مقالات وآراء سياسية

ملاحظات أولية عن فيل السياسة السودانية

احمد الفكي 

لقد كان افضل الاوقات ولقد كان أسوا الاوقات
لقد كان زمن الحكمة وكان زمن الغباء
لقد كان عصر اليقين وكان عصر الشك
لقد كان موسم الضوء وكان موسم الظلام
لقد كان ربيع الامل وكان شتاء اليأس

لم اجد افضل من استهلال شارلس ديكنز لرائعته قصة مدينتين وهو يصف مشاعره عند انفجار الثورة الفرنسية وتوجسه من العنف الذي تلاها للتعبير عن مشاعري كمقدمة لهذا المقال عن الحرب التي تدور ببلادنا.
هذه الحر ب اللعينة بكل قبحها وبشاعتها وبكل ما  كلفته وتكلفه من ارواح وممتلكات ، هي فرصة ذهبية يجب الا تضيع منا. فرصة للوقوف مع انفسنا والنظر الي وجوهنا في مرآة سلوكنا الذي انجب هذا الواقع دون تردد او خوف. انها وقفة تحتاج الي قدر لا يستهان به من الشجاعة وقوة النفس ورباطة الجأش. وقفة تحتاج الي قدر عال من التواضع الحقيقي والطاقة الروحية التي لا تنضب ومن المقدرة علي التساؤل وحب الاستطلاع والاستماتة في معرفة لماذا يفكر من نختلف معه بهذه الطريقة او تلك بدلا عن شتمه واغتياله لفظيا ومعنويا والان جسديا ايضا. فالحرب لم تبدأ في الخامس عشر من ابريل . انها وقفة تحتاج الي قدر لا يستهان به من مقاومة غواية القفز الي ما يبدو انه السبب او الاسباب لكل هذه  التقيحات التي تملأ وجوهنا.
نحتاج الي ان نجلس علي الارض وان ناخذ نفسا عميقا. نحتاج الي ان نتنفس بهدوء لنصفي اذهاننا من كل الاوهام والافكار التي عملت و تعمل في  رؤوسنا وتظلل مشاعرنا  بالكراهية والبغض للاخر الذي يختلف معنا . انها لحظة في عمر شعبنا وما اطول لحظات القبح والدمامة في اعمار الشعوب التي لا تتوقف وتنظر في دواخلها بكل شجاعة وصدق ونبل عندما تحل بها المصائب .
ستخطئ  عقولنا وقلوبنا الحكمة التي حان الان وقت قطافها ان اخترنا الطرق السهلة ، والتظاهر بالتنقيب في ارواحنا ووجداننا والاستعاضة عن التنقيب الجاد بالنظر الي سطح الاشياء والاكتفاء بالتظاهر بامتلاك الحكمة علي المستوي اللفظي ، وهو لعمري احتمال وارد واقرب الينا من حبل الوريد . ومصيبة الحكمة انها لا تتجلي للمتعجلين للاجابات السهلة التي تقفز الي الذهن من الوهلة الاولي ، ولا للمفكرين والسياسيين خفاف الوزن ، ولا للمدعين لتمثيل هذا الشعب والتحدث باسمه والتعبير عن احلامه واشواقه وتطلعاته ، من جيش ومدنيين وحركات مسلحة واخيرا وليس اخرا من دعامة . انها لا تتجلي للجبناء فكريا وعاطفيا وروحيا.
وانا اقف امام مرآة هذا الواقع اود ان اوكد ان دافعي لهذا القول ليس الوقوف في هذا الصف او ذاك وليس الهجوم علي هذا الجماعة او تلك ، بل هي محاولة مواطن سوداني يمزق قلبه تمزق وطنه وتشرد اهله الطيبين النبلاء الذين كانوا يفاخرون بمساندة ومساعدة وتعليم الاخرين . انها فرصتنا جميعا لنجلس كما ولدتنا امهاتنا حفاة عراة من كل زيف الالقاب والممتلكات ،  والدرجات العلمية والانتماءات الحزبية والقبلية والايديولوجيات ، ان نقف امام مرآة هذا الواقع الاليم اللئيم لنتعلم منه ولنستخلص حكمته التي ترفد مسيرتنا لاقامة وطن ديمقراطي يسعنا جميعًا . كدت ان اقول ان علينا ان نتحلي بشجاعة مهيرة بت عبود وعلي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ ولكني توقفت وتسالت ولماذا الايغال في التاريخ رغم انهم ابطال يشار اليهم بالبنان نحبهم ونبجلهم ، ولا زالت صورة فلذة كبدنا كشة يترنح امام القيادة العامة يقاوم السقوط برصاص الغدر الذي اطلقه عليه وعلي رفاقه من يتقاتلون اليوم. لقد قتلوه وهو يحلم بوطن حر وديمقراطي. لماذا الايغال في التاريخ وارتال الشهداء والمفقودين من بنات وابناء شعبنا ترفدنا بشجاعة ان نشاهد انفسنا في مرآة هذا الواقع اللعين وان نمسك بحكمته كفاكهة طرية من حقول بلادنا لطريق سنواصله بعد ان نغسل ارواحنا من كل الاوهام والاحقاد فننهض لمواصلة مشوارنا وكاننا ولدنا من جديد ، من اجل سودان جديد يختلف اختلافا نوعيا عن السودان الجديد في بيانات الحركات المسلحة . سودان جديد يحقق طموحات واحلام الهامش في السلام والامن والعيش الكريم بدلا من منح لوردات الحرب ، باسمهم ، عربات الدفع الرباعي والعيش الرغد في الفنادق.
ان الغرض من هذه الوقفة ليس شتم الذات وقد قفز الموتورون لوصم شعبنا بالفشل والغباء وهم الاغبياء . وليست لشتم هذا السياسي او ذاك كما فعل البعض منا وتعليق سبب مصيبتنا في اعناقهم ، فهم جزء من اعراض واقع مأزوم منذ زمن بعيد يلد الهراء والمدعين للحكمة السياسية والمعرفة. ان مصيبة القاء اللوم علي هذا السياسي او ذاك انها تريحنا نفسيا ولكنها تعطينا انطباعا زائفا باننا وضعنا اصبعنا علي اس الداء فنكف عن البحث والتنقيب في المنظومة التي انتجت هذا الواقع وهولاء الساسة والخبراء . ان طريق القاء اللوم هو طريق الفرص الضائعة لايجاد العلاج الناجع لمرضنا الذي طال امده . وهي بالطبع ليست دعوة للغرق في الماضي بكل قبحه ولحظاته الجميله. وليست للبحث عما يؤكد قناعاتنا القديمة التي نحملها تجاه انفسنا وتجاه من نتفق ونختلف معهم.
انها دعوة لكل بنات وابناء شعبنا للمساهمة في التامل في وجهنا في مراة واقعنا اليوم لرسم صورة تحمل بذور وطن جديد ومعافي . لقد تعب اهلنا ووطننا من الاستهبال السياسي انها دعوة للابتعاد عن السرية وادعاء المعرفة وامتلاك الحق المطلق في رسم هذه الصورة او تلك والتي لن تكتمل اليوم ولا في الغد القريب . واقع اليوم لا يحمل مستقبلا واحدا لبلادنا بل عدة مستقبلات اعتمادا علي تعاملنا مع هذا الواقع.
وبداية لا بد من الابتعاد عن الاستسهال فواقعنا معقد ولا يمتلك حقيقته ولا يمسك بتلابيب مشروعه المعافي هذا الخبير او ذاك ولا هذا الحزب او ذاك ، بل نمتلكها جمعيا . انه مشروع يتبلور ويولد . ان الابتعاد عن الاستسهال لا يعني الاجتماعات التي تلد الاجتماعات ولا الورش التي تلد الورش في سرية مطلقة ، وبين من يفكرون كقطيع فينحصر المشكل السوداني في تقاسم الكراسي وبيع الاوهام للشعب ، بل يعني العمل الجاد تحت اعين واذان شعبنا . يعني العمل الجاد الذي تقربنا كل خطوة نخطوها فيه نحو وطن حر يتمتع بسلام اجتماعي واقتصادي ويتساوي فيه الجميع امام قضاء نزيه ومستقل.
لقد اثبت تاريخ شعبنا منذ خروج المستعمر اصراره علي حكم مدني ديمقراطي . ولقد دفع شعبنا بارتال من الشهداء من اجل هذا الحلم النبيل . وهو بلا شك حلم يستحق ان يعمل المؤمنون به جم يعا علي تحقيقه . ان اصرار الطغاة من عسكريين واحزاب عقائدية  علي افشال تحقيقه علي ارض الواقع وسوق شعبنا بالعصي للجنة الموعودة في ايديولوجياتهم لم ولن ينجح في  وأد هذا الحلم .
وهنا لا بد من التساؤل عن عدم نجاحنا في تحقيق احلام واشواق وطموحات شعبنا . الاشارة باصابع الاتهام للجنرالات الطامحين في الامتيازات والعقائديين الذي يحلمون بسجن الشعب في جنتهم ايا كان لونها ليست كافية كسبب اساسي رغم شراسة معارضتهم .
الحكم المدني الديمقراطي الذي يقوم علي الانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة لا ينمو ويتحقق في التربة التي لا تقبل الاخر ولا الراي الاخر . ولا ينمو في التربة التي لا تقبل التعايش في ظل الاختلاف . ولا التربة التي لا تقبل الاختلاف .
انه ككل الاشياء المعافاة والغنية يزدهر تحت اشعة شمس الشفافية وفي تربة التنوع والاختلاف.
وهنا لا بد من التذكير ان المجتمع المدني الديمقراطي القائم علي فصل السلطات التنفيذية والتشريعية وعلي استقلال القضاء وحرية الصحافة وعلي وجود مؤسسات تقوم بالمراقبة الدائمة لبعضها البعض لتعمل بوجه معقول لخدمة المواطن وحماية حقوقه والتاكد من قيامه بواجباته ، يقوم علي قيم ومبادي لا يمكن تجاهلها والعمل في ذات الوقت علي تحقيق المجتمع الذي يقوم عليها . ان تجاهل هذه القيم والمبادئ والاكتفاء بالطرق والوسائل والاساليب يودي الي هياكل بلا روح. وهذه القيم والمبادئ لا تقبل التحريف الذي يحولها الي كائن اخر مع الادعاء بعدم تغيرها . ان الالتزام بهذه القيم والمثل يعطي مساحة للابداع في اشكال ومضمون ديمقراطيتنا ومجتمعنا المدني وهو امر في غاية الاهمية .
ان اللحظة التاريخية الحالية تقتضي الاتفاق علي ما يحقق هذا المجتمع المدني الديمقراطي وهو اتفاق علي القيم والمبادئ . اتفاق سياسي واخلاقي نلتزم به ونحاسب بعضنا البعض ان تجاوزناه . فلا يمكن ان يكون هناك حزب لا يمارس الديمقراطية ولا يحترم الاختلاف في الراي ونتوقع منه ان يحرص علي حكم مدني ديمقراطي . ان اقل ما يطلب من احزابنا ولجان المقاومة ومؤسسات المجتمع المدني هو ان تتفق علي هذا الميثاق الذي يتمثل روح الديمقراطية والتسامح تجاه من نختلف معهم وان نوكد فعلا وقولا ان قبول الاخر خطا احمر لا يسمح بتجاوزه . ان القبول بالاخر والراي الاخر لا يعني الاتفاق معه وان افضل الحلول لبلدنا ولشعبنا تولد من اختلافنا والاحتفاء  بهذا الاختلاف والتمسك به وتهيئة المناخ الملائم له مما يسلط الضوء علي كل الفضاء السياسي والاجتماعي لمشاكلنا للوصول لافضل الحلول.
هذا ليس امرا سهلا ونحن نعيش ثقافة اتهام الاخر بالخيانة وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتوزيع صكوك الوطنية علي من يتفقون معنا . انه يحتاج الي قادة يمتلكون التواضع والشجاعة والرغبة الصادقة في خدمة شعبهم وبلادهم. قادة يمتلكون المقدرة علي قولة لا اعرف وليس لدي اجابة وعلي قول الحق حتي علي انفسهم.
لقد اتسمت الفترة السابقة بظهور لاعبين سياسيين اداروا عملها بلا شفافية مما ادي بهم لتقديم التنازل تلو الاخر علي مبادي الثورة . ولاننا نعلم خطورة القاء اللوم نود ان نركز علي خلق المنظومة التي سيعمل فيها الجميع . اننا لا ندعو الا اقصائهم ، بل ندعو الي فتح الياب لكل الوطنيين الحادبين علي مصلحة شعبنا وخياره الديمقراطي . ان اول واهم اركان هذه المنظومة هي الشفافية . الشفافية تعني ان كل ما نقوم به يتم تحت اعين الشارع الذي قام بهذه الثورة. ومع احترامنا لكل من يتقدم الصفوف لخدمة بلاده ، فلا بد من الشفافية الكاملة والتي تحمي شعبنا ووقته وارواحه من خطر الاستهبال السياسي . والشفافية تعني وببساطة الانفتاح علي من نتقدم لخدمتهم والتخاطب الدقيق والواضح وتحمل المسؤولية تجاه اقوالنا وافعالنا . وانا لا اشك اطلاقا في مقدرة بنات وابناء شعبنا علي تعريفها تعريفا يقفل الثغرات علي اية استهبال سياسي.
لا بد من تمثيل الشباب وخاصة لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني وخاصة العنصر النسائي في قيادة بلادنا لانهاء هذه الحرب والعمل علي الانتقال الديمقراطي . هذا امر هام وعاجل ويتم بالتعاون الكامل بين كل من يؤمنون بخيار شعبنا في حكم مدني ديمقراطي.
ان الاعداد للسودان الجديد يجب ان يستوعب كل الوان الطيف السياسي  ذات القاعدة السياسية والاجتماعية وهذا لا يستثني الاسلاميين الذين يقفون مع خيار شعبنا في بناء وطن ديمقراطي يسع الجميع بمختلف انتمائهم السياسية والدينية.
لقد اثبتت هذه الحرب ضرورة عودة الجيش الي مهمته الأساسية التي تقوم بها جيوش المجتمعات المتحضرة والديمقراطيات الراسخة وهي حماية الوطن . تاريخيا لقد أدخلت الديمقراطية الميكانيكية ، الديمقراطية “البعاتي” بلا قيم ومبادي جيشنا لحلبة السياسة. لقد اصبح الجيش مطية لاحلام الساسة المؤدلجين والجنرالات الجشعين لتمكينهم من قمع وحكم شعبنا.  يكفي شعبنا ما يفوق الخمسة عقود من الديكتاتوريات والتي لم تنجب غير الافقار والبوس والتخلف والتي كانت قمتها هذه الحرب اللعينة.
لقد تحول دور الجيش من أداة وطنية يحبها ويحترمها المواطن الي أداة قمع وبطش ونهب ليس فقط لطغاة الداخل بل أداة للتدخل في شوون بلادنا من أعداء شعبنا وكل الطامعين والمتربصين.
يجب ان يحسم دور الجيش وان يخرج من حلبة السياسة الي حماية الوطن.
ولعل الدور الذي قام ويقوم به الدعم السريع من قتل وسحل ونهب واغتصاب يوكد حقيقة واحدة وبسيطة. هذه قوات انشاها المخلوع لحمايته وحماية نظامة من معارضيه وحتي من بعض الإسلاميين الذين ارعبهم افلاس مشروعة. هذه القوات يجب ان يكون حلها في قائمة بنود اية اتفاق لسودان جديد. ان الحمض النووي لهذه القوات ولقادتها يوكد حقيقة واحدة وهي انه لا يمكن ان تكون موجودة ومتماسكة داخل او خارج الجيش النظامي ونحلم بوطن يعمه السلام الاجتماعي والاقتصادي . يكفي فقط النظر الي حلفاء هذه القوات من فاغنر الروسية ومن منتفعي ذهب بلادنا الذي يذهب ريعه لال دقلو لخلق المزيد من الجهل والقبلية والولاء لهم .
هذه الوقفة لا يقدر عليها من فاوضو العسكر قبل الحرب . لقد ضحوا بالشفافية في كل خطواتهم وكانت النتيجة هذه الحرب اللعينة . اكرر انني لا ادعو لعزلهم ولكن شان بلادنا من الخطورة بالا يترك لهم وحدهم.

 

تعليق واحد

  1. . (اتفاق سياسي واخلاقي نلتزم به ونحاسب بعضنا البعض ان تجاوزناه . فلا يمكن ان يكون هناك حزب لا يمارس الديمقراطية ولا يحترم الاختلاف في الراي ونتوقع منه ان يحرص علي حكم مدني ديمقراطي)
    هذا ما ظللنا ننادي به منذ قيام ثورة ديسمبر لكن أحزاب قوي الثورة وقطيعهم كانوا كالانعام بل اضل سبيلا.. كانو لا يؤمنون بوجود الاختلاف ولا يعتقدون بوجود اليات لإدارة هذا الاختلاف وفي ظنهم ان النهج الاقصائي هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافهم ناسيين ان الاخر يملك نفس ادواتهم لقطع الطريق عليهم ودفع الأمور للهاوية في سبيل الدفاع عن حقه الذي يؤمن به اختلفنا معه او لا فلا يفرق والنتيجة صفر لكل الأحزاب وخسارة ضخمة للشعب..اللهم اضرب الظالمين بالظالمين واخرجنا من بينهم سالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..