بوتين زعيم روسيا القوي

انتهت الإمبراطورية الروسية بعد الأحداث السياسية التي صاحبت الثورة الروسية عام 1917 والتي تحولت الي الحرب الاهلية الروسية استمرت أربعة أعوام فيما بين 1918 وحتى 1921، و كانت محصلتها النهائية زوال حكم القيصر. بعد هذه الأحداث تكون الاتحاد السوفيتي الذي ضم عدد من الجمهوريات السوفيتية، ولكن في كثير من الأحيان تطغي كلمة روسيا (كبري الدول المؤسسة للاتحاد) علي اسم الاتحاد السوفيتي. في بداية الاربعينات من القرن الماضي اجتاح جيش الرايخ الثالث الأراضي السوفيتية، لكن الجيش الأحمر تمكن من إيقاف الهجوم الألماني الذي بدأ يتقهقر في معركة موسكو نتيجة للبرد القارص، بعد ذلك انهزم الالمان في معركة ستالينغراد 1943 وتلقي الجيش النازي ضربة قوية ، مما مكن الجيش السوفيتي من اجتياح اروبا الشرقية حتى وصل برلين ، رغم الانتصارات على الالمان الا أن السوفييت عانوا من آثار الحرب العالمية الثانية فقد قتل منه ما يربو على 27 مليون شخص، حقيقة رغم هذه الخسارة الكبيرة فقد أصبح الاتحاد السوفيتي قوي عظمي . وحافظ على قوته كأحدي القطبين الكبيرين، وفي عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة بدأت الحرب الباردة نتيجة للنزاع والتوتر بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي وفي تلك الاثناء تكونت الاحلاف وهي وارسو الذي يمثل المعسكر الشرقي والناتو الذي ينضم تحت لوائه الدول الغربية. حدث التدخل السوفيتي العسكري في أفغانستان في 1979 لدعم الحكومة الموالية للاتحاد السوفيتي، حيث واجهوا مقاومة ومعارك شرسة من قبل المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة الامريكية، تولد شعور وسط الشعب السوفيتي بان جيشهم يشعر بالهزيمة ويتعرضون لضغوط دولية، وبعد مضي عقد من الزمان انسحب السوفييت من أفغانستان بعد تدمير الكثير من البنيات التحتية في أفغانستان. في عام 1991 تفكك الاتحاد السوفيتي بإعلان مجلس السوفيت الأعلى الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة ، وانشاء رابطة الدول المستقلة ، ولتوثيق الامر اكثر دقة فقد كان الرئيس غورباتشوف هو من تسبب في هذا الضعف للاتحاد عندما أعلن عن سياسية البريسترويكا ” إعادة الهيكلة ” وسياسة الغلاسنوست ” الشفافية و الانفتاح ? ، احس بعض المثقفين السوفييت بان هناك مؤامرة حيكت لتدمير الاتحاد السوفيتي ، بل وصل الامر لمطالب مجموعة من نواب مجلس الدوما ( الاتحاد ) الروسي بمحاكمة الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف علي دوره في تقسيم الاتحاد السوفيتي ، بل طالبوا باجراء تحقيق نيابي بالاحداث التي جرت خلال انهيار الاتحاد السوفيتي ، لم تجد دعوة النواب أي استجابة بل تعدي الموضوع مسألة التحقيق و توجيه التهم ليصبح الامر مجرد حقائق واضحة ، واقع ماثل للعيان لتفكك الاتحاد و وظهور جمهوريات مستقلة تم الاعتراف بها دوليا . الاتحاد السوفيتي كان تجربة فريدة فربما الدولة الوحيدة في العالم التي لم تنسب الي هوية معينة، ولا لموقع جغرافي محدد، وقد يقال ان الاتحاد السوفيتي يقصد به ان يكون ثورة قبل ان يكون دولة، وان يكون فكرة شمولية قادرة على الانتشار لتصبح عقيدة عالم جديد ….

استلم فلاديمير بوتين قيادة روسيا، و هو حسب اعتقادي رجل صاحب كاريزما، ويمكن القول انه يعتبر قيادي استثنائي لروسيا، فرجل يتمتع بعظمة القياصرة، و دهاء الساسة، و شجاعة القادة، و تفهمه العميق للتحديات و الصعاب، و صاحب رؤية واضحة لمستقبل بلاده، و فوق كل هذا يمتلك بوتين قدرة علي التخطيط ووضع السياسات و المقدرة علي الانجاز وتحقيق الاهداف، مع معرفة كيفية اقتناص الفرص بحنكة ، متميزا بصبره الطويل في تحويل التحدي لنصر ، و الاهم من هذا انه يعرف اين يضع قدماه . كل هذه المهارات و الخبرات و النجاح لم تكن ضربة حظ بقدر ما تعود لمنابع القوة التي يمتلكها الرجل من عدة مصادر ، فبوتين شخص مؤهل اكاديميا فقد درس القانون ثم اردفه بالاقتصاد ، فعمل منذ تخرجه 1975 في جهاز الاستخبارات الروسية لمدة ربع قرن من الزمن عايش خلال هذه الفترة كل الازمات التي ادت في النهاية لتفكيك الاتحاد السوفيتي حتي وصل لوظيفة مدير الجهاز و من ثم رئيس للوزراء هذه الفترة الطويلة اكسبته خبرات تراكيمة ، لذا اصبح صاحب دراية كبيرة بالعمل السياسي و خفاياه في روسيا ، و يمكن الشئ الذي افاد بوتين كثيرا هو التعديل الدستوري بمنح الرئيس حرية واسعة في الحركة ، في نفس الوقت عمل علي تقليص سلطات البرلمان ، لذا مثل التعديل دورا كبيرا في ان يلعب الرئيس دورا محوريا في كل مفاصل الحكم ، و في الحقيقة تمت الموافقة علي هذا التعديل الدستوري في فترة الرئيس يلتسين لكن الاستفادة الفعلية منه كانت في فترة حكم بوتين . يتميز بوتين بدهاء و بعد نظر فبعد انتهاء فترة رئاسته الثانية عام 2008 لم يترشح مرة اخري نسبة لتعارضه مع الدستور ، فلم يعدل الدستور و قال ” ان دستور روسيا لا يجب تعديله من اجل شخص ” فدعم انتخاب ” ميدفيديف ” رئيسا للجمهورية و انتقل بوتين ليصبح رئيسا للحكومة علي مدي اربع سنوات عمل خلالها كرجل ثاني في النظام ، و عاد في نهايتها مجددا لسدة الحكم ، هذه المواقف تكشف حنكة و دراية الرجل في الحفاظ علي الدستور حتي لا يرتبط اسمه بانتهاك القانون هكذا القادة العظام يبنون مجدهم بطريقة تجلب لهم الاحترام و التقدير . يمكن ايضا من اسرار نجاح بوتين قدرته علي استعادة الاستقرار و الخروج من حالة الفوضي و الصراع و هنا نلمح شخصيته الحازمة الحاسمة و الحرص علي اجراء الانتخابات بنوعيها البرلماني و الرئاسي في موعدها ، من الامور الهامة ايضا هو محاربته للفساد و ايقاف تدخل رجال المال في السياسة ، من الاشياء التي ساعدت في سطوع نجم بوتين هو ثلاثة كلمات ” الرؤية و الايمان و الانجاز ” فقد قدم نموذجا رائعا للقيادة الوطنية القادرة علي التغيير و استنباط الحلول لكل العقبات مع تقديم الرؤي و الافكار التي تساهم في تقدم و تطوير البلد . فروسيا شارفت على اعلان الافلاس خلال الازمة المالية العالمية عام 2008، لكن انتعش اقتصادها بفعل تصدير الحبوب ونجح بوتين في اعادة الامن والسلام للشارع الروسي المتفلت، وأحدث نقلة نوعية في قدرات روسيا العسكرية واصبحت تصدر السلاح للخارج ….

من الاشياء المهمة التي يمكن ان تكون انتصارا لبوتين هو اقتراح الرئيس الامريكي ترامب علي نحو مفاجئ بضم روسيا الي الدول السبع بحيث يعود العدد مجددا ” دول ثماني ” كما كان الحال قبل عامين حيث طردت روسيا من هذه الرابطة بسبب احتلالها شبه جزيرة القرم ، هذه الاقتراح و جد معارضة شديدة من بقية الشركاء ،ايضا من الملفت للنظر مواقف ترامب تجاه مجموعة الدول الصناعية و ظهور تباعد امريكي غربي مما يعتبر ربح صاف لبوتين ، اذ ا توجهنا شرقا نجد ان بوتين يحظي بحفاوة استقبال و تكريم من الصين و هذا في حد ذاته نصر لبوتين ، لكن بنفس القدر الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم يعتبر احتلالا عسكريا و تدخلا سافرا ، ادي ذلك الاحتلال الي ادانة روسيا دوليا و فرض عقوبات عليها ما تزال تعاني منها حتي اليوم ، من الاشياء الاخري هو أولوية روسيا فيما يتعلق بالاستراتيجية الامنية في منطقة الشرق الاوسط ، فكان الاقدام علي انشاء قواعد عسكرية منها قاعدة ” حميميم ” الجوية و ” طرطوس ” البحرية ، حيث تعتبر سوريا نقطة ارتكاز هامة لروسيا في المنطقة ، و هي بذلك تعمل علي شراكات مع الجوار السوري القريب و البعيد ، و الروس يزدادون قوة و تاثير في سوريا و هنا مزج بين القوة الناعمة و الصلبة ، بين الضربات العسكرية و الادوات الدبلوماسية مع تجنب الصدام و المواجهة مع القوي الدولية ، يحسب ايضا لبوتين استعادة العلاقات التركية الروسية الي وضعها الطبيعي عقب التدهور علي خلفية اسقاط تركيا الطائرة العسكرية الروسية 2015 . مما لا شك فيه ان احوال السياسة الامريكية الراهنة و العلاقات الغربية المتدهورة تعتبر عنصر مهم جدا في دعم نجاحات بوتين، لكن هذه الامر لا يعني باي حال التقليل من الذكاء و البراعة لبوتين في الاستفادة من اختلاف خصومه و تناقضاتهم ….

تنظيم كاس العالم في روسيا لأول مرة في تاريخها يعتبر انتصارا للرئيس بوتين ، صحيح ان هناك غياب لعدد من الزعماء و القادة الغربين بسبب المقاطعة ، و ايضا الفريق الروسي ليس قويا بحيث يكون مدعاة للافتخار و التباهي ، لكن عند النظر للامر بانصاف نجد ان روسيا نجحت في التغلب علي صعاب كانت متوقعة فمثلا تهديد بريطانيا علي مقاطعة كأس العالم ردا علي تسميم الجاسوس الروسي في انجلترا ، لكن ما لبث المنتخب الانجليزي وصل و لعب مبارياته . ابهرت روسيا بقيادة بوتين خصومها قبل اصدقائها ووضعت نفسها في صورة البلدان المتحضرة و المنفتحة و لذا تحولت موسكو الي احدي الواجهات السياحية العالمية المنافسة لباريس و لندن و نيويورك ، موسكو قدمت الساحة الحمراء متوشحة بالالوان الجميلة الزاهية للسياح بدلا عن المطرقة و المنجل و استعراض السخوي و” اس 400 ” ، نجح بوتين في تقديم صورة مغايرة لروسيا الموجودة في اذهان الغربين ، فالحق يقال ان ” روسيا بوتين ” غير ” روسيا ستالين ” ، روسيا نجحت في كسر حاجز نفسي كان قائما بينها و بين العالم ، الان روسيا بلد منفتح و مستقر امنيا و متقدم في جميع المستويات ، ستتغير صورة البلد الشيوعي الذي يحكم بالقبضة الحديدة و المنغلق علي نفسه الي دولة منفتحة ، صحيح ان بوتين يعطي انطباع انه من زمن القادة الحديدين الا أنه نجح في التوفيق بين القوة و الانفتاح . قد ينظر بعض المتفائلين ان روسيا قد تخرج من ازمتها الاقتصادية من خلال تنظيم كأس العالم و العائد الربحي في الاستثمارات و المنشآت ، و المتوقع الربح فيها ما يقارب 25 مليار دولار ، لكن هذه المبلغ المتوقع كصافي ربح قد لا يقدم أو يؤخر علي المدي البعيد لروسيا ، في اوضاع اقتصاد ضخم يبلغ 1.3 تريليون دولار ، و يعاني من الاعتماد شبه الاحادي علي النفط و الغاز الذي تناقصت اسعارها عما كانت عليه عام 2014 الذي تجاوز فيه سعر برميل النفط حاجز 130 دولار ….

بوتين قد بذل المستحيل لاخراج روسيا من عزلتها و عودة البريق لها ، اذ يعتبر من القادة المتميزين في العالم فهو لا يقدم الجواب بل يقوم بالمهمة التي ينبغي القيام بها ، استطاع بقوته ايقاف تفكك روسيا و قضي علي المافيا الفاسدة التي كانت تدمر الاقتصاد الروسي بتحويل ثروات البلاد للخارج ، اجمع الكثيرون علي ان بوتين من افضل القادة الذين قادوا روسيا من الكرملين . الملايين من الزوار الذين وصلوا الي مختلف المدن الروسية، هم بصدد اكتشاف حضارة اخري، قد يفوق بريقها مستقبلا انوار باريس، عالم جديد تساهم فيه الكرة المستديرة في تشكيله وصياغته وبناء هياكله، وتمتد جسور محبة بين الشرق والغرب. الجميع الان في حالة اعادة تقييم لبوتين كل شخص له معاييره و تقديراته الخاصة به ، لكن يظل هذا الرجل يمثل نموذجا فرديا لقائد وضع بصمته في التاريخ الروسي بل في التاريخ العالمي الحديث ….

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..