ساكن سكنة” في أوساط العوائل والبيوتات السودانية التقليدية يتحور ويتطور ويتلون بحيث يصعب تشخيصه وتمحيصه وعزله عن أنماط السلوك الغير مرضية. الأمر يحتاج لدراسة عميقة وجذرية.
خطورة هذه الأزمة العامة الشاملة من الاستعراض الزائف للالتزام بالقيم والأخلاق النبيلة تكمن -حسب رأيي – في النزاع الذي يحدث يومياً في نفوس الكثيرين بين المطلوب والمتاح، الواجب والمقدور عليه ثم الالتزام بما يفرِّط فيه الكثيرون من القيم والأخلاق النبيلة والصدق.
الشخصية السودانية منفصمة ومزدوجة منذ نعومة أظفارها وقد رضعت هذا الانفصام من الثدي .. فالحب ورضاء الوالدين والانسجام كل ذلك في غالب الأحيان ليس إلّا تكتيك وخطة يحيكها الآباء وخصوصاً الأمهات للضغط على الطفل واجباره على القيام بما ليس له رغبة فيه ولا يناسب مزاجه ثم يتم ردمه بالأحلام والآمال التي عليه أن يحققها ليس لنفسه بل للأم والخالات والعمّات .. ومن منّا لم يتربى وينمو على صوت أمه تنادي على طفلها: بكرة تكبر لي وتبقي لي دكتور ولّا مدير ولّا (رئيس للسودان كبرهان) وهنا يعشعش الزيف والنفاق والاستعداد النفسي والأخلاقي للرشوة وتدمير البلد والقبول باغتصاب النساء السودانيات في شوارع الخرطوم من قبل التشاديين ومرتزقة غرب أفريقيا من هنا يبدأ التصرف التكتيكي والانحناء للعواصف والتفريط في الرجولة والفحولة والشجاعة والوطن ويبدا القبول بالضيم والرضوخ تحت القهر المتوقع من أمثال حميدتي ومرتزقته والخيانة وانعدام الضمير ومظاهرة القتلة المجرمين وخدمتهم أمراً وإن لم يكن طبيعياً لكنه مسكوت عنه بعد أن تم التسويق له ليكون جزءاً من واقعٍ وتبارى في ترويجه الخطباء وذُِرِفَت الدموع غزيرة فرحاً بتنصيب القتلة .. عدد الشهداء غير معروف الى الآن ولكنه يناهز الألف ومئات المفقودين الذين تتسرب سوائل جثثهم المتحللة من ثقوب أبواب المشارح (إنّا للّه وغنّا إليه راجعون)
عندما يصبح النضال والكفاح والتضحية من أجل الوطن عوارة وغباء وتهور والقبول بأمثال حميدتي والبرهان كباشي شرً لا بد منه فيُفرش لهم البساط الأحمر ويقدل أمثال هؤلاء في القصر الجمهوري وفي شوارع الخرطوم اعلموا أن الشعب السوداني في عملية انتحار بطيئة
تحية طيبة لك أستاذ نضال وللراكوبة الغراء ..
أزمة الفكر السياسي والإداري لدينا هي بالفعل العائق أمام التنمية والتقدم .. فاللذين يحكمون أتوا لقسمة السلطة والثروة التي يعتبروها حق لهم كفئات ملّكها الاستعمار النفوذ السياسي في البلاد ومكنها اقتصادياً لتظل في خدمته. والحكم اللاوطني ليس معني بخدمة المواطن أو بناء الوطن وهو نفسه سبب في تجهيل وتغبيش الرؤيا لدى الشعب بحيث لا يرون الأولويات أولويات .. وهم في رأيي السبب في تفشي المفاهيم المقلوبة .. وبالتالي لا بد من تغيير المفاهيم بتوعية وتثقيف الجماهير لفرضها على الساحة السياسية. والله المستعان
الرجاء الاطلاع على الرابط أدناه فيما يخص تغيير المفاهيم من اجل تحقيق أحلام الشهداء
https://www.facebook.com/photo?fbid=10158297738048247&set=a.10151057480923247