درْب الرُشَاش

سيف وحصان ومزمار، وأنثى تتلصص جسده في المغارب، زرع في حشاها نطفته وهام في الفلوات، عاد بعد غبار السنين، فوجد صبيان الفريق يلعبون فوق تلال الحِلّة، وقف بينهم فوق خيله، بحلق فيهم دون أن يحادثهم، مدّ يده المعروقة وخطف ابنه من بينهم وأجلسه فوق ركبتيه، حمحم الحصان قريباً، فسمعت أُم الصبي تلك الجلبة، علمت أنه عاد، فدخلت إلى دخانها، بينما أخذ الصبي حصان أبيه إلى المرعى.
آوى أبْ زيد الهلالي إلى ظل شجرة، فتجمع حوله رِجال ونساوين وأطفال، حدّثهم عن أهوال السفر، وعن هدأة المغارب في الصحارى، قال إنها تبدو هادئة، رغم فرفرة طيور القطا، وفحيح السعالي، ودخل معهم أبْ زيد في مجادعة.
قال رجلٌ في المجلس:- سمحات السُّنون في العوين، وسمحات في البقر القرون، وسماحة الرُّجال في الدقون.
أبْ زيد قال لا، سمحات البقر أُمّات شوايل، وسمحات العوين أُمّات نفايل، وسمح الرُّجال شيّال التقيلة ود القبايل.
وسألهم أبْ زيد:- رهيف الظل ياهو شنو، وحُلو الشّم ياهو شنو، وسمح الدرب كيفنّو؟
أجابه أحدهم: رهيف الظل ياهو التبلدي، وحلو الشّم هي الخُمرة، وسمح الدرب ياهو درب الجُّمال.
أبْ زيد قال لا، رهيف الظل المرأة مستورة الحال، وحُلو الشّم هو الطفل الرضيع، وسمح الدّرِب درب الرُّشاش.
ثم التفت إلى ابنه يوصيه:- يا ولدي، البِحَقِر بي قليلو، كتير الناس ما بيزيدو، والمال ودارو ساهِل، وجمْعو صعيب، زي حفر البير بالإبر، في الحجر القاسي.
أبْ زيد، زعيم الهلالية، ينتهي نسبه إلى أحمد المعقور جِد الفور، سمي أحمد بالمعقور لأن أخاه عقر رجله، بسبب امرأة.
عندما انهارات الأندلس، نزعت الهجرات العربية نحو أفريقيا، فكان بنو هلال أشهر القبائل المهاجرة لدارفور، التي دخلوها من بابها الغربي، استقر بنو هلال شمالي مليط، وزوّج سلطان الفور، ابنته خيرة لأحمد المعقور، فأنجبت له ابنه سليمان، الذي غدا سلطاناً، استقر أحمد المعقور وابنه السلطان غرب كتم، ومن هناك بسط نفوذه على عموم دارفور، سيرة بني هلال في دارفور، مثل سيل الغدران التي تتدافع وتنقطع، كيفما كان حال الخريف، يقال إن الأرض جدُبت، وجفّ العُشب، فخرج أبْ زيد في زمانه، متأبطاً سيفه، في طريقه وجد رجلين يقتتلا، فنزل من دابته، وألقى عليهما السلام، قال:- يا ناس، العَوّة في شنو..؟
قالا: نحن أُخوان وأبونا مات، ولم يترك لنا غير غنيمات لبن.. قسّم بينهما الغنيمات وصالحهما ومضى في طريقه، وبينما كان يسير في طرف الحلّال، سمع أنين امرأة تغالب دمعها.. تذكّر أُنثاه، كيف ولدت له الضّنا، وكيف عانت من أجله، حتى يكون أباً، قفل أبْ زيد راجِعاً، ففرحت به، وقالت له بين دمعٍ غزير:- سلامتك يا الحبيب، أريتو الرزق يطير..?!
لكن الدار لم توقد النار.. الدار نعَقَ بومها، ونسج عنكبوتها على الدُّوَاكْ.. قفز أبْ زيد من خِدرِها، فلم يكن أهل البادية يعلمون أين يهيم.. عاد إليها في الليل بصيدٍ من حُبار.. في اليوم التالي جاءها بقربة من لبن.. في اليوم الثالث عاد خالي الوِفاض، تذمرت في وجهه من رهق العيش..!
احتقب سيفه وحمل فأسه ودخل الغابة.. كان الغيم يربط خيوطه في الأفق.. عاد أبْ زيد إليها بسعنٍ من عسل.. كان النحل قد وخز كل جسده ولم يترك له غير عينيه.. قالت وهي تعالجه بدِلاك الطين:- وحاتك العسل بقى زي الحنضل..!
رقد أبْ زيد موجوعاً حتى كرَفَ زيفة الخريف.. عِندها هبّ واقفاً، كأنه نشِط من عقال.. دخل عليها بما تبقى عليه من طِين، ثم خرج منها إلى البِلدات وعلى كتفيه سيفه والتيراب.
أبْ زيد لا يفارق سيفه أبداً.
غداً يخضوضر العُشب ويبترد النسيم، ولسوف يغزو رهاب الغيوم..!
انت مبدع يا ولد محمد الشيخ
انت مبدع يا ولد محمد الشيخ