المحارب.. رواية.. الحلقة الاخيرة

خاتمة..
قلت للهميم وانا اشير بيدى الى قطعة كبيرة من اللحم اعجبتنى؛ زن لى من هذى..
شغلنى ببعض الحديث الذى كنا نتجاذب اطرافه، ورأيته يدس بين طيات القطعة التى طلبتها منه بعضا من قطع العظام وهو يقوم بوضعها فى باطن الميزان.. ظننت انه استغل غفلتى ليغشنى، وبما ان بعض الظن اثم، فقد اكتشفت خطل ظنى عندما نقدته قيمة اللحم فاصر ان لا ياخذ ولا مليما واحدا.. قلت فى نفسى مثمنا موقفه؛ هذا هو الهميم ود الضو كما عهدته، لم تغيره السنين، سماحة، وكرم، ونكران ذات.. انه كصديقه اشرف تماما.
ذكرنى موقفه هذا بامر كنت قد اعددت له منذ عشرة اعوام خلت، فقلت له بحماس بعد ان شكرته؛ اننى بصدد توثيق قصة حياة اشرف ود حامد، صديقك وبطل قريتنا الذى ترجل عن صهوة الحياة وهو لما يزل فى ريعان شبابه، واريد منك ان تمدنى ببعض الاحداث التى شهدتماها معا..
نظر الى وقد طافت بعينيه ومضة اسى، فقال ونبرة حزن دفين علت صوته؛ ذاك رجل لن يتكرر، اضاف وقد خنقت صوته عبرة وقفت فى حلقه وعيناه الواسعتان تغرورقان بالدموع، سانتظرك الليلة على العشاء.
كنت قد فكرت فى كتابة قصة اشرف بعد خمسة شهور من رحيله، وكان ذلك على ظهر شاحنة تسير بنا وسط الصحراء الواسعة اتساع رقعة مطامحى، كنت حينها متجها الى ليبيا التى عبر بنا المهربون ساحلها الى السواحل الشمالية بايطاليا التى غادرتها متجها الى هولندا حيث استقر بى المقام الذى امتد لعشرة سنوات متتالية لم اعد فيها الى البلاد الا قبل خمسة ايام فقط.
شرعت منذ وصولى الى امستردام فى تدوين بعض الذى كنت اعلمه عن اشرف، وتوغلت فى الكتابة برفق.. كنت اعتصر ذهنى لتذكر بعض الاحداث التى شاهدتها بنفسى، او تلك التى التقطتها اذناى وانا اجالس ثلاثتهم عند اجتماعهم اليومى فى بيت رمان عمة الهميم ود الضو.. استدعيت كل ما فى ذاكرتى فى ما يخص المواقف والاحداث التى واجهت اشرف فى حياته، فحضرتنى اشياء وغابت عنى اشياء واشياء.
كنت اصغرهم بثمانية اعوام، فثلاثتهم ولدوا فى العام 1972، بدأت فى حضور جلساتهم وانا لما ازل صبيا لم ابلغ الثانية عشر بعد، وقد يستغرب البعض مصاحبة صبى فى سنى لشباب يكبروه باعوام ثمانية، الا ان علاقتى الحميمة بابن عمى اشرف وثقته فىَّ، وعدم ممناعة صاحبيه، شجعانى على حضور تلك الجلسات التى لم يكن لها مثيل فى قريتنا كلها.. كنت اتعجب من عمق صداقتهم وحبهم ووفائهم لبعض، واستغرب ويستغرب غيرى للآصرة المتينة التى ربطتهم، لا سيما وهناك تباين ظاهر بين اشرف وصاحبيه، فاشرف يتسم بالاستقامة، والجدية، والميل الى الصمت، عكس صاحبيه الذان يتسمان بالاعوجاح، والنزق، والميل الى الافصاح عن مكنون نفسيهما دونما حياء او وجل.. لا يذكر احدا فى قريتنا انه رآى احدهم يسير على انفراد.. كانوا يذهبون الى المدرسة سويا، ويؤوبون منها بصحبة بعض.. يستذكرون دروسهم معا.. واى بيت من بيوت احدهم هو بيت للآخَرَيْن، باختصار ان ابطالنا اشرف، والهميم، ومتوكل، كانوا كالجسد الواحد، الامر الذى جعل احد معلميهم يطلق عليهم لقب الفرسان الثلاثة تشبيها لهم بابطال قصة الاديب الفرنسى الكسندر دوماس ( بروتوس وآتوس واراميس ).. كنت انتظر حلول المساء على احر من الجمر لاستمتع باسمارهم التى تجعلنى اسبح فى عالم واسع من الخيال مع قصص الهميم الشائقة، ومنطق متوكلوف وتعليقاته الساخرة، وحلاوة حديث ابن عمى اشرف الذى يتقطر حكمة.. كانوا يتوافدون فى بداية المساء، وتستمر جلسة سمرهم الى ما بعد العاشرة، وفى بعض الاحيان يمتد بهم الحديث، فتستمر جلستهم حتى منتصف الليل خصوصا فى الليالى المقمرة.
كان فى كثير من الاحيان يحضر جلستهم تلك بعض شبان الحى ممن يماثلونهم فى العمر، مثل عمران النجار، ونوح الطموح- كنى بالطموح بسبب انه سئل ذات مرة عن ما هى امنيتك؟، فرد ببلاهة؛ ان ارى الخرطوم- ومن يومها اطلق عليه لقب الطموح تهكما وسخرية، ايضا يحضر جلسة سمرنا الفريدة كل من الخضر ود الاحيمر الذى لاحظت ضيق الهميم ومتوكلوف من وجوده بينهم، وداوود ود عبد الكافى صاحب دكان الحى الذى ياتى عادة بعد ان يغلق محله عند العاشرة او ما قبلها بقليل، وكنا دائما ما ننتظر مجيئه بفارغ الصبر، فقد اعتاد ان ياتى ومعه شيء من التمر والفول السودانى واحيانا بعض قطع الباسطة التى لم تجد حظها من البيع، باسثناء داوود ود عبد الكافى لم اكن ارتاح لوجود اى واحد بيننا من الذين ذكرتهم، فعندما ينضم هؤلاء الى جلستنا يقتصر الحديث، اما فى السياسة، والذى يكون بطلاه متوكلوف والخضر ود الاحيمر الذان لا يتفقان ابدا، واما يدور محوره فى امور الزراعة؛ نجاحها.. فشلها، او السخرية والضحك من نوح الطموح.
اذكر فى احدى ليالى مارس من العام 1997 تاخر علينا متوكل كغير عادته، إذ كان دائم الحرص على ان يكون اول الحاضرين، فهو الضلع الثالث لمثلث الصداقة الذى جمع بينهم منذ التحاقهم بالخلوة، وهنا دعونى احدثكم عن ذكائهم الوقاد، فقد حفظوا القرآن قبل ان يبلغوا سن العاشرة، وكانوا يتبادلون المرتبة الاولى بين ابناء دفعتهم منذ التحاقهم بالمدرسة وحتى نهاية تعليمهم، ولعل ذلك كان القاسم المشترك الذى جمع بينهم، مضافا اليه كرمهم وسماحة نفوسهم.. اقلقنا تاخر متوكلوف ، الساعة الآن التاسعة وضلع المثلث الثالث لا يزال غياب، ازداد قلقنا، فقال الهميم بنبرة حملت توتره: لنذهب اليه فى منزله.
نهض ثلاثتنا، انا والهميم واشرف وتوجهنا نحو منزل متوكلوف الكائن عند بداية منحنى النهر فى الجهة الشمالية الشرقية للقرية، كنا نسير وجوما الى ان بلغنا وجهتنا.. طرقنا الباب وانتظرنا قليلا ريثما فتحت لنا جدته لامه زينب بت جار النبى الباب، كانت فى العقد الثامن من عمرها، بصم عليها الزمان بحدثانه حتى احالها لما يشبه هيكلا عظمى نُفخت فيه الحياة، وهى التى قامت بتربية متوكل بعد وفاة امه بعد ميلاده بشهرين، القينا عليها بالسلام، فردت علينا التحية، واردفت بنبرة حزينة؛ تفضلوا..
سالها اشرف بنبرة قلقة؛ اين متوكل؟ واستطرد لم نره منذ البارحة.. اين ذهب؟..
تنهدت بعمق ثم قالت، ذهب معهم..
تدخل الهميم بنفاد صبر؛ من هم اولاء الذين ذهب معهم..
ـ لا ادرى .. قالتها بمرارة، ثم اردفت العجوز بغضب؛ الساعة الثالثة صباحا وبينما كنا نيام اذا بى اسمع طرقا ملحا على الباب..
– ومن ثم.. تدخل اشرف وهو ينظر الى العجوز باشفاق..
– نهض متوكل وفتح لهم الباب، وبعد قليل دخل علينا خمسة اشخاص، قاموا بتفتيش البيت عنوة رغم تصدى متوكل لهم، وبعد ان فشلوا فى ايجاد شيء سمعتهم يتحدثون اليه بغضب، كنت اقف بعيدا عنهم، لم افهم فيم كانوا يتحدثون، فى البدء حسبتهم لصوصا، فسالت متوكل عم يريد هؤلاء اللصوص؟ فأجابنى بانهم افرادا من جهاز الامن جاءوا لاعتقاله.
غاب متوكل ثلاثة ايام، ليظهر بعدها فى حالة مزرية، إذ كانت آثار الضرب والتعذيب ظاهرة فى كل شبر من جسده النحيل.
كان اكثر الثلاثة ظرفا، واغزرهم علما وثقافة، وكان اكثرهم اهتماما بالسياسة، وكان مهموما بقضايا المساكين والمهمشين، ولهذا السبب كان انضمامه للحزب الشيوعى.. درس القانون بجامعة الخرطوم، وهناك ظهرت ملكاته الخطابية بعد انضمامه للطلاب الديمقراطيين ? واجهة الحزب الشيوعى- كان من النشطين القلائل الذين سببوا صداعا دائما لمنسوبى الحكومة فى الجامعة، الامر الذى تسببب فى تجميد دراسته اكثر من مرة..
كانت رابطة طلاب القرية بالجامعات والمعاهد العليا قد اقامت فى تلك الليلة التى اعتقل فيها حفلا تم فيه تكريم الخريجين الذين كان من بينهم متوكل.. كان حفلا استثنائيا حضره كل اهل القرية، وفى ختامه امسك متوكلوف بالمائك وبدأ هجومه على الحكومة ومنسوبيها ومن لف لفهم، تحدث عن الفقر، والتهميش، والمدارس الآيلة للسقوط وتكدس التلاميذ داخل الفصول، تحدث عن الجوع والجهل والامراض المزمنة التى فتكت بالناس، تحدث عن الحرب التى راح ضحيتها شبابا كان يمكن ان يشاركوا فى تنمية البلاد وعمرانها، ختم متوكل حديثه بان حرض الناس على الخروج ليطالبوا بحقوقهم.
بلغ حديثه معتمد المحلية، فبعث اليه بتلك القوة من افراد الامن التى قامت باعتقاله..
بعد اسبوع من تلك الحادثة فقدت جلسة سمرنا احد اهم اعضاءها، فقد كان متوكلوف ملحها خصوصا عندما يكون فى حالة سكر.
قلت للهميم ونحن نتناول طعام العشاء وسط حوشه الرحب؛ سمعت ان متولكوف صار معتمدا لاحد المحليات البعيدة عند عودته للبلاد بعد اتفاق نيفاشا..
– نعم.. وتزوج باحدى موظفاته ذات الاصول الجنوبية.. قالها الهميم ضاحكا، ثم اردف لم ترق له الحياة فى السودان بعد انفصال الجنوب، فهاجر فى اواخر العام الماضى الى استراليا.
– هل زار القرية فى فترة وجوده بالبلاد..
– زارنا اكثر من مرة، وفى احداها مكث معنا قرابة الشهرين، كان ذلك قبل ثلاثة سنوات.. تنهد الهميم واضاف بحزن كانه تذكر ايام صداقتهم؛ لقد تبرع بنصف المبلغ الذى بنى به المسجد الجديد..
طاف بذهنى فسقه، وشبهة انضمامه للحركة الشعبية، والكثير الذى كنت اعلمه ويعلمه الهميم عنه، فصحت غير مصدق؛ ايعقل ان متوكلا فعل ذلك؟.
رمقنى بنظرة نارية وردد بغيظ.؛ لا تنسى ان متوكلا من حفظة القرآن، قال ذلك واستطرد؛ متوكل كان اكرمنا، واكثرنا سماحة ولطفا.
قلت له بعد فراغنا من العشاء، وكان قبلها قد جاءنى باوراق دون عليها اشرف بعض ذكرياته؛ متى دون اشرف هذه المواقف والذكريات؟
– على فراش الموت..
– ومتى وقعت فى يدك؟
– سلمنيها بنفسه، قبل موته بساعات..
تذكرت ان الهميم كان بجانب صديقه عندما فاضت روحه، فقد زاره فى ذلك اليوم العصيب، وبقى بجانبه الى ان رجع مع جثمانه.. حارنى موقف ابن عمى فى هذه الجزئية، فقلت له لماذا انت بالذات؟ واردفت، لماذا لم يقم بتسليمها لشقيقه احمد مثلا.
اجابنى بحزن؛ ربما ارادنى ان ازيد فيها شيئا غاب عنه، قال ذلك ثم اضاف بثقة؛ لم يقلها صراحة، ولكننى قرات سور الرجاء فى عينيه.
قلت للهميم ود الضو (الجزار ) الذى بدأ الشيب يغزو فروة راسه، وانا اقوم بوداعه بعد ان امضيت معه ليلة ممتعة اجتررنا فيها كل ما مضى من ذكريات: فى تقديرك، من قتل اشرف؟
ـ قتلته الفئة الباغية..
ـ ومن هى الفئة الباغية فى ظنك؟
– هى التى قتلت اشرف.. مد الى بيده قبل ان يهُبَّ واقفا وهو يردد ببغض فى عبارته تلك ، وعيناه الواسعتان ساهمتان الى المصباح المثبت على الجدارن الخارجى للغرفة، وقد كانت تبرق غضبا وبغضا وحنقا.
هشام الصافى عبد الكريم.
امستردام..
فى التاسع والعشرين من سبتمبر
[email][email protected][/email]2013

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..