حول كيفية تعاطي الدولة الدينية والعلمانية والمدنية مع المعتقدات؛ وفضاءات السلام الاجتماعي

في شأن تعضيد الاقتصاد المدني ودعم الحكومة المدنية (100 – 13)
حسين أحمد حسين
استهلال
سيتناول هذا المبحث مفهوم الدولة المتعلق بتوصيف ما تقوم به من مهام، كما أنَّه يتطرق لأنواع الدولة؛ الدينية منها والعلمانية والمدنية. وسننظر فى ميراثنا من كل نوع، وكيف أجاب كل نوع على أسئلة السودان المصيرية خاصةً تلك المتعلقة بالمعتقدات (الشريعة الإسلامية مثالاً)؛ كونها أكثر قضايا السودان المصيرية حسياسيةً في الشأن السوداني.
فالدولة بالمفهوم القائم على توصيف مهامها هى: “حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها اعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض” (لنستحضر ولادة دولة الجنوب حتى نتبيَّن تعريف الدولة هذا). وهذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الاقتصادى الاجتماعى التى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا.
فالتعريف أعلاه يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا – دين كانت؛ لا يهم أنَّها في مكة المكرمة زادها اللهُ تشريفاً ورفعةً، ولا يهم أنَّها في موسكو زادها اللهُ بيريسترويكا وغلاسنوست. كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.
فالدولة قد بدأت ثيوقراطية/دينية، ثمَّ أصبحت علمانية بأنواعها المتعددة، ثمَّ وصلت في الوقت الراهن إلي مرحلة الدولة المدنية. وهذه الأنواع الثلاثة من أنواع الدولة سيتم تناولها بالتفصيل أدناه.
أولاً، الدولة الدِّينية
عادة ما تصطرع فى ذهنية الإسلاموى مفاهيم عديدة حينما يكون الحديث عن الدولة بحسب التعريف الوارد أعلاه؛ ومن هذه المفاهيم:
أولاً، من أهم ما يختلج فى ذهنية الإسلاموى ما إذا كانت الدولة دولة إسلامية (دولة خلافة، دولة شريعة، دولة أخوانوية، إلخ) أم لا – إسلامية (دولة علمانية، دولة مدنية) وبالتالى عليه مجاهدتها وإخضاعها للإسلام. ويحدث هذا بالرغم من أنَّ أسلمتها أو لا – أسلمتها لا يعنى أىَّ شئ سوى وصول تلك الفئات المنادية بالأسلمة للسلطة كما تُخبرُنا التجربة.
فمثلاً ذات الفئات التى كانت تحكم السودان فى حكومة الوفاق قبل عام 1989 أبان الديمقراطية الثالثة (الأنصار، الختمية، الجبهة الإسلامية القومية)، بطبيعة الحال هى الأن تصطف فى ذات حلف القوى الإقتصادى (Power Block) الذى يحكم السودان الآن مع تبدل موقف الهيمنة فقط (الجبهة الإسلامية القومية، الختمية، الأنصار). فهل كان هؤلاء كُفاراً/علمانيين قبل 1989م، فمنَّ اللهُ عليهم بنعمة الإسلام بسيطرة الجبهة الإسلامية القومية (الشريحة الرأسمالية المهيمنة)، أم أنَّه محض الصراع الاجتماعى على السلطة.
ثانياً، يصطرع فى ذهنية الإسلاموى مفهوم الدولة الإسلامية التى تعتبر الحدود القائمة بين الدول الإسلامية حالياً حدوداً استعمارية، ومفهوم الدولة القطرية الموافق للتعريف أعلاه. وعادة ما يتم تجاوز مفهوم الدولة القطرية هذا بتنظيمات عبر– قطرية (التكفير والهجرة، القاعدة، داعش، الإخوانوية) توطئةً للوصول لدولة الخلافة.
ثالثاً، يصطرع فى هذه الذهنية أيضاً مفهوم المواطنة المنبثق من الدولة القطرية، ومفهوم الأُخوة الإسلامية المتماهى فى دولة الخلافة. ولا ينتهى هذا الإصطراع إلاَّ بتقديم الأخوة الإسلامية على مفهوم الأمة فى السياق القُطرى. وهنا يُقصى اللا – إسلاميون فى القطر الجغرافى الواحد (الجنوبيون مثالاً)، ويُقرَّب إسلامويون من خارج ذلك القطر (من تورابورا، تومبكتو، قُم، النَّجف، الخليج، الهلال الخصيب، إلخ).
فكأنَّنا أمام سايكس – بيكو إسلاموى (كما قال أحد الكتاب) مهمَّتُهُ إذابة الحدود القطرية القائمة الآن بين الدول الإسلامية، ولاهوت خلافة مهمَّتُهُ إذابة الفوارق بين التيارات الفكرية الإسلامية (سُنَّة، شيعة، وهَّابية، وصوفية) ومن شذَّ شذَّ فى النَّار.
متى تصبح الدولة دينية؟
تصبحُ الدولة دولةً دينيةً حينما تضعُ لنفسها دستوراً يتأوَّل (وتتأوَّل تشريعاتها القانونية والمؤسسية المنبثقة من ذلك الدستور) معتقداتٍ لدينٍ بعينه؛ تماماً كما فعلت الإنقاذ بفرضها لقوانين الشريعة الإسلامية على كل فرد فى حكومة السودان، صرف النظر عن ديانات الأقليات اللا – إسلامية. وبالتالى تتعامل تلك الدولة الدينية مع الأقليَّات التى لا تعتنق تلك المعتقدات، كمواطنين من الدرجة الثانية؛ يدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون {أو يُنْفَوْن من أرضِ أجدادهم، أو يُذبَّحون على طريقة الإنقاذ وداعش} (يوانس أجاوين وأليكس دوفال 2001).
وفى المحك العملى للدولة الدِّينية فى السودان، فإنَّ هذا الاصطراع قد فصل الجنوب؛ فدولة الخلافة العصرية/الإخوانوية ليست لها حلولاً لقضايا الأقليَّات إلاَّ بالبتر. وليتأمل القارئ الكريم انسداد الأفق لدى الدولة الدينية، وليتأمل كذلك كُلفة الوعى الباهظة التى تنتظر مجتمعات الدولة الدينية للوصول بها إلى بر الأمان مع هذا التكلُّس الفكرى الذى تعيشه بلدانُنا منذ زمن ليس بالقصير.
وبالرغم من أنَّ هذه الدولة الدِّينية/دولة الخلافة/الإخوانوية تنفى عن نفسها أىَّ صفةٍ ثيوقراطية خاصة فى صيغتها الإخوانوية، إلاَّ أنَّ سلوكها الاقتصادى والاجتماعى يُضفى على محمولها السياسى نزوعاً سلطوياً يحتكر الحديث بإسم الله (الحاكمية لله)، ومنمِّطاً للفكر على هذا الهوى. وهذا الاتجاه تجده، قارئى الكريم، أكثر وضوحاً فى كتابات حسن البنا (رسالة النور، المطالب الخمسون: أولاً فى الناحية السياسية والقضائية والإدارية: 1- القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة السياسية فى وجهة واحدة وصف واحد)، وجسدته حكومة الإنقاذ في الخرطوم (أهل القبلة).
ميراث أهل السودان من الدولة الدينية
لعلَّ إرث السودانيين من الدولة الدينية، ورصيفاتها، قديمٌ قِدَم التاريخ نفسه، وذلك حينما كان كهنة الآلهة يتدخلون فى الحياة السياسية على أيام الدولة الكوشية، ويُصْدِرون صكوك الموت أو صكوك الغفران، بحسبانها صادرة عن الآلهة؛ وعن طريقها يُعزل الملوك والحكام ويقتلون.
ورغم أنَّ أبادماك الملك الكوشى العظيم، قد عُيِّنَ إلهاً موازياً لآلهة مصر القديمة بواسطة الملك أركمانى، أى مستقلاًّ عن الإله الأكبر آمون، وفى إطار واضح لشقِّ عصا الطاعة عن آلهة مصر القديمة وقتها، إلاَّ أنَّه فى الحقيقة ملكٌ أيضاً، وجمع بين صفتى الملك والإله (راجع: عادل الأمين، الحوار المتمدن 2008)، (عبد الله الفكى البشير، سودان فور أول، أبريل 2013).
كذلك لم تكن الممالك المسيحية والإسلامية (كالفور والفونج) ولا حتى الدولة المهدية بعد ذلك، ببعيدة عن هذا الإرث حيث أُقْحِم الدين فى كل الشئون السياسية. كما أنَّنا قد رأينا من قبل فى موضع آخر (حسين: 2018) كيف أنَّ الحكم البريطانى قد آثر الإبقاء على التشكل الاقتصادى الاجتماعى السابق لمجيئه بمحتواه الديني. وقد وجدنا أنَّ من بين هذه التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية ما هو منحدر من الإرث الصوفى المرتبط بالممالك الإسلامية، وما هو متصل بدولة المهدى الدينية المنهزمة بواسطة المستعمر، وما هو ذو وشائج بِبَقايا العلماء الذين ساندوا الحكم التركى. وبعبارة أُخرى أنَّ الحكم البريطانى الكولونيالى فى السودان، أبقى على الإرث الدينى السودانى العَبر – حِقَبى الذى التصق بالسياسة فى السابق؛ وزاد على ذلك بالاعتماد على هذا الإرث اعتماداً كاملاً فى إطار ما يُعرف بفلسفة الحكم غير المباشر ورسملة الاقتصاد المعاشى.
ولم تعمل بريطانيا فينا خيراً (وهى إذَّاك ذات علمانية سياسية) حين سمحت باندماج الدين ورجاله فى السياسة؛ ظنَّاً منها أنَّهم وحدهم الأقدر على تمديد نمط الإنتاج الرأسمالى وسط الأنماط القبل- رأسمالية واللا- رأسمالية فى السودان. ولعلَّ بريطانيا (شأنها شأن كل الأوروبيين) قد تأثرت فى ذلك بإصلاحات مارتن لوثر للمسيحية، والتى التقطها عالم الاجتماع ماكس فيبر حين كان يدرس علاقة الديانة البروتستانتينية – الكالفينية (بل كل الديانات الأُخرى بما فيها الإسلام، غير أنه توفىَ قبل أن يُكمل بحثه عنه) بعمليات تراكم رأس المال (ماكس فيبر 1905).
وبالفعل وجد ماكس فيبر، أنَّ الكالفينية قد انتبذت مظاهر الزهد الكاثوليكى، ودمجت الإيمانيات بالحياة الدنيا والتزمت الجانب العقلانى فى السلوك البشرى، حتى صارت الكالفينية تُعرف بأنَّها “سبيلٌ للتأثير على الحياة الدنيا عن طريق الدِّين”. وبالتالى صار الرأسمالى الأقدر على تراكم رأس المال وإعادة استثماره (لا اكتنازه) بحسب الكالفينية، هو فى حالة عبادة قصوى؛ توازى عبادة النَّاسِك المنقطع للعبادة (المرجع أعلاه).
وبعبارة أخرى يمكن القول بأنَّ الرأسمالى ذا العلمانية السياسية – ومصدر تفوقه هو الكالفينية كما يقضى بذلك فيبر – هو رجل دين من الطِراز الأوَّل.
إذاً، يمكن القول بأنَّ المستعمر البريطانى وهو يبحث عن التوليفة المثلى التى يمكن أن تُنيبه فى تمديد النظام الرأسمالى بعد خروجه من السودان، كان قد وضع نصب عينيه رجال الدين، وقد تكرَّسَ هذا الفهم بشدة عقب ثورة 1924 المجيدة التى قادها الراديكاليون من أعضاء الجبهة المعادية للاستعمار.
ولا غروَ أنْ قامت أحزاب سودانية على الخلفية الدينية كما هو معروف لدى الجميع (الأمة، الوطن الاتحادى، الاتحاد الديموقراطى). وقد كان القاسم المشترك بين هذه الأحزاب هو الإرث الصوفى، وما يستتبعه من حالات الزهد – متلازمة الشخصية السودانية – التى جعلت عمليات رسملة أنماط الإنتاج القبل – رأسمالية/اللا – رأسمالية أبطأ مِمَّا كان يطمع النظام البريطانى الرأسمالى؛ هذا إذا ما قورنت هذه الرسملة بالإفراط فى الرسملة والتحرير الإقتصادى الذى قامت به الأخوانوية كشريحة رأسمال مالى فيما بعد، وقد كان ذلك التحرير الإقتصادى وتلك الرسملة فوق ما يطمع النظام الرأسمالى ومؤسسات تمويله الدولية.
ولعلَّ من الشخصيات ذات الخلفية الصوفية التى تأثرت باللوثرية – البروتستانتينية – الكالفينية، هو د. حسن عبد الله الترابى المتأثِّر قبلاً بآراء حسن البنا وأبى الأعلا المودودى (An-na’im: 2009)، والذى درس فى جامعة السوربون. وفى العموم لا يحتاج القارئ إلى كثير حصافة ليلتقط الآراء الكالفينية المبثوثة فى كتاباته.
وما يجدر ذكره هنا، هو أنَّه بالرغم من أنَّ فرنسا تُدين بالكاثولوكية أبان دراسة الترابى بها وما تزال، إلاَّ أنَّ كاثوليكيتها أقرب إلى الكالفينية على حد قول ماكس فيبر نفسه (المرجع أعلاه). وعلى العموم، حينما عاد الرجل كان يحمل فى جُعبته تديُّنين إثنين: التديُّن الإخوانوى المعروف والمنحدر من حسن البنا والمودودى؛ خاصة فى مفهومي الحاكمية لله وإلغاء الأحزاب، والتديُّن الثانى هو التدين الكالفينى الذى يرى فى عمليات تراكم رأس المال عبادة قصوى؛ والرجل بعد إبراهيميُّ النزوع.
هذا الوضع أضفى على الجبهة الإسلامية القومية وبالتالى على الواقع السودانى شراهة رأسمالية لم يسبق لها مثيل. ومن يومها ما عاد المُتديِّنون الجدد زاهدين فى الدنيا، وصاروا يبعدون كلَّ من يُنغِّص عليهم حلاوتَها. فبدأوا أوَّل ما بدأوا بطرد الحزب الشيوعى السودانى من البرلمان منتصف الستينات من القرن الفائت، ثم تآمروا على نظام النُّميْرى عام 1976م؛ ولمَّا وجدوا ما من بدٍّ إلاَّ بمصالحته، صالحوه وانتظموا فى نظامه بعد ذلك بنية تقويضه من الداخل. ووقتئذٍ اختلط نابل تدينهم الجديد بحابل الدولة تحت نظام مايو فأثْروْا ثراءاً فاحشاً، ولم ينفكَّا (أى تدينهم ونظام النميرى) إلاَّ بانتفاضة مارس أبريل المجيدة عام 1985م.
ولم يهدأ للأخوانوية بال، مع طريقة تدينها الجديدة، إلاَّ بالقضاء على الغريمين الزاهدين اللذيْن حازا على أموال طائلة بسبب توازنات المستعمر فى السابق، وظلاَّ فى حالة خمول رأسمالى لم يستحسنها حتى المستعمر نفسه. وبالبفعل أجهزت عليهما (وعلى مَنْ تحالف معهما من دعاة التحالفات المرحلية العضودة) الإخوانوية – الكالفينية وفرَّقتهم أيدى سبأ منذ عام 1989 وإلى نهاية العام 2018.
فالحالة السودانية تشهد منذ العام 1989 وضع الدولة الدينية فى حدودها القصوى بذلك الفهم الكالفينى؛ بل فى حدودها العبر – قطرية العميقة والمزمنة حينما نجد أنَّ المدافعين عن الدولة الدينية السودانية والمقاتلين فى صفوفها الآن رجال أعمال وعمال وغيرهم من قطر واسطانبول وكوالا لمبور، شاد ومالى، ليبيا وتونس، مصر وغزة، طهران والبصرة، وعلى ذلك قِس.
وأصدق ما يفضح هذه الدولة الدينية هو دستور السودان لعام 1998، الذى جاء فى مادته الرابعة؛ الحاكمية والسيادة: “الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والحرية والشورى، وينظمها الدستور والقانون” (منتدى التوثيق الشامل، د. حسن الترابى، النص الكامل لدستور السودان لعام 1998م).
وعلى القارئ الكريم أن يلتقط المعنى المتأبِّد فى عبارة “الحاكمية فى الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف”. وبالتالى أنَّ الذى يحكمنا ليس البشير المنقلب على حكم ديمقراطى شرعى، بل المستخلف علينا بواسطة الله عزَّ وجلَّ. ومسكوت هذه العبارة: أنَّ من يحارب الدولة والمستخلفين عليها يحارب الله عزَّ وجلَّ؛ وهنا مكمن التأبيد – مكمن الخطر.
والمحصلة نحتاج أن ننظر فى كيفية ديمقراطية للفكاك من هذه العقلية “الثيوقراط – رأسمالية” التى ليس لها حلول لقضايا السودان المصيرية القائمة على التنوع الثقافى والإثنى والدينى إلاَّ بالبتر والإقصاء والتهميش. ولننظر ما إذا كان فى مخيلة المشرِّع العلماني أو المدني حلولاً لهذه القضايا الحيوية.
ثانياً، الدولة العلمانية
إنَّ من نافلة القول أن نبيِّن للنَّاس بأنَّ أهل السودان كما كان لهم ميراثٌ مهم من الدولة الدينية (وعلى فكرة أهل السودان قد عرفوا التوحيد قبل نزول الأديان الثلاثة المعروفة: اليهودية، المسيحية والإسلام)، فهم أيضاً أصحاب ميراث عظيم فى فصل الدِّين عن الدولة (العلمانية)، بل هم الأسبق فى ممارسة التجربة العلمانية تاريخيا كما سنرىً.
وليس ثمة عجب فى ذلك، فالدولة الكوشية هى أوَّل من عرِف الدولة بمعناها المؤسسى المتداول الآن، وهى أول دولة عظمى (Supreme Power) عرفتها الإنسانية. وقد إكتوتْ دولة كوش بتناقض الدولة بمعناها القطرى ومعناها الأمبراطورى، وبسلطة الملك الإله. وبالتالى قد أغنتها التجربة باكراً أنْ تكون أوّل الواصلين إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة.
أمَّا فى الوقت الراهن، فحينما تُذكر كلمةُ العلمانية أو دعاة الدولة العلمانية، تجد الإسلامويين قد تحسَّسَوا بنادقهم، دون أن يُدركوا ما معناها، ودون أن يكلِّفَ أحدُنا – نحنُ دعاتُها – نفسَهُ عناءَ شرحها للنَّاس وتبسيطها لهم، حتى صارت المعانى عندنا كلَّها أنصافاً وحمَّالةَ أوجه، وصارتْ بذلك لقمةً سائغةً للأيديولوجيا تُجيِّرُها أنَّى شاءت؛ والأيديولوجيا لا تُكافحُ بالأيديولوجيا المضادة، بل بالحقيقة.
فمن أكثر المفردات التى تُتَاجر بها سلطة الإنقاذ فى السودان هى مفردة العلمانية، ومن الأخطاء الشائعة المُتَعمَّدة مُتاجرةً، أنْ تصفَ شخصاً ما بأنَّه علمانى. فالعلمانية هى وصف للدولة لا للأشخاص، ولكن يحقُّ لنا أن نسمِّى الأشخاص الذين يُدافعون عن علمانية الدولة بدعاة الدولة العلمانية. خاصةً وأنَّ من بينِ دعاتها أُناسٌ متدينون غاية التَّديُّن، ونعتهم بالعلمانيين (أى المُبتعدين عن الدين والمنفصلين عنه) من قِبَل الإسلام السياسى مسألة غير دقيقة ومغروضة وتكفيرية وإقصائية فى نهاية التحليل.
العلمانية إصطلاحاً – العلمانية المعيارية
العلمانية فى الإطار النظرى (وهى تكاد تكون غير موجودة فى الواقع، خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) تعنى إبعاد الدولة كليةً من التدخل فى شئون المؤسسات الدِّينية وعدم تبنى دِين بعينه ليكون الدين الرسمى للدولة. وتعنى أيضاً عدم التدخل البات للمؤسسات الدينية فى الشئون السياسية. إذاً، العلمانية هى مرتكز يقوم على فرضيتين: الأولى هى الفصل القاطع بين الدولة والمؤسسات الدينية، وعدم تدخل أىٍّ منهما فى شئون الآخر. والثانية هى مساواة جميع النَّاس – بمختلف أديانهم ومعتقداتهم – أمام القانون الذى لا يتأوَّل ديناً بعينه (National Secular Society – What is Secularism?).
مدخل للعلمانية وأنواعها
يذهب المصطلح تاريخياً فى رحلة مخاضات عديدة منذ ولادته فى الفلسفة اليونانية القديمة، غير أنَّ ثورة التنوير فى أوروبا قد أكسبته زخماً جديداً يمتد أثره إلى يومِ النَّاسِ هذا. وهذه الأُطروحة تُعنى بتطوُّر المصطلح المتناغم مع تطور التشكل الاقتصادى الاجتماعى وتطور القوى المنتجة فى المجتمعات المحددة كما أسلفنا.
فمثلاً عند قدماء اليونان، كل ما يُناقض/يُقابل السلطة الدينية يُسمى علمانى؛ وهذا اشتقاق مفاهيمى متعلق بالجماهير فى مقابل النخبة الدينية. أما عند العرب وبنى عمومتهم، فاشتقاق المصطلح اشتقاق لغوى؛ يعود لمفردة العِلْم؛ أى لكلِّ ما هو أرضى/دنيوى (وليس العلم بمعناه الحديث). وقد طوَّر الأنجُلوساكسونيون المفهوم من واقع تجارب مريرة مع السلطة الدينية حتى بلغنا بصيغته الحالية.
ولقد انطوت العلمانية منذ ولادتها الجديدة فى عصر التنوير حتى اليومِ على كثير من التحوير المناظر أو المغاير للتعريف الإصطلاحى المعياري أعلاه. فمثلاً، البريطانى جورج جاكوب هوليوك (1851) يرى فى العلمانية “نسقاً من الأخلاق مرتكزاً على الفعل العقلانى الرشيد، والنَّافع للجميع فى العالم الذى نتقاسم عيشه”. والبعض من أمثال تشارلز برادْلاف – المنتقد اللدود لهوليوك – يرى فى العلمانية “انتباذ اللاهوت، والرفض الصريح لوجود الإله وكلِّ ظاهرة لا يمكن التحقق من وجودها المادى”. كما أنَّ البعض الآخر لا يرى العلمانية كمركّب أخلاقى ولا لاهوتى، ولكن يتصوَّرها كمركّب سياسى؛ بحسبان أنَّ العلمانية تركِّز بشكل شبه كامل على العلاقة بين الكنيسة والدولة (الدين والدولة).
وعلى عكس الاعتقاد السائد خاصةً فى ذهنية الإسلامويين، فإنَّ المفهوم السياسى والمفهوم الأخلاقى للعلمانية لايعنيان بالضرورة إرجاعهما لمجرد الفصل الحرفى المعياري بين الدين والدولة؛ والذى من الممكن أن يكون أحد خيارات البرنامج السياسى العلمانى والأخلاقى العلمانى. ولكن هناك وجوداً لإنواع أخرى للمفهوم تتراوح ما بين: علمانية تصالحية (Accomodationism)، علمانية معارضة لدعم الدولة للكنيسة (Disestablishmentarianism)، علمانية الحياد المطلق للدولة (Strict State (Neutrality، العلمانية الفرنسية (French laïcité)، والعلمانية اللا- أدرية (Non – cognizance) (وقائع مؤتمر العلمانية على المحك: جامعة جورج تاون/ فبراير 2013).
ووجب علينا أن نشير هنا إلى أنَّ الكثير من الدول قد اتخذت من العلمانية بتنوعها المذكور أعلاه فلسفةً للحكم. فالبعض نحا بها نحو المفهوم الإخلاقى (سمّاها نسقاً من الأخلاق)، لم يُسمِّها فى دساتيرِهِ، ولم يُسمِّ ديناً بعينه للدولة (كبريطانيا التى ليست لها دستوراً مكتوباً، ولكنَّ الملكة هى رأس الدولة ورأس الكنيسة). والبعض الآخر ذهب بالعلمانية مذهباً إلحادياً، يُنكر الإله ويحرِّم التعاطى مع الأديان (الاتحاد السوفياتى سابقاً)؛ وإنْ تعامل مع الإلحاد تعاملاً عقائدياً (كأنَّه دين).
كما أنَّ الكثير من الدول تبنَّى العلمانية السياسية؛ سمَّاها فى دساتيرِهِ، ولم يتبنَّ ديناً للدولةِ بعينه (أمريكا، كندا، فرنسا، كوريا الجنوبية، الهند، وإسرآئيل) ولكنَّها تعاطت مع الأديان بشكل أو آخر. كما أنَّ هناك دولاً تبنَّتْ العلمانية التصالحية وإن نّصَّتْ دساتيرُها على دينٍ بعينه للدولة (مالطا، اليونان، مصر) (راجع المرجع أعلاه، والموسوعة الحرة).
فالشاهد، ما من دولة إلاَّ وقد كان لها تماس مع الأديان، وحتى التى تبنَّتْ الإلحاد اتخذتْ منه ديناً. كما أنَّ العالم بسقوط العلمانية الإلحادية فى الاتحاد السوفياتى السابق، قد أصبح خالياً بالتمام من أى دولة علمانية إلحادية تناصب الدين العداء.
وحينما نصبغ على الدول التى تبنَّتْ العلمانية السياسية صفتها الكالفينية، سنجد أنفسنا أمام عالم ليس فقط خالياً من الدول الإلحادية، بل هو فى غاية التَّدَيُّن؛ تديُّن سمته الشَّرَهُ فى التراكم الرأسمالي وليس اللِّحَى. وليس أدلَّ على ذلك من صعود الأحزاب اليمينية؛ المسيحية واليهودية والإسلامية إلى سِدة الحكم فى معظم بلاد العالم فى الثلاثة عقود المنصرمة.
العلمانية فى محك التشكُّل الإقتصادى الإجتماعى
من الواضح أنَّ المفاهيم تتطور بتطوُّر احتياجات المجتمع؛ تلك المرتبطة بتطوُّر قواه المنتجة فى الواقع الذى يعيش فيه ذلك المجتمع. ومن المؤكّد فى وضعية اقتصاد مشاعى/عبودى؛ قائم على الجمع والالتقاط، فإنَّ المجتمع لا يحتاج لِأكثر من واعظ دينى (ومن شاكله) لتنظيم حياة النَّاس؛ فكانت النخبة الدِّينية هى كلَّ ما تحتاجه مجتمعاتهم. أمَّا أنْ تكون النخبة الدينية هى كل ما نحتاج فى رأسمالية ما بعد الحداثة، فذلك أمرٌ لا يستقيم.
لا غروَ إذاً، أنَّ نرى فى اليونان القديمة – إمتداداً إلى أزمنة نمط الإنتاج الخراجى – أنَّ الشعبوى، أى كل ما يرتبط بالجماهير/الشعب يكون علمانياً مستحقراً فى مقابل الإكليروس (النخبة الدينية)؛ فكان العلمانيون/الجماهير يأتمرون/يُحكمون بأمر الإكليروس (صلاح نيوف: مفهوم الإكليروس والمثل الأعلى العلماني، إيلاف، 25 مايو 2007).
وظلَّ هؤلاء يسيطرون على مجتمعاتهم حتى ظهور الميركانتالية التى حاول الإكليروس مقاومتها بأبشع أنواع الحروب التى عرفتها الإنسانية – الحروب الصليبية. ولكن هيهات، فالتاريخ يذهب فى اتجاه واحد فقط، ولابد للتطوُّر من أن يشقَّ طريقه رغم أنف السيادة السابقة للأيديولوجى.
لقد قوّضتْ الرأسمالية الميركانتالية الإقطاع، واستُبْدِلَتْ نٌخبةٌ بِنُخبة، فحدد المجتمع البرجوازى احتياجاته: سياسى/رأسمالى، عالم/إنتربرينير، وعامل/ماكينة. أما الإكليروس فاعتقلتهم طريقةُ تفكيرِهِم فى دور العبادة، حتى إشعارٍ آخر.
ومع علو كعب السياسى، أى علو سلطة الدولة على الأيديولوجيا الدينية، أبان الثورة الصناعية وانتشار الفكر الماركسى وابتخاس الديالكتيك الهيقيلى، بدأ النَّاسُ يبتعدون عن الدِّين، خاصةً عن الكاثوليكية الممعنة فى الزهد. ولو لا الإصلاحات التى أحدثها مارتن لوثر على البروتستانتينية؛ تلك التى رأى فيها ماكس فيبر إلهاماً عظيماً للرأسمالى (خاصةً البروتستانتينية – الكالفينية)، والتى جعلته عابداً مُتنسِّكاً وهو يُمعظم من أرباحه، لهجرَ النَّاسُ المسيحيةَ بالكلية.
وفى تلك الفترة، بدأت العلمانية السياسية، اللا – أدرية، والإلحادية تطغى بشكل واسع وسافر؛ أكثر من الأنواع الأخرى من العلمانية: كالأخلاقية/العلمانية البريطانية، التصالحية، علمانية الحياد المطلق للدولة. ولعلَّ العامل الذى شجعَ على انتشار هذه الأنواع من العلمانية هو تبنى السياسي (الدولة) لها، وانقسام العالم فى حالة من التنافس بين علمانية إلحادية تبناها الاتحاد السوفياتى ودول المعسكر الشرقى لِأكثر من 70 سنة، وعلمانية سياسية تبنتها دول المعسكر الغربى خاصة بعد إصلاحات مارتن لوثر.
وبالطبع استمرَّ هذا الوضع المحتدم من التنافس بين أنواع العلمانية المختلفة على أشَدِّهِ حتى سقوط الشيوعية عام 1989م، وعودة الأديان إلى البِيَعِ والكنائسِ والمساجدِ فى أوروبا الشرقية. وعند هذا الحد، اُسْتُبْدِلَ التواكل الشيوعى بالبروتستانتينية – الكالفينية النَّهِمة، التى بدأ معها تلاشى العلمانية الإلحادية (التى باتت توجد كمجرد احتمال)، وذيوع العلمانية السياسية والأنواع الأخرى من العلمانية: كالأخلاقية والتصالحية والعلمانية البريطانية، بين الذين اكتَوَوْا بجحيم الدولة العلمانية الإلحادية خاصةً فى شرق أوروبا ودول العالم الثالث.
ولقد أصبحتْ الرأسمالية العالمية على أيّامِنا هذى، أكثر شراهةً بتحوُّل العلمانى الروسى الملحد إلى علمانى سياسى يتنسَّكُ بالإمبريالية فى أوكرانيا وسوريا والعراق وربما السودان، كما تنسَّك من قبل فى أوروبا الغربية فى الشتآءات التى أعقبتْ البروسترويكا – خاصةً فى بداية الألفية الثالثة – حيث رفض الدُّب الروسى بيع الغاز لأوروبا الشرقية والغربية معاً بالطريقة القديمة المدعومة من قِبَله، وباعه لهم بسعر السوق التنافسى آنئذً، وعاجلاً غير آجل (Cash on delivery). وقد كادتْ أن تحدثَ كارثة إنسانية للدول الشرقية التى تغربنتْ حديثاً، لو لا دعم الاتحاد الأوروبى لها.
أيضاً، فإنَّ هذا العلمانى السياسي الجديد النَّهم، قد أملى على أوروبا الغربية شروطه حينما بادر بتسديد ديونه عليها فى 2006 عقب طفرات البترول والغاز والذهب، والبالغ قدرها، أى الديون، 400 مليار دولار. وفى البدء رفض الغرب تسديد الروس للديون دفعة واحدة (إذْ أنَّ خدمات تسديد الدين أهم من أصل الدين)، ولكنَّ الدب الروسى قال لهم: “هذه نقودكم، خذوها أو أتركوها للأبد”. فاضطرتْ الدول الغربية لأخذها راغمة؛ وهكذا خرج هذا الدب الروسى من ربقة الديون للغرب الرأسمالى حتى إشعار آخر.
إذاً فلينتبه الضعفاء، فالرأسمالية العالمية بعلمانيتها السياسية وهى بهذا الشره الرأسمالي (وهى فى حالة عبادة قصوى بحسب معايير ماكس فيبر) لا تجد حرجاً فى تبنى أيِّ دين (It can accommodate religions) يضيفُ تجلياً وفتحاً رأسمالياً جديداً إلى النظام الرأسمالى العالمى. وهنا يسقط العجب فى شأن زواج المتعة بين الرأسمالية العالمية/العلمانية السياسية والإخوانوية ـ الكالفينية فى مقابل الدِّين السلفى الذى تتبناه العروش العربية التى يعِدّها الغرب غير مواكبة لرأسمالية ما بعد الحداثة. بل إنَّ الإخوانوية أكثر شراهة من الرأسمالية الغربية نفسِها وذلك لعقليتها اللُّصة، ولكونها مستجدة نعمة، وتحسبُ أنّها تُحسِنُ صنعاً وِفْقَ ما تتعبَّد به من فقه الضرورة.
ولعلَّ الإرهاص بتمدد العلمانية السياسية على حساب العلمانية الإلحادية (روسيا لا تنتج للاستخدام فقط ولكنها وإنْ سمَّت نفسها اشتراكية فهى تنتج للتبادل مع العالم الرأسمالى. وفائض القيمة التبادلى هذا هو الذى عجل بالتحول إلى الرأسمالية كما يقول رودَنِشتاين رودِن وسمير أمين وبسام طيبى وغيرهما)، قد بَكَّرَ بظهور أول ثورة إسلامية فى العالم العربى والإسلامى حتى قبل سقوط الشيوعية بعشر سنوات؛ وهى ثورة الخُمينى على نظام الشاه، والتى سلَّحها الاتحاد السوفياتى من الألف إلى الياء، فى مقابل تسليح أمريكا لنظام الشاه.
فتلك الثورة الإسلامية، وذلك السقوط المدوى للشيوعية والتحوُّل للعلمانية السياسية، قد كانا ملهمين وكافيَيْن للعديد من الحركات والصحوات الإسلامية المتشبعة بالكالفينية (الجبهة الإسلامية القومية فى السودان مثالاً)، لتشعلها حرباً إنتهازيةً على العلمانية بوصفها كلها إلحادية بالرغم من وجود أنواع أخرى للعلمانية وهى ليست بالطبع إلحادية كما بيَّنا؛ والأهم من ذلك أنَّ هذا الحركات والصَحَوات الإسلامية تعلم ذلك. ولكنَّها راحت تَصِمُ بالكفر كلَّ من يتكلم عن العلمانية؛ حتى تلك التى تتبنَّى ديناً رسمياً للدولة (كمصر وغيرها).
هذا التحوُّل بالطبع يواكب جدلياً التحوُّل على مستوى التشكُّل الاقتصادى/الاجتماعى فى الأطراف، وهو هيمنة الاقتصادى مع اكتمال تمدد النظام الرأسمالى هناك، وبداية الابتزاز غير المباشر للعمل (سياسى/رأسمالى، عالم/إنتربرينير، عامل/آلة). وسيظل الاقتصادى مهيمناً فى الأطراف، مصحوباً بهيمنة تدريجية للنظرى/للعلمى الذى هو فى الأصل قد ساد فى المركز منذ زمنٍ ليس بالقصير؛ حيث صار النَّاس يعتقدون فى العلم أكثر من اعتقادهم فى الأديان.
وقد حاولت الجبهة الإسلامية القومية جاهدة أنْ تُخرج تديُّن أهل السودان الصوفى من زهدِهِ، بزرع الروح البروتستانتينية الكالفينية فيه، وبالتالى إضفاء صفة العلمية على طريقة تديُّنها، وذلك بتدريب آلاف من كوادرها على حساب الشعب السودانى الذى سرقت تعليمه وصحته وحاربت خياراته العلمانية ومن يدعو لها. وعليه صار الإخوانوى متعلِّماً ومتديِّناً وعلمانياً سياسياً على الطريقة الكالفينية، ومن ثمَّ ما عاد يرى من حاجةٍ لعلمانية الغرب الإلحادية مع علمية الجبهة الإسلامية القومية ودولتها الكالفينية التى تعتقد فى العلم والدين والعلمانية السياسية معاً.
وبهذا السلوك باتَ من الواضح أنَّ الدولة الدينية ضيقة الصدر بمن هم ليسو على شاكلتها، وغير متصالحة مع الأقليات الدينية (ففصلتها، ببساطة لأنَّها لا تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة)، وبغيضٌ لديها الحديث عن العلمانية الغربية ودعاتها. ورغم تعدد أنواع العلمانية وإنتفاء العلمانية الإلحادية من الوجود، إلاَّ أنَّ الدولة الدينية راحت تصمها كلها بالكفرِ إصراراً وترصداً ولحاجةٍ في نفسِ يعقوبها.
إذاً ما تفعله الدولة الدينية بالعلمانية باطلٌ أُريد به باطل، والغرض من كلِّ ذلك هو أنَّها تُريدُ أن تتأبَّدَ فى لحظتها التاريخية، بعيداً عن المنغِّصات. ولحسنِ حظ الدولة الدينية الإخوانوية (وسوء حظها فى المدى الطويل) أن العالم الغربى منذ سقوط الشيوعية وانحسار العلمانية الإلحادية ونبرها الأيديولوجى المُبْغِض/المُغالِب لكلِّ ما هو دينى، بدأ يبحث عن غريم للشيوعية؛ ولعلَّه قد وجده فى هذه الإخوانوية المنوط بها الآن تثوير التشكل الرأسمالى فى بعض الدول خاصةً الغنية بالموارد. الأمر الذى جعل صوت الأيديولوجيات الدينية يعلو من جديد، وجعل الإخوانوية تتغنَّى بمعزوفة مناصرة الغرب لها المؤقتة والغير محمودة العواقب. ويترافق مع ذلك تشدُّد دينى مسيحى ويهودى على مستوى الكوكب كما أسلفنا؛ نتج عنه صعود العديد من الأنظمة اليمينية المتشدِّدة فى أوروبا وإسرائيل (راجع مؤتمر العلمانية على المحك المذكور بعاليه).
والسؤال الذى يطرح نفسه: هل من قراءة فى مسطورات التاريخ والتشكل الاقتصادى الاجتماعى تُضفى على الدِّين الأهمية التاريخية التى يمرُّ بها الآن فى الشرق (وفى الغرب على نحوٍ ما) وفتنته بالمال والسلطان – حتى طُمِسَ جوهرُهُ بالفساد والدموية – خارج كونه البديل الغريم للشيوعية؟
والمحصلة، أنَّنا إذا أخذنا العلمانية فى الإطار المعياري النظرى: “منع الدين من التدخل فى شئون الدولة ومنع الدولة من التدخل فى الشئون الدينية بغرض مساواة جميع النَّاس أمام القانون، والتعاطى مع معتقداتهم بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بحقوقهم الأساسية”، سنجد أنَّ جميع دول العالم تتخلَّف عن هذا التعريف المعياري بدرجات تعكس مدى تطور القوى المنتجة فى المجتمعات المختلفة؛ الأمر الذى يجعلها جميعاً دولاً دينيةً بالمِعيار النسبى. وقد شهدنا بعاليه دولاً أقرَّتْ العلمانية فى دساتيرها، لكنَّها لم تجد بُدَّاً من التعاطى مع الدين؛ وشهدنا دولاً أُخرى تبنَّتْ العلمانية الإلحادية (كعقيدة)، ثمَّ تركتها وتعاطت مع الدين عقب العام 1989م؛ وثمَّة دول أُخرى فى العالم وصلت حد تديُّن الدولة بصعود اليمين اليهودى/المسيحى والتيار الإسلاموى المتشدِّدَيْن.
ميراث أهل السودان من الدولة العلمانية
كما جاء بعاليه، فإنَّ الإله آمون المصرى كان يخوِّل الكهنة بالقتل المقدس، الذى بموجبه يُعزَلُ الملوك والحكام، وبه يُقتلون. غير أنَّ الملك أركامانى قد ثار على الإله آمون وتمرَّدَ عليه، وأجهز على كلِّ الكهنة الثيوقراطيين الذين كانوا يحتكرون لِأنفسِهم الحق المطلق فى التكلُّم بإسم الإله وتفسير وَحْيِهِ، وقام بتحريم قتل الملوك الطقوسى.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل إنَّ الملك أركامانى قام بفصل السلطتين الدينية والدنيوية التى كان يحتكرها الكهنة النَّبَتِيُّون، فآلت له سلطة الدنيا وعين لسلطة الدِّين الحارسة لدولته الإله الأسد أباداماك (بروفسير أسامة عبد الرحمن النور: مجلة أركامانى الإلكترونية).
كان ذلك أوَّل ميراث لِأهل السودان (إن لّم يكن للإنسانية جمعاء) من ممارسة فصل الدين عن الدولة، الذى أفرزه واقعٌ مهمٌّ هو إستحالة أن يكون لفردٍ/أو جماعةٍ ما، إحتكار تفسير الوحى الإلهى واحتكار الحديث بإسمِ الذات الإلهية غير الأنبياء المرسلين. وكل من يسعى لذلك من البشر بإدعاء معرفة (لم يتلقَّاها من الله خالصة كالأنبياء) بمراد اللهِ فى خلقِهِ من غير مؤسسات جماعية حرة، وديمقراطية ومؤسسات رقابية تُعاير إدِّعاءه، فإنَّه يُساهم فى انحراف الدِّين عن لحظةِ الرحمة (كان هذا الأمرُ نبوةً ورحمة، وكائنٌ خلافةً ورحمة) بدرجةٍ أو بأُخرى؛ وَعِىَ ذلك أم لم يعِ.
ولم يقف على أىِّ حال ميراثنا كسودانيين من الإرث العلمانى عند تلك التجربة، فقد تلتها فترات أُخرى من فصل الدين عن الدولة ولو بدرجات متفاوتة ونسبية. وإذا تجاوزنا الرِّدة عن إرثنا العلمانى ما بين 550 – 1500م (فترة الممالك المسيحية: نوباتيا، المَقرَّة، عَلَوَة؛ حيث جمع ملوك النوبة المسيحية فى السودان بين سلطتى الدولة والدين من جديد)، فإننا نجد – مثلاً – أنَّ ملوك السلطنة الزرقاء، لم يجمعوا بين السلطتين السياسية والدينية بذات درجة الممالك المسيحية، حيث كان شيوخ الطرق الصوفية على رأس المؤسسة الدينية وكانوا أقرب وألْصَق بالجماهير منهم بالملوك (حيدر إبراهيم على: الإنتلجنسيا السودانية بين التقليد والحداثة: المستقبل العربى 1987م، تاج السر عثمان: الميدان، ديسمبر 2013).
ولعلَّ عدم وجود طبقة دينية متماهية فى السلطة والسلطان، قد مهَّدَ الطريق ليبتدع سلاطين السلطنة الزرقاء “ما – يشبه – الدستور – العلمانى” المعتمد على الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية (تاج السر عثمان، المرجع أعلاه). وكأنِّى بالشريعة هنا ترمز للمؤسسة الدينية، والأعراف المحلية ترمز للسلطة السياسية فى إطارين شبه مستقلين، لا يتدخل أحدهما فى شئون الأخر إلاَّ فى حدودٍ ضيقةٍ ومعروفة (كالأحوال الشخصية)، وربما كان تدخلاً حميداً ((Benign.
لقد استمرَّ منوال العلمانية “الزرقاء” فى ظل الحكم التركى؛ ذلك المتداعى الزائل بظهور الميركانتالية وهيمنة السياسى على الأيديولوجى. وفي الحقيقة ما كانت تركيا “المريضة” آنئذٍ تهتم بالدِّين مقدار اهتمامها بحكمها المتهافِتْ والمحاولات اليائسة لتثبيته.
وفى هذا الأثناء حاول الأيديولوجى فى السودان الانتصار لنفسه فى لحظة قاتلة من تاريخ التشكُّل الرأسمالى العالمى المهيمن (هيمنة الرأسمالية التجارية) متمثلاً فى الدولة المهدية التى كانت تسبح عكس التيار بكلِّ المقاييس. ولذلك لم تكن المهدية لتعيش طويلاً، فقد كانت مجرد فَوَاق صيرورة (Hiccup) فى ظل شراهة الرأسمالية الميركانتالية التى اكتسحت كل العالم واكتسحتها.
هذا الواقع عجّل برحيل دولة المهدية الدينية بالطبع، وعودة العلمانية من جديد، متمظهرة فى الحكم الثنائى الإنجليزى المصرى فى السودان. واستُعيدَتْ/استُلهِمَتْ العلمانية الزرقاء من جديد، ولكن بشروط رأسمالية متجاوزة للميركانتالية. وهنا لم تعد السلطة الدينية ذات تأثير كبير فى المجتمع، إذا ما قارنَّاها بسلطة فئة التجار (الأجانب بخاصة والمحليين على وجهٍ عام) فى المرحلة الأولى من الاستعمار. غير إنَّ المستعمر بإيحاء من الرأسمالية المستبطنة للبروتستانتينية الكالفينية، قد قام بدعم الفئات الدينية فى الفترتين الثانية والثالثة من الاستعمار لتقوم هى الأخرى برسملة كل المجتمع السودانى نيابة عنه فيما بعد كما جاء آنفاً.
غير أنَّ تلك المجموعات الدينية (كما جاء بعاليه) ذات الخلفية الصوفية الزاهدة لم تلتقط الروح الكالفينية فى الرسملة، فراح يغذيها الاستعمار الجديد تثويراً بطموحات العسكريين النَّزقِة تحالفاً مع أُؤلئك التُجَّار، إلى أنْ أطبقتْ الفئات المتشبعة بالروح الكالفينية (الجبهة الإسلامية القومية)، فأسرفت فى الرسملة فوق ما تطمع الرأسمالية العالمية ذات نفسها ومؤسسات تمويلها الدولية.
هذه الجبهة الإسلامية القومية الكالفينية عطْلتْ دستور السودان شبه العلمانى السودانوى المنحدر من كوش والسلطنة الزرقاء، واستبدلته بدستور المودودى وحسن البنا: “الحاكمية لله”، و “المستخلفة فيه” الجبهة الإسلامية القومية الكالفينية بانقلاب عسكرى لمدة ثلاثين عاماً.
خاتمة
هل يستطيع العقل الإسلاموى أن يُثبتَ لنا وجود دولة علمانية واحدة بالمعنى الحرفي للعلمانية الإلحادية التى يتخوَّف منها بعد العام 1989م فى محك التشكل الاقتصادى الاجتماعى العالمى؛ أى خارج نطاق أيديولوجيته الدينية؟ والإجابة هى: أنَّ الإسلاموى يعى تماماً بعدم وجود العلمانية الإلحادية التى يتخوف منها فى كل العالم منذ نهاية الحرب الباردة. ويعى بأنَّ الحزب الشيوعى السودانى كحزب متهم بالعلمانية لم يتبنَ مُطلقاً العلمانية الإلحادية منذ بواكير نشوءِهِ، وبذلك هى مسألة شخصية لمن يريد أن يعتنقها وليست بالرسمية داخل مؤسسة الحزب. وفى هذا الإطار الشخصى فإنَّ عدد الملحدين من أبناء الجبهة الإسلامية القومية (1200 ملحد “إسلاموي”) يفوق عدد جميع الملحدين فى كل السودان؛ ناهيك عن عددهم بين أعضاء الحزب الشيوعي السوداني.
وبالطبع يعى الإسلاموى كلَّ ذلك، ولكنَّه يتخذ من العلمانية فزَّاعة أيديولوجية يستدر بها عطف النَّاس البسطاء ويُجيِّرُهُ لجهة تأبيد نظامه ولحظته التاريخية وسرقة هؤلاء النَّاس البسطاء (قال عضو البرلمان المستقل الطيب إبراهيم: إنَّ السودان ليس ببلد فقير، ولكن أفقره الشعب السوداني بسياساته). ومتى كان الشعب السودانى يصدر السياسات أيَّها العاطلون عن المواهب، العاطلون عن الوطن!
أقول ما أقول، وقد يكون بإمكان دولة العلمانية السياسية مساواة جميع النَّاس أمام القانون بمثولهم أمام قانون وضعى يُتّفق على تطبيقه على الجميع، ولكنَّه لن يرفع الحرج العَقَدى عمَّن يُريد تطبيق معتقداته على نفسه (عمَّن يُريد تطبيق الشريعة الأسلامية على نفسه) أفراداً أو أقليات/أغلبيات، مما يجعل الحقوق الأساسية لهؤلاء الأفراد والأقليات على المحك. وإذا كان بالإمكان لدولة العلمانية الإلحادية أنْ تتنزل فى أرض الواقع من جديد – وذلك خيارٌ محتمل كما أسلفنا – فكلُّ ما هو دينى سيكون على المحك وهو مصدر خوف كل المتدينين في السودان؛ وهو خوفٌ مشروع.
ونرجو أنْ تبتدع العلمانية السودانية حلولاً تُجيبُ بها على مثل هذه التساؤلات بشكل ديمقراطى غير متعسِّف، حتى لا ينفر منها المتدينون المدافعون عنها (الفكر الجمهورى مِثالاً)، ولو بشكل مؤقت.
ثالثا،ً الدولة المدنية
لاشك أنَّ بدايات السلوك المدنى نبعتْ من أول أسرة من لدن سيدنا آدم عليه السلام، ثمَّ من المصادقة على عقد اجتماعى للعشيرة، ثمَّ للقبيلة ثمَّ فى نهاية المطاف آل الأمر للدولة. وقد كانت الغرائز وحدها – لاسيما الشجاعة والخوف – على أيام العهود البدائية قبل ولادة الدولة هى التى تدفعُ بالنَّاسِ للصراعات وتكفَّهم عنها ((Jean Jacques Rousseau 1913.
ثمَّ من بعد ذلك استطاعت الأديان – خاصةً التى بقِيتْ خالية من الهوى والغرض فى التأويل والتحريف البشرى – أنْ تمدَّ الإنسانية بأنصع العقود الاجتماعية التى قد أسَّستْ للحال المدنى الذى أنجب الدولة الدينية، فالدولة العلمانية ثم مؤخراً الدولة المدنية. وعبر هذه الصيرورة قيَّدَ الفردُ نفسَه، من حال التعامل الغريزى مع محيطه، بحال مدنى/بعقد اجتماعى فصله عن التعامل البوهيمى مع ذلكم المحيط.
ويجب علينا أن نوضِّح هنا بأنَّ عبارة الـ (Civil State) التى ظهرت فى كتابات جان جاك روسو 1712- 1778م، ما كانت لتعنى الدولة المدنية، بل تعنى الحال/الوضع المدنى خاصةً إذا علمنا أنَّ جينولوجيا الحديث عن طبيعة الدولة الرأسمالية نفسه هو حديث ورد فى التاريخ المعاصر (بدائياته عند أنجلز ولينين، عميقه عند الماركسيين البنيويين وغيرهم من اللاحقين كما بينَّا في موضع آخر).
وفوق ذلك فإنَّ الغربَ لا يعرف مصطلح الدولة المدنية، ويعتبره مصطلحاً شرقياً. ونحن هنا نؤكد بأنَّ مصطلح الدولة المدنية، كمقابل لمصطلحى الدولة الدينية والدولة العلمانية، هو مصطلحٌ سودانىُّ الجنسية وأبوه (The father founder) هو المفكر الجليل محمد إبراهيم نقد رحمه الله (محمد إبراهيم نقد، حل مشاكل السودان يتمثل فى دولة مدنية، الحوار المتمدن: العدد 425، 15/03/2003، محمد إبراهيم نقد، حوار حول الدولة المدنية 2012).
وأقول ما أقول، لأنَّ كثيراً من الكتابات التى طالعتُها تحاول أنْ تُمصِّرَ المصطلح، أو تُسَوِّرَه، أو تُمغرِبَه، أو تُبغْدِدَه؛ وذلك يحدث فقط لأنَّ الغرب قال أنَّ مصطلح الدولة المدنية مصطلحاً شرقياً؛ فالكلُّ هبَّ لينسبه لنفسه؛ ولكنَّه، شاءَ من شاء وأبى من أبى، فهو سودانىُّ الجنسية.
وصحيحٌ أنَّ هناك العديد من الكتابات التى تناولت المجتمع المدنى وأهميته فى الثلاثة عقود المنصرمة فى المنطقة العربية والإسلامية (راجع مثلاً: عزمى بشارة، محمد الغيلانى، الحبيب الجنحانى، عبد الإله بلقزيز، إلخ)؛ وفى الغرب منذ أزمنة سحقية؛ إلاَّ أنَّها كلُّها لم تنفذ إلى حقيقة الدولة المدنية كما كتب عنها المفكر محمد إبراهيم نقد؛ وإن كان هناك بعض الكتاب العرب (د. أحمد زايد: 2011) الذين أضافوا لمفهوم الدولة المدنية إضافة نوعية حرية بالاطلاع.
تطور المصطلح
من المؤسف أنَّ مصطلح الدولة المدنية مازال مهزوزاً فى أذهان النَّاس رغم ظهوره كبرنامج عمل للمعارضة الديمقراطية (الحزب الشيوعى السودانى) لحل مشاكل الدولة الدينية المتمثلة فى حكومة الوفاق أبّان الديمقراطية الثالثة عام 1988م. ومَرَدُّ هذا الاهتزاز لسببين فى تقديرى المتواضع:
الأوَّل: عدم ربط المصطلح بشروحات وتفسيرات من أوجده (Lack of Symptomatic Reading) تحت شروط ظرفه التاريخى المحدد الذى هو الكفيل الوحيد (أى ذلك الظرف التاريخى) أن يُضفى على المصطلح دلالته؛ بعيد عن إعمال الذهن والتَّكهُّن اللَّذَيْنِ يُحاولان جعلَ المصطلح مصطلحاً لقيطاً؛ أى بلا واقع تاريخى مادى محدد، وبالتالى يُمكن أن تمتد إليه يدُ السرقة الأدبية. غير أنَّ المصطلح يرتبط بجدل المجتمع والدولة فى صيرورة مادية ديالكتيكية وتاريخية فى الواقع السودانى غايتها المواطنة والحرية والديمقراطية كما يضعها في ذلك السياق الدكتور عزمي بشارة (عزمى بشارة 2012).
والثانى: تجيير أيديولوجيا أهل اليمين وأهل اليسار معاً للمصطلح ليخدم أغراض أيديولوجية تسئ فهم دلالة المصطلح التى عناها مُوجِدُهُ. فاليسار صار يرى فى مصطلح الدولة المدنية مخرجاً من لعنة الإلحاد التى تلازم علمانيته. وبالتالى فإن مصطلح الدولة المدنية قد يُساهم فى زيادة عضويته فى مجتمعات أغلبيتها متدينة. أما اليمين فيتوارى بالدولة المدنية عن أيديولوجيته المتهافتة “الإسلام هو الحل”، والتى أفرغتها الممارسة الفعلية للإسلام السياسى فى السودان ومصر وغيرهما من معناها.
وسوف نرى فيما سيأتى إنْ شاء الله، بأنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد لم يكن يضع نصب عينيه هذه التُّقية الأيديولوجية النَّزِقَة حينما تكلَّمَ عن الدولة المدنية، بل كان يعنيه إيجاد حل لمأزق أمته التاريخى المتعلق بإهدار حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وضياع الديمقراطية والحريات العامة وإعاقة التنمية لثلاث مرات فى: 1958، 1969، و1989، فابتكر لذلك مصطلح الدولة المدنية، وهو ابتكار له حجته المعرفية والعملية كما هو موضَّح أدناه.
الخلفية السوسيوسياسية لولادة الدولة المدنية فى فِكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد
هناك العديد من الأسباب فى الواقع السودانى التى تشكل دافعاً مهماً لكلِّ سياسى سودانى جاد فى البحث فكرياً عن مخرج يعالج قضايا المشكل السودانى، وما أكثرها. ولم يذهل المفكر نُقُد بِنُقُد السياسى عن مشاكل السودان التى أصبحت معقدة بعد الاستقلال، وصارت أكثر تعقيداً منذ ظهور الجبهة الإسلامية القومية فى الأرينة السياسية السودانية. كما أنَّ الفكر اليومى لم يَلْهِ المفكر نقد عن الفكر المُنْتِج للمعرفة الذى يضع حلولاً مستدامة لقضايا السودان
الشكر أجزله للأخ الكريم حسين احمد حسين لما تفضل به من توضيح في هذا البحث العميق عن علل الدولة في السودان منذ عهد جدنا كوش الى عهد الكوز الكنكوش وبدا كأن الأحداث تتكرر في مشهد سريالي (فوق واقعي) وإن اختلف شكل المشهد من شكل لآخر في العصر الذي يناسبه فكما احتدم الصراع بين أبادماك الملك الكوشى العظيم الذي ضاق ذرعاً بكهنة الإله آمون الذين نصبوا انفسهم نواب عن الإله في ذلك الزمان فنبذهم وانشق عنهم و عُيِّنَ إلهاً موازياً لآلهة مصر القديمة بواسطة الملك أركمانى مستقلاًّ عن الإله الأكبر آمون كذلك فعل الترابي وانشق عن تنظيم الاخوان المسلمين في مصر لأسباب يطول شرحها وللأسف رغم هذا الانشقاق عن الاخوان لم يبتعد الترابي كثيراً عن فهم وتأويل الاخوان المسلمين المصريين لمفاهيم مثل مفهوم الحاكمية ومفهوم الدولة الإسلامية العابرة للحدود الرافضة للآخر الى آخر الفهم المغلوط للإسلام وفلسفته الأساسية القائمة على ان الانسان كائن من كان دينه او عرقه او لونه هو خليفة الله في الأرض اورثه الله هذه الأرض وفق صلاحيته ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )) والصلاحية هنا صلاحية وظيفية وهي القدرة على والمعرفة بطرق اعمار الأرض وليست صلاحية تقوى كما يفهم الاسلامويون ويشيعون في ثقافتهم فاوقعوا اتباعهم في وهم الخيرية على الآخر حتى بين أبناء الوطن الواحد فمن تبعهم فهو تقي ومن خالفهم فهو شقي ! ولم يقف الامر عند هذا الحد بل ذهبوا لانتزاع جوهر هذه الآية الكريمة والآيات الأخر التي تفسر مراد الله بهذا الانسان في كونه ورجعوا القهقري الى مفهوم دولة الخلافة فبدلاً من ان يكون الانسان هو الخليفة بشروا بدولة على رأسها خليفة لكل المسلمين كمثل بني إسرائيل عندما طلبوا من أحد انبيائهم ان يبعث لهم ملكاً ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) وتجاهل فكر الاخوان ان خصائص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم الجوهرية و هي :
انه صلى الله عليه وسلم رسول للعالمين وأنه رسول رحمة وان رسالته خاتمة للرسالات
( هذه الخاتمية تفسر مفهوم الحاكمية! )
ولو فهم الاسلامويون هذه الخاتمية كما فهمها ابوالقاسم حاج حمد رحمه الله لما وقعوا في مأزق الحاكمية الذي وقع فيه الخوارج ومن بعدهم أبو الأعلى المودودي والبنا وسيد قطب وخلافهم هذه الحاكمية في الإسلام هي للشعب لأن كل فرد فيه هو خليفة لله في ارضه هذه الخلافة التي مرت حاكميتها بثلاث مراحل عبر التاريخ الإنساني المرحلة الأولى الحاكمية الإلهية وهي حكم الله المباشر للناس، دون استخلاف بشري، وهو حكم يتميز بـ ” الهيمنة المباشرة” على البشر وعلى الطبيعة في آن واحد، مع التصرف الإلهي فيهما (البشر والطبيعة) تصرفاً محسوساً وملموساً من وراء حجاب نموذج هذه الحاكمية كان في العلاقة بين الله والحالة التاريخية الإسرائيلية، وهي علاقة استوجبت قيام مملكة لله في الأرض ويدير شؤونها الله، بنفسه لا بمنطق الاستخلاف البشري عنه وتولى الله فك اسر بني اسرائيل من فرعون وتولى الدفاع عنهم ففلق لهم البحرواغرق عدوهم وتولى بعد ذلك اطعامهم وتوفير الماء لهم وقصص بني اسرائيل وسيدنا موسى معلومة للجميع
الحاكمية الثانية الاستخلافية تعني أن يكون الخليفة موصولاً بالله عبر الإلهام والإيحاء، وأن تسخّر له الطبيعة والكائنات كما تعني أن الله يختار الخليفة تماماً كما اختار الله طالوت ثم داوود وسليمان، فالخلافة اختيار إلهي وتسخير إلهي، وليست مجرد سلطة دينية بموجب شرع الله وباختيار بشري
الحاكمية الثالثة الحاكمية البشرية وهي التي تعنينا في عصرنا الراهن وهي تأتي من خارج منهج الهيمنة الإلهية المباشرة على البشر والطبيعة “الحاكمية الإلهية”، وكذلك خارج منطق الاختيار الإلهي والتسخير “حاكمية الاستخلاف لأن الله عز وجل قد تدرج بالبشرية لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق، من “الحاكمية الإلهية” إلى “حاكمية الاستخلاف” إلى “الحاكمية البشرية” أي “حاكمية الإنسان وهذا الامر تجاهله اغلب التيار الاسلاموي لأنه تيار يرى ان حل مشاكل العصر هي في العودة الى الماضي كما طرحوا في شعارهم ان الإسلام هو الحل بدلاً من نشر رسالة الإسلام الصحيح وهي ان الإسلام هو السائد في الفطرة البشرية عرف الناس ذلك ام لم يعرفوا لقوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
لم يكن مفهوم الحاكمية هو الخطأ الجوهري الوحيد في فهم الإسلام عند الإسلامويون بل زادوا عليه ضلالة أخرى وهي ادخال الإسلام في صراع فكري لا يعنيه في شيء عن مفاهيم فصل الدين عن الدولة والعلمانية وصراعها التاريخي مع الكنيسة وهذه العلمانية امر لا يعني المسلمون في شيء وكل من يرفضون العلمانية ويعتبرونها عدو للإسلام لا يفهمون الإسلام دين سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو دين لا رهبانية فيه قال صلى الله عليه وسلم (لا رهبانية في الإِسلام ) وقال تعالى (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) والعلمانية عندما نشأت كانت حركة تنادي بنبذ الرهبانية والتوجه للعمل و تطورها التاريخي أدى الى نبذ الرهبانية واستبدالها بالدنيوية – وفصل الكنيسة عن الدولة أو فصل الدين عن الدولة الى آخر مدارس العلمانية كما فصلت أخي حسين في مقالك الشامل هذا وفي تقديري ان هذا الصراع الفكري الذي اقحم فيه الاسلامويون المسلمون هو صراع لا يعني الإسلام فنحن المسلمون ليس لدينا سلطة روحية كنسية ولا نؤمن بعائلة في السماء بها الأب والابن والروح القدس ولا نؤمن بأن السيدة مريم العذراء عليها السلام هي ام الإله انما نؤمن بأن سيدنا عيسى هو عبد الله ورسوله ونؤمن بميلاده المعجز وانه كلمة الله وروح منه ولم نتجادل في تاريخنا عن الطبيعة البشرية للسيد المسيح أوالطبيعة الإلهية له عليه السلام ولا نؤمن بذلك إطلاقاُ
كما ان الإسلام لا يجرم البحث العلمي او يكفر من قال بكروية الأرض او أي نظرية علمية ولا يرفضها اطلاقاً فلماذا يقحمنا بعض الإسلاميين في هذا الجدل ؟ المشاكل التي استدعت ان يقوم الغربيون بإبتداع الفكرة العلمانية وفصل الكنيسة عن الملك او فصل الدين عن الدولة هي مشاكل لا توجد عند المسلمين ولا يوجد لدينا كنيسة نتبعها ولا يشترط في الإسلام ان تتبع لإمام بعينه وهو عرابك الى آخر العلاقات الدينية المعقدة في المسيحية بين الفرد والكنيسة ولا سلطة لإمام المسجد على المصلين خلفه أللهم إلا أولئك المسلمون الذين قلدوا الكنيسة واتبعوا أفكارها وحتى بعض معتقداتها التي تخالف الإسلام وانطبق عليهم حديث سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)
وما اراه اخي حسين ان هذه التيارات الاسلاموية التي انشأها الغرب ودعمها وتحالف معها في حقبة صراعه مع الاتحاد السوفيتي وهدف الغرب لم يكن تأصيل دين سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم انما كان استغلالاً لهذا الدين لتحقيق أهدافه هذه الجماعات الاسلاموية لا تفهم الإسلام فهماً جيداً ومتكاملاً يساهم في تحقيق مراد الله من خلقه لهذا الانسان في ان يكون خليفته في هذا الكون
ولم يقدموا مناهج جديدة تنسجم ووجودنا المعاصر، كي نحقق النجاح في هذه الحياة الدنيا على اتم وجه، وان نحسن ادارة وجودنا وحياتنا، انما نشروا فكراً متشدداً ومتطرفاً آحادي الفهم نجح في النهاية في جلب جيوش العالم شرقه وغربه لترابط في ديارنا
من فاشر السلطان في دارفور الى عواصم دولة الخلافة التي يتاجرون بإسمها في دمشق وبغداد لتحمي المسلمون من انفسهم !!!! وهذا الواقع أخي حسين لن يتغير إلا ببذل جهداً متصل لاستعادة الإسلام الصحيح الذي اختطفته هذه الجماعات الدينية من اهله والى فهمه الصحيح فالإسلام الحق لا تعنيه مسألة فصل الدين عن الدولة في شيء ولا يعاني من المشكلات التي واجهها المسيحيون مع كنائسهم وعملوا بسببها على فصل الدين عن الدولة انما مشكلة الإسلام التي تحتاج الى علاج هي فصل الدين عن التجارة به ليفهم المسلمون ان خليفة الله في ارضه هم جميع البشر فمن أراد ان يحكم عليه ان يتقدم ببرنامج اقتصادي واداري يقدم البلاد بدل الادعاء والافتراء على الله بأنه قادم لإقامة شرع الله ولا ينتبه عند نطقه بهذا الادعاء ( إقامة شرع الله ) بأنه يقدح في مصداقية الإسلام الذي انزل الله في كتابه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم
((ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر ))
فهل يا ترى دخل الناس هذا الدين ام هم في انتظار كيزان السودان ومن لف لفهم ليطبقوا شرع الله وليعم الإسلام الكون ؟؟ احد الشواهد على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الامام محمد عبده عندما ذهب لمؤتمر باريس عام 1881 ثم انتهى المؤتمر وعاد الى بلاده مصر وقال قولته المشهورة ذهبت الى الغرب فوجدت اسلاماً ولم اجد مسلمين ولما عدت الى الشرق وجدت مسلمين ولم اجد اسلاماً وهذا يدلل على ان دين الفطرة هو السائد في الكون واحكامه سائدة لان الله ربط احكامه بالفطرة السليمة فقال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) وهذا يعني ان البشرية سائرة في اتجاه تحقيق هذه الفطرة وما نجاح العلمانية في الغرب إلا اقتراب نحو الإسلام دين الحق الذي لا رهبانية فيه ولا ألوهية لاحد فيه إلا عند أولئك المقيمون في جحر الضب من بعض الإسلاميين !!
متناسين قوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )) فكلما أنفك الغرب من سلطة الكنيسة ومحاولات هيمنتها على الانسان بتخويفه بالعقاب الدنيوي وهيمنتها على معارفة بهرطقة ما لا يروق لها من تلك المعارف واخذ ما يناسب هواها كلما ابتعد هذا الغرب عن الكنيسة وأتجه نحو العلمانية كلما اقترب هذا الانسان الغربي من حريته الكاملة واقترب من الإسلام الحقيقي الذي يضمن هذه الحرية في ثلاث آيات أساسية وهي في قوله تعالى
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ( فالإنسان خليفة الله في ارضه له حق الابداع في كل شيء بلا حدود )
وله حرية العبادة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فالإنسان مخلوق ليعبد وعبد من أفعال الاضداد أي ان يعبد الانسان ما يشاء بملء ارادته فهناك من يعبد الله وهناك من يعبد الشيطان !
وتوج هذا الحق في الحرية بقوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ )
هذه هي مفاهيم الإسلام التي لا يعنيها جدل العلمانية في شيء لان الدين في الإسلام يستهدف الانسان ليحقق مراد الله في خلقه وهو الاستخلاف في الأرض بموجب التفويض النهائي لهذا الانسان الذي تدرج به المولى عز وجل من حاكمية إلهية الى حاكمية استخلاف الي حاكمية الانسان بنفسه لنفسه في مساحة واسعة لممارسة وجوده واطلاق طاقاته وادارة شؤون حياته وفق اختلاف منطق الزمان والمكان، ولكن لا يعني ذلك اطلاق العنان للإنسان دون قيد او شرط او منهج ينظم حياته الدنيا، فـ ” الانسان يستلهم “منهجية القرآن في ممارسة حاكمية البشر وان غابت عنه منهجية القرآن فقد اودع الله سر هذه المنهجية في الفطرة السليمة التي هي الدين !! كما لخصه الله في قوله ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )
أخي حسين احمد ان اهم ما نحتاجه في السودان هو محاربة استخدام الدين في المآرب الدنيوية كما تفعل بعض هذه الجماعات التي حولت الإسلام الى آلة تساعدها في جلب الاتباع وحكم البلاد وجني الأموال وهذه الجماعات لن تبين للناس الدين الحق الذي يحرر الانسان من هذه العبودية الإرادية لأنها في هذه الحالة سوف تفقد السيطرة على اتباعها الذين تتسلط عليهم بمختلف الضلالات
يا حبيب عبد القادر ويا حبيب كاتب المقال لقد طوفتم بنا في أبعاد بعيدة جداً عن جوهر ومحور المسألة وهي مسألة الحاكمية وهي بالمعنى الأولي هي حاكمية الله على خلقه في كونه وقدرته على إنفاذ سننه، وهي حاكمية مطلقة ولا شك فيها فهي مرتبطة بالألوهية والربوبية ومن ثم متعلقة بالإيمان والإذعان والعبادة والخضوع التام من المخلوقات العاقلة منها والجماد على السواء لنواميسه وسننه ولا شيء يعجزه تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) الاسراء. ومن هذه السنن والنواميس فرضُ هذه الهيمنة الإلهية الربوبية (الحاكمية) جبراً على الكافة مستثنياً بعض مخلوقاته العاقلة (من الانس والجن) مخيراً لهم في مسألة الإيمان والعبادة والتسبيح مقابل الجزاء في الآخرة. فمن عبد الإله الرب الخالق عن قناعة وإيمان (بمساعدة الرب) كان جزاؤه ثواباً ومن كفر وأعرض كان جزاؤه عقاباً.
أما حاكمية الحكم بما (أنزل أو نزّل الله) فهي أولاً متعلقة بالقضاء في الحقوق ومن ثم ثانياً فإن ما أنزل الله ونزل هو العدل ويشمل القسط والقسطاس في القسمة والوزن للحقوق والمساواة في المعاملة : قال تعالى في سورة النساء ۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) – ولذلك قال في سورة المائدة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [45]، فالظلم هو نقيض العدل.
كذلك قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] والكفر هنا بمعنى تعمد الظلم أي مخالفة عدل الله اعتقاداً بجواز الظلم والخروج على أمر الله. كذلك قوله تعالى في ذات السورة: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وهي أمر للنصارى ليحكموا يما جاءهم في الانجيل من عدل واذا لم يفعلوا فهم فاسقون أي عاصون لأمر الله. على العموم فإن الحكم بغير ما أنزل الله وحكم الجاهلية مقصود به الظلم أي نقيض العدل وأن العدل هو دائماً ما وافق ما نزل الله وأن الظلم هو عكس ذلك فما ربك بظلام للعبيد ولا يظلم ربك أحدا.
أما الحاكمية بشأن ولاية أمر الناس بمعنى العدل في الحكم أو الحكم العادل فيلتمس في سورة الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) صدق الله العظيم. فالخطاب عام للمؤمنين أن تكون الشورى بينهم في كل الأمور الدنيوية بما في ذلك أمر الإمارة أو ولاية الأمر وهي الشورى وصولاً لرأي الأغلبية فى أمر الحكم والمصالح العامة مع مراعاة العدل بين بعضهم البعض وغيرهم من الأقليات الدينية ومطالبة الأغلبية بمراعاة ذلك إن كانوا هم الأقلية بين أغلبية غير مسلمة ومالبة الأغلبية بمراعاة خصوصيتهم الدينية مثلما هم يسمحون بذلك للأقليات غير المسلمة .
غايتو، قريتنا كتاب. مدنيتك دى ما مقنعة. كان اقتنع بجزء منها الحزب الشيوعى فصار اشتراكى تماشيا مع ثقافة االمجتمع و قبوله بالمديمقراطية! العلمانية هى فصل المقدس عن الدنيوى. يعنى رجال الدين (فقط)عن الدولة . و مرحب باخلاقه فى السياسة (حيدر على).تسلم لمحاولاتك
مقال ممتاز للتعريف بالدولة المدنيه مع التحفظ على الآراء الشخصيه للكاتب.