
لصناعة الخبز، يستورد السودان الخميرة من تركيا، مصر والصين بمبلغ 250-300 مليون دولار سنوياً!
كما هو معلوم، إن المادة الخام الاساسية لصناعة الخميرة هي المولاس، الذي هو منتج جانبي لمصانع السكر، التي تنتج منه كميات كبيرة جداً في السودان.
خلال العام الماضي تعثرت المخابز لانعدام الخميرة او لتكلفتها العالية. رغم ذلك لم تكلف وزارة الصناعة نفسها بإقامة او تشجيع انشاء مصنع للخميرة (غير معقد ولا يكلف كثيراً). هذا طبعاً لان الوزارة، بعد تشكيل الحكومة الانتقالية لم تقم بدراسة شاملة حول وضع الصناعات في البلاد حتي تقوم باعتماد السياسات الإسعافية المطلوبة.
ما قدمناه حول تصنيع الخميرة ما هو الا مثال يدل علي بعد وزارة الصناعة عن القدرة علي معالجة مشاكل هذا القطاع الهام، وبالتالي تخفيف اعباء المعيشة، خلال الفترة الانتقالية.
لقد سبق وان طرحنا وطرح غيرنا في بداية الفترة الانتقالية، ضرورة اعداد مسح وتقييم شامل لكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، تمهيداً لوضع خطة اقتصادية واجتماعية “اسعافية”. للأسف، ذلك لم يتم، ومن ثم لم يتم اعداد هذة الخطة.
ان ما قدمته قوي اعلان الحرية والتغيير لم يتعدي ان يكون قاءمة او برنامج في شكل مصفوفة من الأهداف او المقترحات التي لا ترقي باي حال من الأحوال الي مستوي “خطة” بمعني الكلمة.
للأسف رغم مضي قرابة العام علي الحكومة الانتقالية، حلت مكان الخطة الإسعافية سلسلة من السياسات الغير ملائمة والمعزولة عن بعضها البعض، مما أدي الي الوضع الكارثي الذي نحن فيه الان.
مثال اخر كان من الممكن ان يساعد علي اخراج البلاد من ازماتها الخانقة، هو مشروع متوسط الحجم لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية. وهذا بطبيعة الحال يخص وزارة الطاقة. نذكر في هذا الصدد، بان موريتانيا قد تمكنت من حل مشكلة الامداد الكهربائي للعاصمة نواقشوت عبر مشروع للطاقة الشمسية في فترة وجيزة جداً، وبتكلفة لم تتعدي الثلاثين مليون دولار. كان من الممكن ان يتم ذلك في السودان بتكلفة مقدور عليها وفي فترة زمنية قصيرة نسبياً، هذا بالطبع، اضافة الي اعمال الصيانة لاجهزة التوليد وشبكة التوزيع القاءمة.
هنالك أمثلة عديدة اخري كان من الممكن ان تساعد في تخفيف حدة الأزمة المعيشية الحالية لو كان منهج المعالجة غير المنهج الذي تم اتباعه من سياسات تهدف الي ازالة التشوهات الهيكلية عبر التوجه النيوليبرالي الذي انتهجته الحكومة الانتقالية.
بكل تاكيد نحن لسنا ضد ازالة التشوهات الهيكلية من حيث المبدأ، لكن ظروف الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد تحتاج الي “خطة اسعافية” قصيرة المدي بمشروعات محددة لتحقيق الانفراجة الضرورية لتيسير معاش الناس ( الخبز، الامداد الكهربائي، إمداد مياه الشرب، توفير الدواء، توفير النقل والمواصلات).
لا نختلف حول ضرورة توفر التمويل اللازم للخطة الإسعافية، والذي كان من الممكن الحصول علي جزء كبير منه عبر مصادرة واستخدام الأموال والاصول المنهوبة وعبر سياسات عملية لاستقطاب واستخدام الموارد اللازمة بصورة رشيدة، بدلاً من سياسة زيادة مرتبات العاملين بالدولة، بالنسبة الخرافية والتي تآكلت سريعاً بالارتفاع الجنوني لاسعار ضروريات الحياة.
مرة ثانية، نحن لسنا ضد ازالة التشوهات الهيكلية للاقتصاد الكلي، لكننا لا نتفق مع المنهج الذي اتبعته ولا زالت تتبعه الحكومة الانتقالية. ببساطة رفع الدعم عن المحروقات بالطريقة التي تم بها مثلاً، يفاقم أزمة النقل والمواصلات وتكلفة الانتاج بطريقة “غير محتملة” لأغلبية السكان اللذين يعش 80% منهم تحت خط الفقر! واعتماد سعر الصرف العالي للدولار الجمركي، يحول دون قدرة المواطن علي الحصول علي الدواء علي سبيل المثال لا الحصر. لذلك هناك ضرورة قصوي لاعتماد أسعار صرف متعددة، حسب اهمية وضرورة السلع المستوردة. ولقد سبقتنا دول كثيرة في هذا النهج.
هذة أمثلة فقط لعدم واقعية ما يسمي بسياسات الإصلاح الهيكلي (روشتة الصندوق والبنك الدوليين)، في ظروف السودان الحالية وبهذة الطريقة المتعجلة. مرة ثالثة، ندرك تماماً اهمية ازالة التشوهات الهكلية للاقتصاد الكلي، لكننا نختلف في طريقة المعالجة.
بديهي انه ليس مقبولاً ان تترك البلاد ولو لدقيقة واحدة بدون الادوية المنقذ للحياة وبالأسعار المقدور عليها. ولا يمكن ايضاً السكوت علي تعطل اجهزة غسيل الكلي وتعطل ثلاجات حفظ المحاليل، في حين تقوم رءيسة القضاء وبموافقة وزارة المالية، بتوزيع سيارات جديدة للقضاة!
ان اعداد خطة اسعافية تعني بالأولويات وتفضي الي إنقاذ حياة الموطنين من الجوع والمرض الفتاك، ضرورة ملحة لا يمكن الاختلاف عليها؛ ولتبقي مسالة الإصلاح الهيكلي أمراً تدريجياً، وليس بالطريقة الموجعة التي تتبناها الحكومة الانتقالية الان.
من الموءكد، لن يجدي ما يسمي بالدعم النقدي كبديل للدعم السلعي، الذي يتطلب اكثر من 100 ترليون جنيه، ناهيك عن تعقيدات توزيعه وعدم إمكانية استدامته.
اخيراً، وحسب الوضع المعيشي المتردي الان، يبدو ان السياسة الاقتصادية المعتمدة حالياً سوف تزيل الشعب من علي وجه الارض قبل ازالة التشوهات الهيكلية. !!
وبرغم خطورة الظروف المعيشية المتردية، ما زال هنالك اصرار من قبل الحكومة علي السير في نفس النهج غير الموفق! لا ندري ما هو الدافع وراء ذلك. ولا ندري ايضاً، ما هو السبب الذي يجعل الحاضنة السياسية للحكومة، ان تظل مكتوفة الايدي ازاء نهج الحكومة التي أتت بها!!
اللهم الهم حكومتنا الانتقالية الإرادة والقدرة علي مراجعة سياستها الاقتصادية، ووضع “خطة اسعافية” عاجلة والاسترشاد بالسياسات الاقتصادية الملائمة لظرف البلادالتي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة!
د. الحسن النذير
[email protected]