قصص نجيب محفوظ المجهولة!

كتبت د. عزة بدر
سيظل عالم نجيب محفوظ دائما عالما ثريا حافلا بالأسرار، كما يظل الكشف عن المنابع الأولى لهذا الإبداع الثرى لأديب نوبل حلم الباحثين والدارسين. ومن قصصه المجهولة التى لم تُجمع ولم تُنشر ضمن مؤلفاته المطبوعة بعض القصص التى كتبها فى أربعينيات القرن الماضي، ومن هذه القصص قصتان ضمتهما مجلة (الرسالة) (1933-1953) لصاحبها أحمد حسن الزيات، حيث تعد المجلات الأدبية هى الحافظ الأمين لتراثنا الفكرى والثقافى والأدبي.
وها هى بين أيدينا بعض أسرار المنابع الأولى لنجيب محفوظ والتى تطلعنا أن تكون القصة عنده، بل أفكار رواياته التى كتب بعضها قصصاً.
وقد نُشرت القصتان فى أربعينيات القرن الماضى الأولى بعنوان: (التطوع للعذاب) ونُشرت بتاريخ 28 أكتوبر 1940 على صفحات مجلة الرسالة فى العدد 382، ص 1642-1644 والثانية بعنوان: (حزن وسرور) ونشرت على صفحات المجلة نفسها ص 933 -935 فى 27 أغسطس 1945، فى العدد 634، وكان قد أشار إليهما د. عبدالمحسن طه بدر فى كتابه (نجيب محفوظ الرؤية والأداة) الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014، وفى القصتين ملامح السرد المميزة لكاتبنا والتى تأخذ بالألباب، وتنشط فى اكتشاف أعماق النفس الإنسانية وصراع الرغبات والإرادات، والأمانى التى ربما تتحقق أو تذوى بل إن الآمال والطموحات نفسها قد تحمل فى داخلها سر فنائها بسبب أصحابها أنفسهم.. أحداث بسيطة، أو كلمات قاسية قيلت بقصد المرح تغيّر مصائر أفراد وتمنع سعادات، وتحول بين المرء وقلبه.. وكأن سعادة الإنسان فى يده، وقلبه ولسانه وهو وحده القائم عليها وعلى تحققها وهى رؤية إيجابية بانية يقدمها بسخاء أدب نجيب محفوظ.
البطلة فى القصتين اسمها (حَسًّان) وهو نفس الاسم لبطلة (القاهرة الجديدة) رواية كاتبنا.
والبطل فى القصتين اسمه (حسان) فما دلالة اختيار الأسماء نفسها؟
وهل هى جذور شخصيات غارسة كالأزهار فى منابت المنابع الأولى؟ البطلة فى القصتين (إحسان) وكلتاهما تعانى الفقد فهى فى قصة (التطوع للعذاب).
استملحت دعابة مع امرأة مسنة – حول عمرها – ولم تكن تعرف أنها والدة حبيبها فسببت الدعابة مأساتها وانصراف حبيبها عنها، وقد صوَّره كاتبنا فى دراما حافلة بالمشاعر الملتبسة بين الإقدام والإحجام، والتردد والمحاولة حتى أن سورا حجريا يفصل بين الحبيبين ولا يستطيع أحدهما أن يخطو ويتجاوزه.
وفى القصة الثانية (حزن وسرور) تستعد (إحسان) أخرى لمستقبل منتظر، وعريس مُدخر بعد أن تبنتها عمتها ويسرت لها سبل العلاج، ومهدت طرق الجمال، فأصبحت لها الأعين الحوراء، والحُسن الذى لا تخطؤه العين.
لكن الفتاة تقع أسيرة حلم والأحلام فى عالم نجيب محفوظ ذات أثر عميق فى نفس الإنسان، وكان يصف الحلم المؤثر بأنه الذى يبقى فى الذاكرة، وقد كان يشتغل على أحلامه حتى نراها فنًا مطبوعًا مثل «أحلام فترة النقاهة»، أو فنًا مصنوعًا مثل «رأيت فيما يرى النائم» بل كان يرى أن الأحلام أكثر حرية وتدفقا وقادرة على أن تكون مصدرا للإبداع وكان يخشى أن تتكرر أحلامه لذا لم يكن غريبًا أن تحتوى المنابع الأولى لقصصه على أحلام أبطاله، فحلم إحسان بأخيها المتوفى الذى كان يتعهدها بالرعاية والحنان يدفعها لمقايضة الشيخ الذى يظهر فى حلمها وكأنه (فاوست) آخر، يريد ثمنًا لإعادة أخيها للحياة، والثمن هو أن تفقد جمالها وحُسنها وأن تعود حولاء نحيفة كما كانت، فقيرة مهملة بعد ما أصبحت عليه من يُسر الحال، ورغد العيش، ويفاجئنا كاتبنا بموافقة إحسان على شروط الشيخ، والنزول على رغبة الحلم فى التحقق بعودة الأخ، وتتحقق دهشة القارئ، ويتمكن عنصر المفاجأة منه عندما يبدأ الشيخ على الفور فيتحول إلى نعش أخيها، ويفك أربطته، ورأت إحسان نفسها تتحول إلى هيئتها الأولى.
وغابت كل المسرات فلا نضارة ولا شباب ولا زواج ثم غلبها البكاء وعندما استيقظت من حلمها انكشف سر نفسها، وما أسرته فى قلبها لأخيها من محبة عميقة فلم تكن تبكى لأنها مُسخت – فى حلمها – لكن لأنها تذكرت أخاها الراحل فثارت كوامن شجونها.
إليك عزيزى القارئ وعزيزتى القارئة قصتان مجهولتان من المنابع الأولى لعالم نجيب محفوظ القصصى حيث التكوين الهادئ العميق، الجذور الضاربة العفية، ونهر الإبداع الذى يترقرق أمامنا موشكا أن يهمس بين السطور: هكذا تكونت طبقة على طبقة، هكذا كان النبع ثرا، وكان كل شيء نابضا فى العمق مهيئا لابن النيل نجيب محفوظ ليلقى البذور فى مغارس الأزهار، ويرويها بماء أعين النجوم..
ليبقى سحر المنابع الأولى متعة موصولة، وبهجة دائمة لعشاق أدب نجيب محفوظ. وفى الصفحات القادمة القصتان الأولى بعنوان (التطوع للعذاب)، والثانية بعنوان (حزن وسرور).
صباح الخير