مقالات وآراء

في الذكرى الرابعة عشرة لاستقلال الجنوب: هل آن للسودان أن يتعلم من جراحه؟

 

مهدي داود الخليفة

في مثل هذا اليوم من عام 2011، وُلدت دولة جنوب السودان من رحم صراع طويل ودامٍ، لتطوي صفحة من تاريخ السودان الحديث وتفتح أخرى، كانت مليئة بالأمل بقدر ما كانت ثقيلة بالحزن.

انفصال الجنوب، الذي تم عبر استفتاء شعبي، شكّل لحظة فارقة ليس في مسيرة الشعبين فحسب، بل في مجمل مسار الدولة السودانية، شمالاً وجنوباً.

لكن أربعة عشر عاماً بعد هذا الحدث المفصلي، يبدو أن السودان لم يتعلم بعد الدرس الأهم: لا مفر من مواجهة جذور الأزمة الوطنية، ولا سبيل لبناء الدولة سوى بالاعتراف بالآخر، والحوار الجاد، والمصالحة التاريخية.

فبدلاً من أن يشكّل الانفصال لحظة مراجعة شاملة، انزلقت البلاد، من جديد، إلى حروب داخلية أكثر تعقيداً، سرعان ما تمددت من الأطراف إلى قلب الخرطوم. فقدنا خلالها المؤسسات، وضاعت الحدود بين السلطة والدم، وانهار النسيج الاجتماعي، وأصبح الكل عدوّ الكل في وطنٍ بدا وكأنه يتفكك على وقع الرصاص والاتهامات المتبادلة.

لقد أثبتت السنوات التي أعقبت الانفصال أن الأزمة ليست جغرافيةً فقط، بل سياسية وفكرية وأخلاقية. فبينما كان يفترض أن يدفعنا الانفصال إلى إعادة صياغة مفهوم الدولة، وتعزيز أسس الحكم الراشد، والاستماع لأصوات التهميش، عادت ذات النخب السياسية لتحكم بنفس الأدوات: الإقصاء، العنف، الشعارات الجوفاء. الانفصال لم يكن نهاية للأزمة، بل بدايةً لفصل جديد من انهيار الدولة. وهذه حقيقة مُرّة على الجميع الاعتراف بها.

اليوم، لا يعيش الجنوب سلاماً دائماً، ولا ينعم الشمال باستقرار، ولا يبدو في الأفق مشروع وطني جاد يعالج هذا الانسداد العميق. فالدولة في الشمال تآكلت تحت نيران الحرب التي دمرت العاصمة، وخلّفت مأساة إنسانية كبرى، وجعلت السودانيين يعيشون أكبر نكبة في تاريخهم الحديث.

أما الجنوب، فقد دخل في دوامة من الصراعات السياسية والقبلية، حالت دون بناء مؤسسات الدولة، ودفعت الملايين إلى هاوية الفقر والنزوح، رغم غناه بالنفط والموارد. في كلا البلدين، خذلت النخب شعوبها، وعجزت عن تقديم نماذج حكم رشيد، أو الحد الأدنى من التوافق السياسي. الآن، بعد كل هذا الخراب، تطرح الذكرى الرابعة عشرة للاستقلال نفسها كسؤال وطني مفتوح: إلى متى سنظل ندير الأزمات بالسلاح؟ إلى متى سنظل نخوّن بعضنا البعض بدلاً من أن نبني وطنًا للجميع؟ هل آن أوان أن نُخرج السودان من أسر الأيديولوجيات، والمصالح الضيقة، والانقسامات المفتعلة، ونبدأ في صياغة ميثاق وطني جديد يليق بتضحيات الأجيال؟ لقد فقد السودان كثيراً من حكمائه، الذين كان يُؤخذ برأيهم، وتُطاع كلماتهم، ويُحترم توازنهم. والفراغ الذي خلّفه غياب هؤلاء، شغله أمراء الحرب وسماسرة الخراب. لكن ما زال هناك صوت للعقل. وعلى أبناء وبنات الشعب السوداني، شمالاً وجنوباً، أن يسموا فوق الجراح، ويتجاوزوا مرارات الماضي، من أجل مستقبل وطن يسع الجميع، ويُبنى على العدل لا على الغلبة، وعلى المساواة لا على الامتياز.

في ذكرى استقلال الجنوب، لا نملك سوى أن نقول: اللهم الطف بالسودان وأهله. ونامل أن تكون هذه الذكرى، برمزيتها المؤلمة، فرصة للتأمل العميق، والمراجعة الجادة، والانطلاق نحو مستقبل لا يُعيد إنتاج الفشل، بل يؤسس لوطنٍ لا يُقصى فيه أحد، ولا يُستثنى فيه أحد، ولا يُعاد فيه تدوير الخراب.

مداميك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..