أقارب ولكن عقارب

(ينابيع)

أيام قليلة تبقت وتتوارى عن الأنظار وتختفي من الأطالس أجمل رسمة، وتحل الظلمة وتزيل عنا البسمة، أكاد لا أصدق بأننا لن نسمع كلمة (المليون) ميل مربع ثانية، لن نسمع أكبر دولة عربية وافريقية، لن نسمع القطر بحجم القارة وشبهها في الشكل، وهي بالطبع كارثة في التاريخ قبل الجغرافيا..
طرفا نيفاشا، ولا أريد تسميتهما (شريكا الاتفاق)، لأن الاختلاف أقرب.. والشراكة دائماً تكون في الخير، والانفصال شر لابد منه، هل كانا يعيان قبل خمسة أعوام بما يحدث الآن ولو بنسبة واحد المائة؟!.. هل يحق لشخص أو شخصين أو ثلاثة أو عشرة، هل يحق لحزبين وحتى خمسة، مهما كان وزن الأشخاص والأحزاب، أن يقرروا مصير شعب ويغيروا خريطة بلد؟!.. ألم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وما نحن فيه من ورطة؟! أين دور المستشارين والمساعدين والوزراء والولاة ونوابهم الكثر؟، ما لم يستطع أحدهم أن يرفض هذا العبث؟!..
ماذا نقول للأجيال المقبلة عن السودان القديم؟ وكيف ومتى نعلمهم الرسم الجديد لوطن تليد؟!..
كان هناك أكثر من حل للانفصال، كان يمكن ألا يضم الاتفاق بين طياته هذه الكلمة الموحشة، كان يمكن أن يكون التصويت لشعب السودان كافة، لأن الشراكة تعني قبول كل طرف بالآخر، كيف تسمى شراكة وقد يحدد مصيرك غيرك عنوة من دون رضاك؟!.. إن أي اتفاق لا يعمل على تفادي المسالب فهو اتفاق أعرج بل كسيح، والانفصال أكبر وأخطر هذه السلبيات، التسويف لدى السودانيين عادة وليس سمة تميزنا عن الآخرين، منذ صغرنا، الندوات والمحاضرات والأعمال الدرامية والتنوير لوحدة جاذبة لم تبدأ إلا قبل أشهر من التصويت!!..
إذا حدثت المعجزة وجاءت البشارة السارة بالوحدة فإن بترول الجنوب لكل السودان، وإلا فلتهنأ الجزيرة بقطنها (الذهب الأبيض)، والقضارف بـ (سمسمها)، ونهر النيل بـ (ذهبها) الحقيقي، والشمالية بـ (كوادرها) البشرية.
كثيراً ما نسمع من مسؤولين كبار وإعلاميين مخضرمين كلمة (استقلال) الجنوب، بدلاً من (انفصال)، وهذا خطأ فادح وكبير، لأن الجنوب لم يكن يوماً مستعمرة من الشمال وهم أخوة كرام، فإذا كان من السهل تقسيم الأرض فمن الصعوبة تقطيع الأوصال والأرحام، فكيف نفصل الابن عن والديه واخوانه واخواته وأجداده وأعمامه وأخواله وعماته وخالاته؟!..
صغيري العزيز عبدالعزيز رشقني بأسئلة صعبة ومحيرة (ليه يقسموا السودان؟، الخريطة كده حتبقى “شينة”، مين اللي عاوز يفصل السودان؟، ولو في واحد متزوج من الجنوب حيطلق زوجته؟.. وحيسموا الجنوب أيه).. وقفت عاجزاً تماماً عن الرد المقنع، وسكت عن الكلام المباح، وتذكرت حينئذ فقط هل (نيفاشا) حوت على أحقية الاسم؟، وهنا اقترح بأن تكون قسمة الحروف عادلة ومنصفة وبالتساوي، كأن تسمى دولة (سود)، والأخرى (دان) واعتبار الـ (د) حرفاً محايداً..
مرت عقارب الساعة المسرعة، وانتهت الأعوام الخمسة، آمل وأدعو الله، وأتمنى من القلب أن نظل أخوة متحابين في الحالتين، وألا يكون الأمر الغالب أن يلدغ بعضنا بعضاً حتى لا نكون أقارب كالعقارب!!..
أخيراً (وقع الفأس في الرأس)، وأصبح السودان والحلم الجميل مجرد ذكرى وكابوس (وماذا يضير الشاة بعد ذبحها)؟! فضاعت كل الفرص وانتهت كل الأشواط الأصلية والإضافية بنتيجة سلبية، وستستمر الركلات الترجيحية طويلاً حتى ينقذنا أولادنا أو أحفادنا ويحرزون هدف الوحدة والعودة.
** بعد ثلاثة أعوام ونصف العام من (ارسو على بر)، نشرت هذا الموضوع بجريدة (الحياة) السعودية بعنوان (.. وأخيراً وقع الفأس في الرأس) قبل أيام قلائل من تصويت الجنوبيين لتقرير مصيرهم دون مشاركة الشماليين، ومحلك سر لا حراك من ذلك الوقت، ولهم عيون لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.. أطفالنا الذين لم يبلغوا الحلم توقعوا بما يمكن حدوثه حال الانفصال.. إذا كنا نخاف في الدولتين أن نكون أقارب كالعقارب، وحينها كان البرء من السموم واندمال الجروح متاحاً إلى حد ما، فالخوف الآن بيننا أكبر في السودان الواحد وفي القبيلة الواحدة والأسرة الممتدة والصغيرة وداخل البيت الأصغر، وأخوة البطن الواحد، وحكاية (الدم عمره ما يبقى مويه) انتهت وأصبحت مويه و(عكرة) وقصة دم ولحم وعظم في الطريق إلى الزوال وبدل العقارب ستحل الكوبرا والأفاعي والثعابين السامة.. إنه زمن العجائب!!.. عشنا وشفنا فيك يا دنيا..

محيي الدين حسن محيي الدين
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..